وللنساء نصيبٌ من حكايا الخليج
تاريخ النشر: 17th, February 2024 GMT
عندما شرعتُ في كتابة هذه السلسلة من المقالات، كنت أرتجي أمرين رأيتُ أنّهما على قدر كبير من الأهميّة، الأمر الأوّل أن ألفتَ نظر الباحثين، وخاصّة منهم أصحاب الفقْر البحثي، إلى مسارٍ في النظرِ في الرواية نقدًا وتأريخًا واختبارًا، وإلى ضرورة إحداث تراكم نقدي جزئيّ قُطريّ، يُمكّن الدارس الجدّي من تجميع هذه الأجزاء في مسارات بحثيّة كُبرى، والأمر الثاني هو ضرورة إغناء النشاط النقدي بما يُواكبُ نشاطًا في الإنتاج الروائي ملحوظًا، لم يقدر النقد في الخليج أن يُتابعه، ولا أن يؤصّله، ولا أن يقول للمحسن أجدت وللمسيء أسأت.
تتمثّل في أنّ الكتابة النسائيّة تتركّز في الصفّ الأوّل من صفوف كُتّاب الرواية، فأسماء مهمّة قد لمعت في هذا الفضاء، وتركت أثرًا بيّنًّا. وإشكاليّة الكتابة النسائيّة أو النسويّة أو كتابة النساء تطرح عددًا من الأسئلة في حديث الأدب، فهل أنّ ظاهرة الكتابة النسائية مرتبطة بالقضايا النسويّة التي تُطرَح في المجال الحقوقيّ الكوني؟ وهل أنّ للنساء خطًّا في الكتابة خاصًّا يتميّز عن خطّ الكتابة الرجاليّة؟ ولِمَ وجب أن نُفرد الكتابة النسائيّة بباب من المباحث دون أن نثير في المقابل الكتابة الرجاليّة، وهو مقتضى منطقيّ لتمام المعادلة؟ ثمّ هل كتابات النساء في الخليج يُمكن أن تحقّق فرادة على الكتابة على المستوى العامّ أو على مستوى الكتابة النسائية كونيًّا وعربيًّا؟ وأخيرًا كيف يُمكن أن نتعقّل هذه الصدارة التي احتلّتها المرأة الكاتبة للرواية في خليج العرب؟لا ريب أنّ للمرأة الخليجيّة وفرةً من الحكايات قد تفوق ما يُمكن أن يكون لغيرها في بقيّة العالم، ولا ريب أيضا أنّ للمرأة الخليجيّة أحداثًا في واقع حياتها يُمكن أن تكوّن تراكمًا حكائيًّا،
ولكن هذا كلّه ليس الوجه الأصدق لتصدّر حكايات النساء المشهد الخليجي، وليس لي حقيقة جواب بيّن قاطع في هذا الشأن، وإنّما يُمكن أن أتلمّس بعض العلل والأسباب، لعلّ أهمّها، أنّ المرأة العربيّة هي عنصُرٌ حكّاءٌ في طبيعتها، وقد كانت الجدّة شهرزاد نموذجَ التوليد الحكائيّ والتوسّل بالقصص لأجل النجاة والإنجاء من الموت، الحكايةُ دومًا هي سبل النجاة من الموت، هي نوع من التطهّر، هي مقاومةٌ لواقعٍ آسرٍ، الحكايةُ هي المجال الفسيح لصناعة عوالم ممكنة رحبة، ارتادتها المرأة عندما يضيق الواقع عن فسح المجال للحياة، وقد عبّر السيّاب في أنشودته الشهيرة عن صورة المرأة الحاكية بقوله: «وهي المفلية العجوز وما توشوش عن (حزام)/ وكيف شَقَّ القبر عنه أمام (عفراء) الجميلهْ/ فاحتازها إلا جديلهْ/ زهراء، أنت أتذكرين/ تنورنا الوهاج تزحمه أكف المصطلين؟/ وحديث عمتيَ الخفيض عن الملوك الغابرين؟/ ووراء بابٍ كالقضاء/ قد أوصدته على النساء/ أيدٍ تُطاع بما تشاء؛ لأنها أيدي رجال/ كان الرجال يعربدون ويسمرون بلا كلال/ أفتذكرين؟ أتذكرين؟/ سعداء كنا قانعين/ بذلك القَصَصِ الحزين؛ لأنه قصص النساء/ حشدٌ من الحيوات والأزمان، كنا عنفوانُهْ».
