محمود المسلمي.. «فيديبيدس» الـــ BBC
تاريخ النشر: 17th, February 2024 GMT
لا أدري إن كانت هذه الحكاية حقيقيَّة أم أسطورة، وهي أنه قبل نحو ألفين وخمسمائة عام من اليوم ركض محارِب يوناني اسمه «فيديبيدس» مسافة تزيد قليلًا عن أربعين كيلومترا من منطقة اسمها ماراثون إلى أثينا ليبشر أهله وأحبابه أن زملاءه المحاربين اليونان انتصروا على الفرس. وما إن فرغ من مهمته حتى خرّ صريعًا من الإرهاق والتعب.
قفز فيديبيدس هذا إلى ذهني مباشرة بعد سماعي صباح الخميس الماضي النبأ المحزن عن رحيل الإعلامي المصري محمود المسلمي، كبير مذيعي إذاعة الــ BBC بعد سنة واحدة فقط من توديعنا إياها بصوته هو تحديدا؛ والذي كان آخر ما نسمعه منها متحدثًا عن «وضع النقطة الأخيرة في السطر الأخير من تاريخ إذاعة الـ BBC»، واصفًا إياها بــ«اللحظة الصعبة، وهي صعبة علينا جميعًا». وأذكر أنني سألتُه - في حوار لإذاعة سلطنة عُمان - قبل أيام فقط من هذا الظهور الأخير في إذاعته الأثيرة: «كيف تلقيتَ خبر إيقاف البث العربي لإذاعة الـ BBC؟» فكانت إجابته: «...تلقيته بالصدمة ومزيج من الحزن الشديد والرفض، وعدم القبول للمعطيات التي قيلت -...- كان القسم العربي بالنسبة لي هو بيت العائلة المفتوح على الدوام، فكيف إذا جئتَ من سفر مع أولادك وتطرق باب بيت العائلة وكلك شوق لتجد تاريخك وتاريخ أصدقائك وأهلك فتجده مغلقًا!».
أقول إن هذا الرحيل المفاجئ لمحمود المسلمي فجر داخلي أسئلة كثيرة أهمها: هل تأدية الدور على وجهه الكامل يعني النهاية؟ أن يعيش المرء للحظة معينة تتوِّج وجوده، وتصبح أيامُه بعدها فائضة عن حاجة الحياة؟ هل صحيح ما زعمه الشاعر الحكيم: إذا تمَّ أمرٌ بدا نقصُه / ترقَّبْ زوالًا إذا قيل تم؟ هل ارتباط المسلمي في الحياة بإذاعة الـ BBC كان عليه أن يستمر في الموت أيضًا؟ بعبارة أخرى: ألم يكن تصدُّرُه مشهد الإعلان عن موت أعرق إذاعة عربية - وهو أحد أهم رموزها الدالة عليها - كان إيذانا بموته هو كذلك؟ أظنه أجاب عن هذا السؤال في حياته حين قال في حواره لجريدة عُمان قبل ست سنوات من رحيله: «باختصار شديد أستطيع القول إن الميكروفون هو حياتي بمعنى الكلمة».
