هذه المقالة تأتي في ثلاثة أجزاء، وهي امتداد لما كتبناه في نفس الزاوية الأسبوع الفائت تحت عنوان «تخطيط التنمية: المناطق الحرجة»، وناقشنا فيه تصورًا لأهم الاعتبارات التي يجب أن تركز عليها خطة التنمية الخمسية الحادية عشرة (القادمة)، والسياق الذي سوف تتحرك فيه. حيث نركز في هذه المقالة على حالة المجتمع في ضوء متغيراته وكيف يمكن أن تلامس الخطة القادمة الأحوال المجتمعية، وتتعامل مع القضايا الحرجة، وترسخ إطارًا للمجتمع (المستقر، الحيوي، والمتفاعل مع محيطه).

حيث الاستقرار في بناه وتشكيلاته، والحيوية في تعاطيه مع قضاياه ونقاشه الحي حيالها، والتفاعل مع المحيط انطلاقًا من حالة رسوخ الهوية دون الانكفاء، والثبات على القيم دون التقييد، والانخراط مع مجتمعات العالم في تشكيل أفكار التقدم البناءة، وتعزيز مسارات السلم والعلم والتعاضد. وبدون أدنى شك تحمل السنوات الراهنة خصوصًا بعد جائحة كورونا (كوفيد 19) نسقًا متصاعدًا من التأثيرات العالمية على المجتمعات شتى، سواء فيما يتصل بتهديد استقرار وتكوين الأسر، أو فيما يتصل بنشوء التيارات القيمية المؤثرة عالميًا وتسويقها عبر أجنحة الإعلام والثقافة، أو فيما يتصل بجائحة المعلومات المضللة والتشويه الإعلامي، أو في رهان تآكل مدخرات الأفراد والأسر نتيجة التقلبات الاقتصادية وتصاعد أزمات التضخم، وشبح دخول الاقتصادات نحو الركود الاقتصادي. ورهان التقانة وآلياتها المتطورة التي تفرض أشكالًا جديدة من (الأميات)، انطلاقًا من أمية الكلمة إلى الأمية الرقمية المتصلة بالتعامل مع الأجهزة الرقمية وتوظيفها واستخدامها، وصولًا إلى أمية الذكاء الاصطناعي التي تعنى بتعطل قدرة الأفراد على فهم واستخدام وتوظيف المعطيات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي وثورته وتطبيقاته.

وسط كل ذلك يعنينا الحالة المحلية الراهنة، وكيف يمكن للخطة القادمة فعلًا أن تتبنى برامج اجتماعية، أو برامج تلامس قضايا المجتمع تكون أكثر تأثيرًا في الحفاظ على نسيجه، ومعالجة قضاياه الحرجة، وتلمس احتياجاته، وتطوير تفاعله مع محيطه. وإذا ما أردنا ترتيب ذلك في صيغة برامج مقترحة؛ فإن هناك خمسة برامج استراتيجية ذات ضرورة قصوى - حسب تقديرنا - في السنوات المقبلة: برنامج يُعنى بـ «التمكين الاجتماعي»، وبرنامج يعنى بتمكين «الثقافة المالية»، وبرنامج يعنى بتدعيم «الاستقرار والصمود الأسري»، وبرنامج يعنى بـ «الثقافة والتمكين المعلوماتي»، وبرنامج أخير يعنى بتعزيز «المشاركة المدنية». (وقد يكون بعض هذه الموضوعات فصلنا الحاجة إليها في مقالات سابقة؛ إلا أننا هنا نريد إبراز كيف تتفاعل هذه البرامج في منظومة واحدة). فبعد صدور وهيكلة أنظمة الحماية الاجتماعية وتبيان مزاياها وآلياتها؛ أصبح لزامًا التفكير في منظومة متكاملة أيضًا تحوي برامج التمكين الاجتماعي؛ وهي البرامج التي تمكن الأسر والفئات الأكثر احتياجًا من حالة الاعتماد على المنافع النقدية المباشرة إلى حالة المكنة من توفر الدخل المناسب الذي يوازي نشاطها وخدمتها المجتمعية. هناك نماذج راهنة تقدمها المؤسسات ذات العلاقة في شكل فرص عمل على سبيل المثال للأشخاص من ذوي الإعاقة، وفي شكل منصات تخدم الأسر المنتجة وتسوق منتجاتها، وفي شكل منصات أخرى للعمل الخيري وغيرها؛ إلا أن الفكرة كيف يمكن بناء منظومة واحدة متسقة ومتكاملة ومستديمة تعمل على التشكل من خلال استراتيجيات ودعم الحكومة، وتمويل تعاضدي من القطاع الخاص والأهلي، بحيث تكون قادرة على جمع كل هذه الفرص والممكنات اتساقًا مع أنظمة الحماية الاجتماعية المتكاملة. فحتى المنصات التي تخصص للاستفادة من خبرات المتقاعدين لابد أن تندرج تحت هذا المفهوم، وفرص العمل التي توفر للفئات الأشد احتياجًا، والتسهيلات التي تعطى لبعض الفئات المجتمعية كلها تندرج تحت مفهوم واحد؛ وعليه فإن وجود هذا البرنامج/ المنصة/ المؤسسة / التشريع - أيما كان التكييف الإطاري له - يسهل في دعم استدامة ونوعية المزايا والمنافع التي تقدمها منظومة الحماية الاجتماعية.