في أقطارٍ عديدة من العالم الخليجي، كانت ثورة النفط وثروته ناقلا لحياةٍ أسوأ ولضيقٍ أشدّ، وهو مسلكٌ أنتربولوجي حضاري، وجب أن تتوفّر فيه دراساتٌ مبينةٌ عن هذا التحوّل الذي منح الرجل مالا وجاها للسفر والتمتّع والتنقّل، ومنح المرأة ثراءً داخل جدران البيت، وهنا مجالٌ أيضًا للبحث الحضاري تمايزًا لحريّة المرأة في بادية العرب ولأسْر المرأة في بعض الحواضر. لم تكن مرحلة السبعينيّات والثمانينيّات بالمرحلة الأزهر للمرأة في أغلب أقطار الخليج، وهي المرحلة التي شكّلت جيلا أبدع روائيّا في التسعينيّات وفي مداخل الألفية الثالثة، أسماء مثل: بدرية البشر، جوخة الحارثي، ميسون صقر، رجاء عالم، بدرية الشحّي، بثينة العيسى، هدى حمد، وغيرهن ممّن كان لهن عميق الأثر في ترسيخ الرواية الخليجيّة. لقد صنعت المرأة الحاكية عوالم بديلة عن عالم الرجل، ويحقّ لها أن تنفرد ذاتًا مخصوصةً تؤسّس لكيانٍ روائيّ مستقلّ، فعوالم الرجال في الخليج العربيّ تتباين عن عوالم النساء، ولا يلتقيان إلاّ في كون الإنسان،
وفي قضايا الإنسانيّة الكبرى، في حين أنّهما يُشكّلان كيانين متغايرين، بقيت صُورة المرأة في ذهن الرجل هي حمّالة الإثم، حِمالة شيطان، تحتاج إلى التخفّي لا إلى التجلّي، ومهما سادت لافتات الحريّة، فإنّ في العمق النفسيّ والتاريخيّ للرجل إيمانا بالرجولة وتوجّسا من إثم المرأة، وهذا الأمر حقيقة يحتاج إلى دراسة مبينة عن تصوّر الرجل للمرأة، وعن الفوارق في طرائق تربية البنات والذكور. لقد نبتت في هذا الفضاء المرأة الحاكية، التي لا تتوق إلى الحريّة في مفهومها الغربيّ ولكن أحيانا تحتاج إلى المعاملة العادلة، تحتاج إلى استرجاع الماضي التحرّري للمرأة العربيّة التي كانت سيّدة نفسها، ولقد أبانت بدريّة الشحّي في روايتها المؤسّسة «الطواف حيث الجمر» هذه النوازع إلى التحقّق، إلى الوجود، وهي نوازع محكوم عليها بالفشل والانتهاء خيبةَ مسعى، «زهرة» شخصيّة الرواية، مثّلت صورةً لوعي نسويّ لا يُمكن أن تعبّر عليه إلاّ المرأة، المرأة التي بدت في أغلب الروايات النسويّة محكومة بسلطة المجتمع، وبسلطة القبيلة وبأهواء الرجال،
المرأة التي بدأت تُدرك أنّها كيانٌ حقيق بالوجود، فرغبت في التحليق، وتحقيق كونها، ولذلك كانت «زهرة» تقول: «كان كل ما أردت هو أن أطير في السماء، أن ألقي السلاسل كلها في زرقة البحر وأن أحلّق منفردة في السّحاب وخلف عالم الشمس، أن أصبح جديدة فريدة تمامًا، عالمي حرّ ووطني أخضر». المرأة أيضا تنفرد بمنظور يخصّها، وهي صاحبة التفاصيل، تنجذب عينها إلى ما لا يُمكن أن يلحظه غيرها، وهو باب مفتوح لدراسة منظور المرأة للأشياء وللكائنات من حولها في الرواية. أخيرًا لا يُمكن أن نتعامل مع رواية المرأة في الخليج، تمييزًا وإعلاء؛ لأنّها فقط داعية حريّة، بل وجب ألاّ نضع قياس الجرأة وخوض مواضيع صعبة التناول خارج دائرة التقويم النقدي، فالمرأة ليست من ذوات الأظافر، ولا يُمكن أن نسم أدبها بهذا الميسم، وإن كان صاحب التوصيف يُدافع عن المرأة، على شاكلة ما كتب محمد فوزي «أدب الأظافر الطويلة».
محمد زروق – جريدة الخليج
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: فی الخلیج تحتاج إلى الخلیجی ة المرأة فی ة المرأة ة التی
إقرأ أيضاً:
تأملات في الكتابة عن العبقرية
في إحدى زياراتي إلى شارع المتنبي، أهداني صديقٌ كتابًا مترجمًا عن ليوناردو دافينشي، من تأليف والتر إيزاكسون وترجمة محسن بني سعيد. فأثار فضولي: كيف يمكن لمؤلفٍ أن يعالج شخصية موسوعية بحجم دافينشي دون الوقوع في شرك الإعجاب المبالغ فيه؟
إنّ التصدي لكتابة سيرة رجلٍ تُجمع الألسن على عبقريّته مغامرة قد تجرّ إلى درك التمجيد. فالتاريخ حافل بسِيَرٍ تحوّلت فيها الشخصيات إلى رموزٍ معصومة، بعيدًا عن التناقضات الواقعية. ولعلّ كتاب جورجيو فازاري حياة الفنانين «1550» مثال على الهالة الأسطورية التي أُضفيت على عمالقة النهضة، ما يفسّر جزئيًّا الأسعار الخيالية لأعمالهم اليوم، كبيع لوحة سلفاتور مندي المنسوبة لليوناردو بقيمةٍ قاربت 450 مليون دولار.
يعتمد إيزاكسون في كتابه منهجًا يجمع بين التأريخ والتحليل، متتبعًا أعمال ليوناردو ومشاريعه، من رسومٍ ولوحاتٍ وصولًا إلى ابتكاراته الهندسية. يُضيف بذلك بُعدًا علميًّا يبني على أحدث الاكتشافات، مثل نسب والدته الحقيقي، واكتشاف لوحة مبكرة للقديس سباستيان في مزادٍ فرنسي عام 2016، إلى جانب تحليلٍ بالأشعة تحت الحمراء يكشف عن فروقٍ بين نسختي عذراء الصخور. ويؤكّد المؤلّف أيضًا أنّ حقبة النهضة كانت زمنًا للعمل الجماعي، حين تلاقحت المواهب في ورشٍ مشتركةٍ تحتضن العقول المتقدة، فلا تكون العبقرية حِكرًا على فردٍ بعينه.
وقد جاءت سيرته أشبه برصد متحمّس لكل مشروع تبنّاه ليوناردو، لا بوصفها تأريخًا لحياته فحسب، بل استقصاءً لرحلة إبداعه. وليس في ذلك مأخذ، بل يُحمد للكاتب أنه يضع بين يدي القارئ أحدث ما توصل إليه الباحثون المعاصرون، من إثبات نسب والدته الحقيقي، إلى الكشف عن لوحة مبكرة للقديس سباستيان عُثر عليها في دار مزادات فرنسية عام 2016، فضلًا عن تحليل الأشعة تحت الحمراء الذي كشف الفروق بين نسختي عذراء الصخور.
كذلك، لا يغفل الكاتب عن الإشارة إلى طبيعة الفن في عصر النهضة، مؤكدًا أنّ العبقرية الفردية لم تكن وحدها المحرك، بل كان العمل الفني ثمرة ورش جماعية، حيث تتلاقى العقول وتتضافر الجهود، ليولد الإبداع من روح الجماعة لا من فردية النبوغ وحدها.
ولعلّ أبرز إنجاز لإيزاكسون هو رسم صورة ليوناردو فنانًا مسكونًا بالكمال حدّ الوسواس؛ إذ ينوء تحت وطأة مشاريعه التي لا تُستكمَلُ إلا بشقّ النفس، كما في التمثال الفروسي الضخم للودوفيكو سفورزا في ميلانو، والجدارية العظمى لمعركة أنغياري في فلورنسا، وحتى مشروعه الطموح لتغيير مجرى نهر أرنو. ويخصّص الكاتب مساحةً واسعةً لتحليل تنظيرات ليوناردو حول فن الرسم، مقارنًا إياها بلوحاته الباقية. وتبرز جرأته في مخالفته بعض المختصين، كما في تفسير الإصبع البارزة في لوحة القدّيس يوحنا المعمدان في متحف اللوفر، إذ يصرّ على أنها ابتكارٌ متعمَّد. وحتى إن لم نقتنع ببعض هذه الاجتهادات، فإنّ الكتاب يبهرنا بالرسومات الملونة واللوحات المدمجة التي تُعين القارئ على تتبع أفكار المؤلّف خطوةً خطوة، ولا سيما عندما يشرح تقنية سفوماتو التي جعلت لوحات ليوناردو تنبضُ بالحياة.
لكن لهذا التركيز الشديد سلبياته؛ إذ يقع إيزاكسون في شرك الحماسة المفرطة لعبقرية ليوناردو، ويورد إشاداتٍ قد تُبخس حقَّ معاصريه وأسلافه. ففي حقبته الفلورنسية الأولى، على سبيل المثال، لا نجد تفصيلًا وافيًا لأثر جوتو وماساتشيو، اللذين أثّرَا في تطوُّر فن الرسم وشكّلا أرضيةً ألهمت ليوناردو نفسه. ولعل السبب هو قناعة الكاتب بفكرة «العبقرية الخالدة عبر التاريخ»، إذ يرى في ليوناردو مثالًا فذًّا لا يحتاج إلى إرثٍ سابق. إلا أنّ هذه النظرة قد تغفل التراكمات الحضارية والعلمية التي أسهمت في تطوّره.
وفي هذا السياق، يلمّح إيزاكسون إلى أنّ ليوناردو سبق غاليليو ونيوتن في منهج البحث القائم على الملاحظة والتجريب، لكنه يتجاهل الجذور التي أرساها ابن الهيثم وجان بوريدان وغيرهما ممن وضعوا الأسس الأولى لنظريات الحركة. وليس لأحدٍ أن ينكر سبق ليوناردو في كثيرٍ من الجوانب، غير أنّ إغفال عناصر التأثر لا يزيد الصورة إلا تشويهًا بدلًا من أن يضفي عليها وهجًا مستحقًا.
وفي القسم الأخير من الكتاب، يستشهد المؤلف بعبارة شهيرة من إعلانٍ لشركة أبل، كتبها ستيف جوبز: «الذين هم مجانين بما يكفي ليعتقدوا أنهم قادرون على تغيير العالم، هم الذين يفعلونه حقًّا». ثم يمضي في نثر نصائح تحفيزية، تُضفي على الكتاب طابعًا احتفائيًا بالعبقرية، ولو كان ذلك أحيانًا على حساب حقائق التاريخ وسياقه الأشمل.
وإن كانت هناك مآخذ على تركيز الكتاب على عبقرية ليوناردو الفردية وإغفال السياق الأوسع، فإنّه يظلّ علامةً بارزةً فيما كُتب عن هذه الشخصية في المكتبة المعاصرة.
ومن الطبيعي أن يركّز إيزاكسون على ما يراه الأجدر بالاهتمام في شخصيةٍ فذّةٍ يصعب الإحاطة بكل أبعادها في مجلدٍ واحد. ورغم أنّ الكتاب تجاوز 800 صفحة، فإنّ القارئ الحصيف سيجد نفسه مدفوعًا للبحث عن مصادر أوسع، تتيح له رؤية أشمل للفترة التاريخية التي تألّق فيها ليوناردو، وتكشف عن بيئته الثقافية والاقتصادية التي أثّرت في إبداعه.
لقد نجح والتر إيزاكسون في إماطة اللثام عن جانبٍ كبيرٍ من عبقرية ليوناردو، وإنْ كان قد اكتفى أحيانًا بمقاربةٍ تُعلي من شأن الفرد على حساب تراكمات التاريخ. وبفضل الترجمة، ينفتح أمام القارئ العربي أفقٌ معرفيٌّ ثريٌّ حول شخصيةٍ يصعبُ حصرها في مجالٍ واحد، ليكتشف، في تفاصيل السيرة، كيف كانت مخيلة ليوناردو الجامحة وراء اختراعاتٍ حلّقت بأفكار البشر إلى آفاقٍ جديدة. وإذا أيقظ هذا الكتاب في أنفسنا الرغبة في تعميق البحث واستكشاف جذور عصر النهضة وامتداداته، فقد حقّق غايته، إذ إنّ الكشف عن عبقرية فنانٍ بحجم ليوناردو ليس غايةً في حد ذاته، بل مدخلٌ للتأمّل في رحلة الإبداع الإنساني، وفي الكيفية التي يرسم بها التاريخ ملامح من يُعدّون مناراتٍ ساطعةً في مسيرة الحضارة البشرية.