لم يكن (فيديبيدس الــ BBC) يشعر بالانتصار لحظة وصوله إلى الجمهور العربي في الساعة الواحدة ظهرًا بتوقيت جرينتش من يوم الجمعة 27 يناير 2023، مُنهَكًا ليبلغهم النبأ الصادِم. وليس هذا هو الفرقَ الوحيد بينه وبين فيديبيدس اليونان؛ فأثينا كانت منتصِرة، أما إذاعة الــ BBC فكانت تتجرع مرارة الهزيمة. غير أن المسافة التي بلغها المحارِب محمود المسلمي وهو يجري في ساحات الإعلام تتجاوز الأربعين كيلومترًا التي ركضها فيديبيدس بأضعاف مضاعفة؛ إذْ بلغت نحو نصف قرن من الزمان، بدءًا من الإذاعة المصرية عام 1975، ومرورا بإذاعة صوت العرب فإذاعة سلطنة عُمان (أو الإذاعة العُمانية كما كانت تسمى أثناء عمله بها) وصولًا إلى إذاعة الـــ BBC التي قضى فيها ما تبقى من عمره. وخلال هذه المسيرة الإعلامية امتد تأثيره للوطن العربي كله، حتى عُدَّ «همزة وصل» بين المستمعين العرب من المحيط إلى الخليج، كما حلا له أن يسمي برنامجه الأشهر. لقد كان منتصِرًا كفرد بكل تأكيد، حتى وإن كانت تلك «اللحظة الصعبة» تضبّب عليه رؤية الانتصار. نظريًّا لم أكن ممن تشرفوا بالتتلمذ على يد محمود المسلمي خلال فترة عمله القصيرة (لكنْ المهمّة) في إذاعة سلطنة عُمان. فقد عمِل فيها خلال الفترة من عام 1984 حتى 1990، بينما كان دخولي الأول للإذاعة عام 1996. لكن ما لا يعرفه المسلمي أنني تتلمذتُ عليه مستمِعًا منذ طفولتي المبكرة، وأنه كان أحد أسباب محبتي وتعلقي بالإذاعة، ولقد أخبرتُه ذات مرة - خلال السنوات الأخيرة - أنني كنتُ من متابعي حلقة الجمعة من برنامج «البث المباشر» التي كانت من إعداده وتقديمه، والتي أَعُدُّها شخصيًّا «البروفةَ الأولى» لبرنامجه الذي سيشتهر به بعد سنين في إذاعة الـ BBC («همزة وصل»)، إذ تقوم حلقة الجمعة هذه على مشاركات المستمعين الكتابية التي يُرسلونها بالبريد، ومحاولاتهم الأدبية، والتي كان المسلميّ يقرأها بكل حبّ مشجِّعًا هذا المستمع، ومشيدًا بذاك، رغم بساطة ما يُطرَح فيها من نصوص. ولأنني كنتُ حينئذ مراهِقًا لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره؛ فقد سولتْ لي نفسي الأمّارةُ بالتهوُّر أن أبعث له خاطرة سجعية كان وعيي يخيِّل لي أنها قصيدة. وحتى اليوم لا أنسى ارتعاشة الفرح التي أصابتني وأنا أستمع إليها بصوته. وسأعرف فيما بعد سرّ محبة المستمعين له، حين أجاب عن سؤال الصحفية مروة حسن في - حواره لجريدة عُمان الذي أشرتُ إليه قبل قليل - عن «الحالة الخاصة» التي يشكلها له برنامج «همزة وصل» والذي بدأتْ الــ BBC بثه عام 2000م، ثم صار واحدًا من أهم برامجها، حين قال: «فوجئتُ بأن البرنامج نجح نجاحًا كبيرًا أكثر مما توقعتُ. وربما حدث ذلك لأنني أحاول باستمرار أن أعامل كل مستمع على أنه المستمع والصديق الوحيد».
وإذن، فقد رحل «صديقنا الوحيد» - نحن المستمعين - بعد عام واحد فقط من رحيل محبوبته إذاعة البي بي سي، وهذه إشارة قدرية أولى. رحل مساء الأربعاء الرابع عشر من فبراير، بعد يوم واحد فقط من الاحتفال باليوم العالمي للإذاعة، وهذه إشارة ثانية، وكان رحيله في يوم عيد الحبّ، وهذه إشارة ثالثة. وعزاؤنا الوحيد أننا سنظل نتذكره بالحب وبالامتنان الشديد، كما يتذكّر اليونانيون محارِبهم فيديبيدس.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: محمود المسلمی الــ BBC فقط من
إقرأ أيضاً:
هذه هي عصا الاقتصاد السحرية التي أخضعوا بها الشعوب
تستقبلُ العاصمة الأميركية واشنطن هذا الأسبوع اجتماعات الربيع لصندوق النقد الدوليّ والبنك الدوليّ لعام 2025، حيث يشارك وزراء المالية، ومحافظو البنوك المركزية من جميع أنحاء العالم؛ لمناقشة القضايا الاقتصادية العالمية.