على الجانب الآخر وبعد تشكل منظومة الحماية الاجتماعية أيضًا، والاتجاه نحو فرض أشكال ضريبية مستجدة، وإعادة النظر في بعض أشكال دعم الخدمات العامة، وضرورة تغيير بعض المفاهيم المجتمعية المرتبطة بإدارة المال؛ أصبحت قضية «الثقافة المالية» قضية محورية - ليس لفئات بعينها وإنما لكافة فئات المجتمع»، وترتقي في الآن ذاته إلى المستوى الاستراتيجي الذي يستوجب إيجاد مبادرات وأنشطة وطنية تستهدف رفع وعي الفئات المجتمعية في إطار مفاهيم (الثقافة المالية) سواء كانت (مفاهيم الادخار - الاستثمار - الاستهلاك - الإنفاق)، وهو عمل يمكن أن يتبنى بين المؤسسات المعنية بتنظيم القطاع المالي والمصرفي، بالإضافة إلى البنوك، وتعضده مؤسسات الدولة الأخرى التي تستطيع الوصول بخطابها إلى المجتمع، سواء وزارة الإعلام، أو المؤسسات المشرفة على قطاع التعليم، أو وزارة الأوقاف والشؤون الدينية حتى يرقى إلى المستوى الاستراتيجي، وينبغي أن يعدد من أدواته وآلياته ورسائله للوصول إلى المجتمع؛ سواء كان من خلال تعزيز وعي المستفيدين من الخدمات المالية والمصرفية بالحقوق والواجبات التعاقدية، أو من خلال الألعاب التعليمية الموجهة للفئات الأقل عمرًا في مؤسسات التعليم، أو من خلال خطب الجمعة، أو الوثائقيات والكرتونيات التي يمكن أن تبتكر في هذا الصدد. تعزز المنافع المستجدة للحماية الاجتماعية كذلك وخاصة للأطفال وكبار السن هذا التوجه، ويمكن أن تكون إحدى الأدوات التي تستثمرها الأسر والمربون لتعزيز اتجاهات الأفراد نحو مفاهيم الثقافة المالية في إطارها المحدود.

سنستكمل الحديث عن بقية البرامج المقترحة في الجزء الثاني من هذه المقالة الأسبوع المقبل، على أن يكون الجزء الثالث مخصصًا لآليات التطبيق المقترحة والعوائد في ضوء حركة المجتمع واحتياجاته.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الحمایة الاجتماعیة الثقافة المالیة من خلال یمکن أن

إقرأ أيضاً:

الغلاء.. قاتل التنمية ومدمر الاستثمار

أكبر التحديات التى تواجه الحكومات المتعاقبة بل وتؤثر سلبًا على الاستقرار الاقتصادى والاجتماعى، حيث يعتبر من العوامل التى تقضى على أمل المواطنين فى تحسين مستوى معيشتهم وتؤدى إلى تقليص قدرتهم الشرائية، ما يزيد من حالة الإحباط وعدم الرضا بين الناس.

فعندما ترتفع أسعار السلع والخدمات بشكل غير مبرر، يصبح من الصعب على الأفراد تلبية احتياجاتهم الأساسية، ما يؤثر بشكل مباشر على جودة حياتهم ويضعف قدرتهم على تحقيق طموحاتهم المستقبلية، الغلاء له تأثيرات واسعة النطاق تتجاوز الجوانب الاقتصادية لتشمل العلاقات الاجتماعية والترابط بين الأفراد فى المجتمع، فعندما ترتفع تكلفة المعيشة وتصبح القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية تحديًا حقيقيًا، ينتج عن ذلك ضغوط نفسية واجتماعية تؤثر على طبيعة العلاقات بين الأفراد، وتؤدى فى كثير من الأحيان إلى تدهور الروابط الاجتماعية.

الغلاء يؤثر تأثيراً مباشر على الترابط الاجتماعى، ويزيد من التوتر بين أفراد الأسرة، حيث يعانى كثيرون من ضغوط مالية تؤدى إلى توتر العلاقات الزوجية وتفاقم الخلافات الأسرية بسبب الأعباء المالية. ومع انخفاض مستوى المعيشة، قد يضطر أفراد الأسرة إلى العمل لساعات أطول أو فى أكثر من وظيفة، ما يقلل من الوقت الذى يقضونه معًا ويضعف الروابط الأسرية.

على مستوى المجتمع، يؤدى الغلاء إلى زيادة الفجوة بين طبقات المجتمع، حيث يجد الأشخاص ذوو الدخل المحدود أنفسهم فى مواجهة صعوبات مالية أكبر من غيرهم، مما قد يشعرهم بالغبن ويؤدى إلى الشعور بالاستياء والانقسام الاجتماعى. ويمكن أن تتفاقم هذه المشاعر لتؤدى إلى تقليل الثقة بين فئات المجتمع المختلفة، حيث يشعر البعض بأن هناك فئات معينة تحتكر الرفاهية وتستفيد من الأزمات.

كما يدفع الغلاء بعض الأفراد إلى البحث عن طرق غير قانونية أو غير أخلاقية لكسب المال لتلبية احتياجاتهم، مثل اللجوء إلى السرقة أو الاحتيال أو غيرها من التصرفات التى تضر بالنسيج الاجتماعى وتزعزع الاستقرار.

ومن جانب آخر، يمثل الغلاء تهديدًا كبيرًا للاستثمار، حيث إن ارتفاع تكاليف الإنتاج والمواد الخام يؤدى إلى زيادة تكاليف الاستثمار، ما يجعل البيئة الاستثمارية أقل جاذبية للمستثمرين المحليين والأجانب، فعندما يجد المستثمرون أن العائدات المحتملة لا تتناسب مع التكاليف المرتفعة، فإنهم يفضلون البحث عن أسواق أكثر استقرارًا وبتكاليف معقولة، ما يؤثر سلبًا على معدلات النمو الاقتصادى ويقلل من فرص العمل.

للتصدى لهذه المشكلة، يجب على الحكومات العمل على وضع سياسات اقتصادية تعزز استقرار الأسعار، كتشجيع الإنتاج المحلى لتقليل الاعتماد على الاستيراد الذى يزيد من التكاليف، وضبط الأسواق لمنع الاحتكار والمضاربات.

لمواجهة تأثيرات الغلاء على الترابط الاجتماعى، يجب أن تتبنى المجتمعات والحكومات سياسات لدعم الفئات الأكثر احتياجًا، وتعزز من فرص العمل، وتشجيع مشاريع تهدف إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادى، ما يسهم فى تخفيف الضغوط المالية على الأسر ويحافظ على تماسك المجتمع.

دور الحكومة فى مواجهة الغلاء يعتبر حاسمًا لضمان استقرار الاقتصاد والحفاظ على مستوى معيشة المواطنين.

وعلى الحكومات اتخاذ العديد من التدابير للتخفيف من آثار الغلاء والسيطرة على ارتفاع الأسعار والغلاء، ومنها دعم الإنتاج المحلى من خلال تقديم حوافز للشركات والمزارعين والمصنعين المحليين، ما يساهم فى تقليل الاعتماد على الواردات ويقلل من تكاليف النقل والشحن، مكافحة الاحتكار بتطبيق قوانين صارمة لمنع الاحتكار وضبط أسعار السلع الأساسية، من خلال الرقابة على الأسواق والممارسات التجارية، تحفيز التجارة ودعم المشاريع الصغيرة بتقديم تسهيلات للمشاريع الصغيرة والمتوسطة وتسهيل الإجراءات التجارية، مما يزيد من الإنتاجية ويوفر فرص عمل، مراقبة التضخم والسيطرة على السياسات النقدية وذلك باتخاذ إجراءات للسيطرة على معدلات التضخم.

بتطبيق هذه السياسات، يمكن للحكومة أن تلعب دورًا فعالًا فى الحد من الغلاء، وتحقيق استقرار اقتصادى واجتماعى يعزز من رفاهية المواطنين ويساهم فى تحسين جودة حياتهم.

 

‏[email protected]

مقالات مشابهة

  • توقيع بروتوكول تعاون بين البورصة المصرية وجامعة دمنهور لنشر الثقافة المالية
  • “السعيطي” يناقش مع وزير الشؤون الاجتماعية القضايا التي تمس الشباب
  • وزير المالية: يجب تحقيق التوازن بين أهداف التنمية والمناخ
  • الغلاء.. قاتل التنمية ومدمر الاستثمار
  • "اعرفي حقك".. ندوة بكلية الخدمة الاجتماعية جامعة الفيوم
  • وفد عُماني يطلع على التجربة القطرية في التنمية الاجتماعية
  • "اعرفي حقك" ندوة بكلية الخدمة الاجتماعية جامعة الفيوم
  • جامعة الفيوم تنظم ندوة "اعرفي حقك" بكلية الخدمة الاجتماعية
  • سالم القاسمي يؤكد دور الثقافة في التنمية المستدامة
  • سالم القاسمي يؤكد التزام الإمارات بدمج الثقافة في التنمية المستدامة