وبينما تُعدّ هذه الاجتماعات فرصة جيدة لمناقشة التّحديات الاقتصادية الراهنة، والتي تشمل المتاعب المتصاعدة مؤخرًا في العديد من الاقتصادات الكُبرى، على خلفيّة فرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب حربًا تجارية على العديد من حلفائه وخصومه، لا نتوقع أن نسمع كثيرًا عن المشكلة الأكثر إلحاحًا، والمتعلّقة بإلغاء ديون الدول النامية، أو إعادة هيكلة بعضها.
وعلى مدار سنوات شهدت العديد من الاجتماعات الأخيرة، تكرار مشهد خروج الوزراء ورجال المال والأعمال من السيارات الفارهة أمام بوابات مباني مجموعة البنك الدولي وسط العاصمة الأميركية، يرتدون بزاتهم الداكنة، وتفوح منهم الروائح العطرة، بينما يترقّبهم بعض المشردين والمتسولين من حديقة صغيرة، يفصلها عن مباني البنك الدولي أمتار معدودة، وقد اعتاد هؤلاء نصب خيامهم أمام المؤسسة المالية العريقة في توقيت الاجتماعات، لتذكيرهم غالبًا بالظروف القاسية التي يعيشونها وملايين غيرهم في الدول النامية، التي تزعم المؤسسة المالية سعيها لتقديم العون لها، لمساعدتها في تحسين أوضاع مواطنيها.
إعلانويقدّم الاقتصادي الأميركي ديفيد غرايبر، الذي كان أستاذًا في جامعة ييل الأميركية وكلية لندن للاقتصاد، نقدًا جذريًا للطريقة التي تعمل بها المؤسسات المالية العالمية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، في تعاملها مع الدول النامية، حيث يرى أن القروض المقدمة منها لم تكن في تاريخها الطويل أداة اقتصادية فحسب، بل كانت في كثير من الأحيان عصا سياسية للهيمنة وإخضاع الشعوب، وهو ما اعتبره مجسدًا بوضوح في سياسات صندوق النقد الدولي في العقود الأخيرة، خصوصًا من خلال ما يسمى ببرامج التكيّف الهيكلي.
وفي كتابه عن الدَّين "Debt: The First 5000 Years"، بيّن غرايبر كيف تؤدي شروط صندوق النقد، التي تُفرض على الدول المقترضة، إلى تدمير النسيج الاجتماعي لتلك الدول، لا سيما حين يتعلق الأمر بخفض الإنفاق العام على القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم.
ورغم أنّ هذه السياسات يتمّ الترويج لها باعتبارها خطوات ضرورية للإصلاح المالي، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، فقد أثبت الواقع أنها كانت، في كثير من الأحيان، السبب المباشر في كوارث إنسانية لا تُمحى.
ومن بين الأمثلة التي أوردها في كتابه، أشار غرايبر إلى زامبيا التي اضطرت في أواخر التسعينيات إلى خفض ميزانيتها المخصصة للرعاية الصحية بنسبة بلغت 50% تنفيذًا لشروط صندوق النقد.
وأدى ذلك إلى نقص حادّ في الأدوية والأطباء، وتراجع أعداد حملات التلقيح، وهو ما تسبَّب في وفاة ما يقرب من 30 ألف طفل سنويًا لأسباب كان يمكن الوقاية منها.
وفي تلك الفترة، كانت زامبيا تنفق أكثر من 40% من دخلها القومي على خدمة الدين الخارجي، بينما كانت المستشفيات تفتقر لأبسط أدوات التشخيص، وكان المرضى يُطلب منهم شراء الشاش والمضادات الحيوية من السوق السوداء إن أرادوا تلقي العلاج.
أما في تنزانيا، فقد أدّت سياسات خفض الإنفاق التي فُرضت ضمن برنامج التكيّف الهيكلي إلى تخفيض ميزانية التعليم بنسبة 40% خلال عقد واحد فقط، وهو ما تسبّب في إغلاق مئات المدارس، وتراجع نسبة الالتحاق بالتعليم الأساسي إلى أقل من 50% بحلول منتصف التسعينيات.
إعلانوتراجعت قدرة الأسر الفقيرة على إرسال أبنائها إلى المدارس بعد فرض رسوم دراسية ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها العذاب، خاصة للفتيات. وقدّر البنك الدولي نفسه تسبب هذه السياسات في فقدان أكثر من 10 ملايين طفل أفريقي فرصة التعليم بين عامي 1985 و2000.
وفي بيرو، وهي من الدول التي خضعت لإصلاحات قاسية تحت إشراف صندوق النقد، أُجبرت الحكومة في بداية التسعينيات على تقليص ميزانية الصحة بنسبة 25%، ممّا تسبب في كارثة صحية، خاصة في المناطق الريفية، إذ تم إغلاق أكثر من 1.000 وحدة رعاية صحية أولية في أنحاء البلاد، وانخفضت نسبة التلقيح ضد الحصبة من 80% إلى أقل من 50%، الأمر الذي أدّى لتفشي المرض مجددًا وموت الآلاف من الأطفال.
يربط غرايبر في كتابه، كما في العديد من مقالاته ومحاضراته، بين هذه الكوارث وبين طبيعة النظام المالي العالمي، الذي لا يعامل الدول النامية كشركاء، بل كمذنبين يجب تأديبهم.
ويشير غرايبر إلى أن هذه السياسات صُمّمت بالأساس لحماية مصالح البنوك والدائنين في دول الشمال، على حد تعبيره، خصوصًا الولايات المتحدة، وبريطانيا، حيث تم توجيه الأموال التي أُقرضت لدول الجنوب في أغلب الأحيان إلى إعادة جدولة ديون سابقة، وسداد الفوائد المتراكمة، دون أن يستفيد المواطن العادي من دولاراتها.
ولا يكتفي غرايبر بالتحليل الاقتصادي، بل يربط هذه الظواهر بتاريخ طويل من استخدام الدَّين كوسيلة للسيطرة، ففي العصور القديمة، كما يذكر، كانت فترات تراكم الديون الكبيرة تنتهي غالبًا بإعلان ملوك تلك العصور "عفوًا عن الديون" لحماية المجتمع من الانهيار. أما في النظام النيوليبرالي الحديث، فإن العكس هو ما يحدث، إذ يتم التضحية بالشعوب من أجل إنقاذ الدين.
المفارقة التي يشير إليها غرايبر هي أن الدول الغنية التي تفرض هذه السياسات على الدول الفقيرة، مثل الولايات المتحدة، لم تكن لتنشأ أساسًا لولا إلغاء ديونها الخاصة في مراحل مبكرة من تاريخها، أو من خلال إعادة جدولة ميسّرة تم تقديمها لها في فترات لاحقة.
إعلانوفي المقابل، تُفرض على الدول النامية شروط قاسية، تجبرها على بيع أصولها العامة، وتفكيك شبكات الحماية الاجتماعية، وفتح أسواقها بشكل غير متكافئ.
فقدت القروض المقدمة من المؤسسات الدولية وبعض الدول المانحة، في صيغتها المعاصرة، أيَّ معنى أخلاقي، وتحوّلت إلى وسيلة لإعادة إنتاج الفقر والتبعية، الأمر الذي يفرض إعادة التفكير في الأسس التي يقوم عليها النظام المالي العالمي، حيث أثبتت الخبرات العالمية الأخيرة أن تحرير الشعوب لا يمكن أن يتم دون التحرر من قبضة الدائنين، ومن منطق السوق الذي يقيس كل شيء بالربح والخسارة، حتى الأرواح.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline