نساء غزة بحاجة للحماية والأمن والعيش في سلام
تاريخ النشر: 17th, February 2024 GMT
لم تعُد تحمل نفس تقاسيم وجهها الجميل الذي كان يشع نورًا وبهجة، لقد أكل منها الحزن وشَرِب، كابوس حلَّ على عائلتها منذ أن استشهد حسن أو كما كان يحلو له أن تناديه هي والأميرات الثلاث بـ«حسون الحنون».
فايزة فنانة تشكيلية شابّة، لديها من الطموح والعطاء والإحساس المرهف ما يميزها عن غيرها من نساء كُثُر، شاركت في العديد من معارض الفن التشكيلي على مستوى قطاع غزة مرات عديدة، كان زوجها الدكتور حسن الذي يحمل الدكتوراة في علم الاقتصاد الداعم والزوج والحبيب والجبل الذي تستند إليه مع كل عاصفة تمر بها، تعرَّف عليها داخل أروقة جامعة الأزهر أثناء دراستها الجامعية فكان الزواج هو الرباط الوثيق على سنّة الله ورسوله.
رُزِقت بالتوائم الثلاثة «مريم، ميرا وميرال» بعد سنوات من الحرمان فكان لوجودهن في حياتهما معنى زاد من رابطة الألفة والمحبة والاستقرار والترابط الأسري.
كانت تجلس وهي تحتضن الأميرات الثلاث، مذعورة وخائفة وكأن كل آلام الدنيا حطت عليها واستولت على قلبها، الدموع تجري بسرعة البرق من عيونها العسلية، تخاطب الصغيرات قائلة: «أعلم جيدا أنكن لن تفهمن شيئا مما سأقوله الآن، فالأميرات في عمر الأربع سنوات، لكنّي سأوثّق رسالتي الشفهية، لأتلوها لكُنَّ في الأعوام القادمة سأروي لكُنَّ فصلًا من فصول طفولتكن في مرحلة البستان».
بحزن عميق قالت: «بعد أحداث السابع من أكتوبر بدأت حياتنا تنقلب رأسًا على عقب في اليوم الخامس من الحرب، وصلتنا أخبار بضرورة إخلاء المنطقة والخروج من بيوتنا قسرًا، في هذا الوقت اشتد الخوف وأصبحنا في حيرة؛ أين نذهب؟! لعلنا نجد مكانا آمنا، اقترح زوجي حسن أن نذهب إلى منزل ابنة خالته، فمنزلها لا يبعد الكثير عنا لكنه أقل خطورة فالقصف عنيف في كل مكان، ذهبنا إليها واستقبلتنا بوجه بشوش لكن حسن لم يطمئن بسبب ازدياد القصف، شاورني بأن نذهب إلى والدته قائلًا: «فايزة شو رأيك نروح على الحجة أونس إلنا خلينا معها؟» وافقته الرأي وذهبنا إليها، المسافة لا تبعد الكثير لكنني من شدة الخوف شعرت وكأنها أميالٌ طويلة، أثناء طريقنا إليها حمل حسن ميرال وميرا وبدأ يسرع في خطاه على الطريق، ويقول لي: «أسرعي ما بدي يصير إشي وإحنا بالشارع، احملي مريم»، حضنت طفلتي مريم ولاحقت خطاه، وصلنا إلى المنزل وحين التقى والدته ضحك واطمأن وكأنه شعر بكل الأمن في أحضان أمه الحنونة الصابرة المحتسبة.
تواصلت مع أختي وحدّثتها عما جرى وفي اليوم الثاني تفاجأت بأن أخي محمد جاء من منطقة البريج بوسط قطاع غزة حتى يصطحبنا معه إلى هناك ظنًا أن المنطقة أكثر أمنًا، لكن حسن رفض أن يذهب «بدّيش أطلع من هان، هينا مع الحجة والحمد لله الأمور بخير»، كان هذا قراره النهائي.
ودّعتُ أخي واعتذرتُ له، بدأتُ بالبكاء وكأن كل أثقال العالم على صدري من شدة الخوف عليه؛ لأني أعلم جيدًا مدى الخطورة التي واجهها حتى يصل إلينا، لكن حسن هدّأني وطمأن قلبي بأنه سيصل بخير.
لقد كانت رغبة حسن فوق كل شيء أن يبقى مع والدته وإخوته ولا يتركهم أبدًا.
في اليوم السادس للحرب اشتدت الخطورة واتخذ جميع من بالحي قرار إخلاء المكان، توجهنا جميعًا إلى منزل صديق جميل أخ حسن في مخيم جباليا «أكبر مخيمات غزة الثمانية اكتظاظا بالسكان»، جلسنا هناك تحديدًا في شارع الهوجا، مكان حيوي جدا ومكتظ بالسكان الهاربين من حمم الطائرات التي تسقط في كل منطقة على رؤوس المدنيين، مكث حسن برفقة الرجال في الطابق الأرضي، أما نحن النساء فكنا في الطابق الأول، كان حسن كثير الاطمئنان والسؤال عن البنات في كل وقت قائلًا: «حبيبات بابا شو بيعملوا؟ أميرات بابا أكلوا؟ شو شربوا؟ بدهم إشي؟» هذا هو حال حسن؛ كان كثير السؤال عليهن وكان يأتينا في الطابق الأول ليطمئن عن حالنا ويتفقّد ما يلزمنا، كنت دائمًا أتناقش معه وأردد سؤالي له «مطولة الحرب يا عيني؟» يبتسم كعادته ويرد: «أووووووه مطوّلة كثير يا فايزة».
كان يحادثني في المساء من الطابق الأرضي عبر الواتساب، أشكو له خوفي وقلة حيلتي من القادم، كان يُهدئني بآية قرآنية «ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين».
كنت أخاف كثيرا وأدعو الله كل ليلة «يا رب ما توجع قلبي على حدا، يا رب حسن وبناتي في رعايتك وحفظك» وكان حسن يخفّف عني بحديثه الذي لا يُمل وأحلامه التي يخططها لمستقبل أميراته «بناتي بنات عز ودلال أميرات بابا»، كان دائما يلبي كافة احتياجاتهن مهما كلفه الثمن.
مرّت الأيام، لا شيء جديد فيها سوى حجم الدمار الهائل الذي خلّفته هجمات الطائرات الحربية والمدفعية والبوارج البحرية، إضافة إلى ارتفاع أعداد الشهداء والجرحى والمفقودين.
في اليوم التاسع والعشرين للحرب كان يوم السبت، تاريخ 2023-11-4 بعد تناول وجبة الغداء طلبت من حسن أن أذهب إلى السوق لأوفر مستلزمات المطبخ وبعض المواد الغذائية، وافق حسن كعادته فهو لم يرفض لي طلبا، لكن سرعان ما قطع حديثي قائلًا: «بدي أعطيكي تجيبي للبنات أواعي ولو شو ما كان السعر اشتري لهن. حكيتلو: حاضر»، واستكمل حديثه: «جيبي إلي جاكيت على ذوقك يا غالية».
اتفقنا بعد صلاة العشاء أن أُعدّ له فنجان قهوة وأُنزِله إليه في الطابق الأرضي.
بدأ أذان العشاء وفي الساعة 6:36 م اهتزت الأرض وأصبحت النيران في كل مكان والدخان يكتم أنفاسنا، صرخت بصوتٍ يهز الجبال «بناتي وين؟» وجدتهن يبكين خائفات، بسرعة الريح حملت ميرال على ظهري وميرا ومريم بحضني لا أعلم من أي اتجاه أذهب، الخوف والصراخ والدخان يجوب المكان، ذهبتُ حيث لهيب النار يتصاعد، سمعت صراخ شيماء «مش من هان، وين بدّك ترمي حالك؟! الدرج هان تعالي»، كنت أركض على الدرج والزجاج يشقق قدميّ، رأيتُ رجلا آتيا إلينا، سألته على الفور أين حسن؟ رد بحزن وخوف «حسن بخير يا ختي، انزلي في بناتك حرام. حكيتلو: لو حسن بخير كان أجا يطمئن عليا وعلى بناتو، حسن مش بخير» لجأت مسرعة إلى المنزل المجاور لنا، وجدتُ هناك مَن كانوا معنا بالمنزل، بحثتُ عن حسن بين الوجوه فلم أرَه، صرختُ وذهبتُ مسرعةً إلى مكان حسن! رأيتُه على الأرض نائما على جانبه الأيمن، حضنت رأسه، قبّلته، ناديته «حسن، حسن، حسن، حبيبي أمانة رد عليا»، لم يستجب لي، وضعت يدي على رأسه أتفقده، وإذا بشلالٍ من الدماء ينهمر على يدي، صرختُ بأعلى صوتي: «حسن شهيد» ناديت على والدته وأخواته «حسن شهيد».
لقد استشهد سند قلبي وقلب أميراتي، استشهد ساجدًا لربّه، بارًّا بوالدته، مطيعًا لأخيه الكبير الذي كان له بمقام الوالد، راضيًا إخوته وأخواته، استشهد من كان حنونا، ليّن القلب، جميل الخُلق.
ومن بعد هذا اليوم بدأت معركتي الأولى التي خُضتَها لوحدي بعد أن أعلن الجيش شمال غزة ساحة قتال وألقى مناشير لأن نذهب إلى جنوب وادي غزة، وبعد قضاء 20 يوما في مدرسة خليفة «إحدى مدارس الإيواء للنازحين في مشروع بيت لاهيا» انتظرتُ أياما على أن تبدأ الهدنة التي بدأت بتاريخ 2023-11-24.
انتهزت فرصة الهدنة وذهبت برفقة عمتي -والدة حسن- إلى بيتي، الشوارع مدمرةٌ بالكامل، الخوف سيد الموقف، وصلنا البيت وهنا كانت الصدمة.
بيتي الجميل الذي كان يملأه الحب والآمان مدمّر، صرختُ بأعلى صوتي: «يا رب لا صاحب البيت موجود ولا البيت باقي على حاله، يا رب ارحمنا برحمتك».
كانت صرخات أمه تهز المكان، ونار لهيب قلبها تحرق كل من يمر بجانبها من شدة حزنهم عليها.
كان هذا اليوم الأشد مرارة وقسوة، يومٌ مؤلم جدا، لم أتخيل يوما أن أعود إلى البيت من دون رفقة الحسن، خرجنا سويا يدي بيده وعدت إلي بيتي لوحدي، مكسورة الظهر، مسلوبة السند.
في اليوم الثاني للهدنة 2023-11-25 كانت هذه فرصتي الوحيدة، أن أنزح من شمال القطاع وألتقي بأهلي في مخيم البريج.
ذهبت أنا وبناتي برفقة زوجة عم حسن إلى حاجز نتساريم في منطقة جنوب وادي غزة، وصلنا إلى دوار الكويت وبدأ مشوار الهلاك؛ أم أسامة قطعت الطريق وأنا ما زلت على خطى البنات أمشي ببطء ورعب، بعدها بدأت أحدّث بناتي بأن كل شيء طبيعي ولا يوجد خوف وأنني سأعمل سباقا بينهن، مَن منهن تسرّع خطاها وتفوز بالسباق سأعطي لها هدية وبدأت الأميرات بالسباق ووصلنا إلى الحاجز.
هذه المرة الأولى أرى جيش الاحتلال وجها لوجه، شعرتُ بخوف رهيب لكن سرعان ما تجاوزت هذا الخوف وتذكرت كلام حسن «بدك تكوني قوية».
بدأ الجندي بالحديث معي: «توقفي!» وقفت أنا والبنات، «ارفعوا الكمامات»، حكيت للبنات: «يا ماما ارفعوا الكمامة»، «انظري لليسار أنتِ والأطفال»، (البنات خافوا وصاروا يعيطوا، صرت أهدّي فيهم وأطمنهم وأخليهم يطّلّعوا عليه)، سمعت صوت الجندي يقول: «ما تخافي، انظري إلي» فزعت من كلامه، وحدّثت نفسي كيف لا تخاف وأنتم من حرمتومهن والدهن؟ بعدها سألني هل الأطفال لكِ؟ أجبته «صحيح بناتي» سألني اثنتان توأم! أجبته لا، بل ثلاثة توأم، رد قائلا: «يخليلك إياهم»! صدمني وكدتُ أن أُجن من ردّه؛ كيف تدعو لي أن يحميهن الله وأنت من سلبت منهن حنان الأب؟! كيف تدّعي الإنسانية وأنت مَن يقتلهن ويدمر طفولتهن؟!
بدأت أكمل المشوار، أريد أن أوصل إلى بر الآمان، تعبت وأرهقت، ذُلت نفسي وهرمت وكأن الحزن يسكنني دهرًا كاملًا.
وأخيرا وصلت بيت أهلي.
وجدتُ أخواتي ينتظرنني على أحر من الجمر.. حضنتهن وحضنَّ بناتي وذهبنا للقاء أبي وأمي.
حضنت أمي وشكوت لها ضعفي وقلة حيلتي، صرخت لها «حسن حبيبك راح وتركني».
وبعد مرور شهر وأنا في أحضان عائلتي وفي مسقط رأسي مخيم البريج، في الساعة الـ11:30 صباحا، ألقى جيش الاحتلال مناشير على المخيم وأعلنه ساحة قتال وبدأنا بالنزوح إلى منطقة آمنة، ذهبنا إلى منزل أختي في مخيم النصيرات لكنها كانت ليلة صعبة للغاية، فلم يهدأ قلبي من الخوف ولو لحظة، لا مكان آمن في غزة، إنها خدعة الاحتلال الذي يدّعي ذلك.
في الصباح اليوم الثاني بدأنا بالنزوح إلى مدينة رفح، المدينة التي تكتظ بالنازحين، مدينة تملؤها الخيم والمستضعفون والهموم وغلاء الأسعار، لله درهم وشكواهم.
أميرتي ميرا ما زلت على أمل اللقاء بك يا حسن، تسألني يوميا: «ماما بابا راحت ستو تجيبو» إجابتي لها كالعادة، «لا يا ميرا، بابا في السماء يراكِ جيدا، ويسمعك جيدا». تمضي الأيام وتعود ميرا للسؤال نفسه، «بابا عند عمو صخر مسافر؟ وكالعادة: لا يا ميرا بابا في السماء».
أما عن أميرتي مريم «مريومة الحنونة، زي ما بحكي لها حسن» كل يوم تفتقدك «بابا ليش ما بياكل معنا وبيشرب قهوة وشاي؟»، «بابا يا مريومة في الجنة بياكل كل شيء وبيشرب كل شيء يا حبيبتي»، (بتسكت مريومة وبتحكي إلي): «الله يرحم بابا حسون الحنون».
(وطبعا مريم كل ما بتكلم ستها بالشمال تسألها) : «ستو نامي عشان تحلمي في بابا واحكي الله يرحمك يا حسون يا حنون»، (أميرتي ميرال في يوم من الأيام حكت إنها زعلانة من بابا عشان تركنا، فهّمتها إنو بابا ما تركها بس ما بيقدر يجي تشوفو بس هو بشوفها وبسمعها وميرال اقتنعت وفهمت، ودايما بتطّلّع بالسما وبتحكي مع حسن).
أنهت فايزة حديثها، تنهّدت ثم نظرت للبنات وقالت سأعترف لكن يا أميرات الحسن أنكن أغلى الأحياء على قلبي.. وأنّي أحيا بكن.. وأميل إليكن.. وكل معارك يومي أنساها حين يحل الليل ونظل نثرثر حتى يغلبكن النعاس.
يا ختام يومي ومبتدأ نهاري ونواة عيني وأميرات قلبي.. لا تمسهن بسوء يا كريم.. احفظهن بحفظك.. واحرسهن بعينك يا الله.
هكذا كان ختام حديث فايزة التي فقدت زوجها الدكتور حسن في غمضة عين وسرق الاحتلال فرحتها وهدم سعادتها وشتت شملها وحرق قلبها، حالها كحال العديد من النساء المكلومات في غزة.
على مدار 130 يوما الماضية، وثِّق استشهاد أكثر من 28340 فلسطينيا، وإصابة 68 ألف مواطن، غالبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء، واعتقال قرابة 4000 مواطن تم التنكيل بهم وتعذيبهم وسلبهم حقوقهم القانونية، فيما وثِّق قرابة 8000 حالة كمفقودين، غالبيتهم تحت أنقاض منازلهم المستهدفة بصواريخ أمريكية الصنع وأسلحة محرّمة دوليا، والتي استُخدمت في ارتكاب قرابة 2500 مجزرة بحق العائلات وتدمير أكثر من 75% من مباني ومنشآت القطاع المدنية والبنى التحتية.
إن استمرار الحرب في شهرها الخامس أدّى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في غزة خاصة التي تواجه النساء والفتيات دون تحرّك جدّي لإنهاء العدوان والحرب على غزة.
فعلًا هذا الوضع يشكل نداء استغاثة إلى التدخل الدولي؛ فالنساء والفتيات في غزة يحتجن للأمن والعيش بسلام.
د. حكمت المصري كاتبة فلسطينية من غزة
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الطابق فی الیوم کل شیء فی غزة
إقرأ أيضاً:
جنود القسام.. بطولات لا تعرف الخوف وشجاعة تشبه الأساطير
#سواليف
العبوات الناسفة مستمرة في تدمير الآليات، وقذائف الياسين 105 تعمل بكفاءة في نسف #دبابات_ميركافاه، ونصب الكمائن لقوات العدو يوقع ضباطهم وجنودهم بين #قتيل و #جريح، وبنادق القنص تصيب هدفها بدقة حتى لا تكاد تخطئ أحدًا، إلا أن ما يتفوق على هذا كله هو الجندي القسامي المجاهد، الذي ينصب #الكمائن، ويفجر #العبوات، ويرمي بالقذائف، ويقنص #الأعداء، ويدمر الآليات.
حصارٌ مستمر منذ 410 أيام، وطائرات تراقب، ودبابات تتوغل، وأطنان المتفجرات تمسح ما فوق الأرض وتفجر ما تحتها، وتجويع واعتقال وأجهزة تنصت؛ كل ذلك لم يكن كافيًا في نزع شجاعة المجاهدين من جند القسام، ولم يُثنهم عن أداء واجبهم في الدفاع عن شعبهم وأرضهم، حتى أسقطوا هيبة العدو وحطموا أساطيره الزائفة، بفضل صمودهم وبسالتهم التي فاجأت الصديق قبل العدو.
لم يستطع #جيش_الاحتلال والساسة الإسرائيليون إخفاء حقيقة أن ما يقوم به #جنود_القسام يُعدّ خارقًا للعقل وفقًا للقواعد العسكرية المعروفة، وأن إمكانيات الجيش الإسرائيلي الهائلة والمدعومة أمريكيًّا وأوروبيًّا، لم تتمكن من هزيمة هؤلاء #المقاومين رغم ضعف عتادهم ومنع إمدادهم وشدة حصارهم، بل إن طول أمد الحرب لا يزيدهم إلا بسالة وإقدامًا.
مقالات ذات صلة وفاة طالب فجأة داخل مدرسة في ماركا 2024/11/20ربما كانت مشاهد الشجاعة القسامية في الأيام الأولى للحرب شيئًا متوقعًا -رغم كونه غير اعتيادي- نظرًا لأن العدو لم يكن قد توغل بكامل قوته، ولأن المقاومة قد أعدّت لتلك الحرب إعدادًا كبيرًا في التدريب والتأهيل، لكن أن تستمر هذه البطولات إلى زهاء 14 شهرًا من الحصار والقتال، فهذا ما يزيد حسابات العدو تعقيدًا في كيفية الخروج من وحل غزة.
في السادس عشر من نوفمبر الحالي، بثّت كتائب القسام مشهدًا لجندي قسامي يخرج من نفق في بيت لاهيا شمال قطاع غزة، ليضع بيديه عبوة ناسفة فوق دبابة ميركافاه من مسافة صفر، ثم عاد إلى خندقه، لنسمع بعدها دوي انفجار الآلية الإسرائيلية.
في نفس اليوم أعلن جيش الاحتلال مقتل جنديين إسرائيليين في بيت لاهيا، دون أن يعلن تفاصيل مقتلهما، إلا أنه في اليوم التالي كشفت القناة الـ 14 الإسرائيلية أن “المسلح الذي قتل جنديين في بيت لاهيا خرج من نفق تحت الأرض وقتلهما من مسافة قريبة”، ليتبين أن الجنديين قُتلا في مشهد تفجير الدبابة بعبوة شواظ، التي وضعها جندي القسام بيديه.
عضو لجنة الخارجية والأمن بالكنيست الإسرائيلي، عميت هاليفي،، قال إن الجيش الإسرائيلي لم يهزم كتيبة واحدة، ولا حتى سريّة واحدة (من “حماس” والفصائل الفلسطينية) في رفح، مشيرًا إلى أن ما يعلنه الجيش الإسرائيلي من أنه قضى على كتائب حماس في رفح، إنما هو محض كذب.
وفي مقال له نشره موقع القناة 7 العبرية، سرد هاليفي بعضًا من الإحصائيات التي يدّعي دقتها، وقال: “لماذا يختار الجيش الإسرائيلي مرة بعد مرة عدم قول الحقيقة للجمهور؟ ابقوا معي حتى النهاية وسأبدأ من جديد بالحقائق التي أعرفها كعضو في لجنة الخارجية والأمن ويعرفها كل حمساوي يعيش في رفح”:
1 – كان هناك ما لا يقل عن 8000 جندي من “حماس” والجهاد الإسلامي في رفح (ربما أكثر بكثير بسبب التدريب والتجنيد الذي كان في رفح وانضمامهم من كتائب شمال غزة). لذلك، حتى لو قُتل 2000 جندي من حماس في رفح، كما أعلن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي (الرقم الحقيقي أقل بكثير)، فإن ذلك بحد أقصى 25% من القوة المقاتلة.
2 – في رفح هناك عشرات الكيلومترات من الأنفاق تحت الأرض، لذا فإن تدمير 13 كيلومترًا، معظمها في منطقة فيلادلفيا وما جاورها، يشكل نسبة قليلة جدا من مدينة رفح السفلى.
3 – كمية الذخيرة في رفح ضخمة، مع وجود مستودعات تحت الأرض في مبان لا يدخلها الجيش الإسرائيلي، وبالتالي فإن الكمية التي وجدها الجيش الإسرائيلي صغيرة جدا مقارنة بمخزون حماس. لذلك، حتى في مصطلحات قاموس الجيش الإسرائيلي التي تقول إن القرار هو تدمير 60% من قوة العدو (تعريف خاطئ للغاية)، فإننا بعيدون جدًّا عن اتخاذ القرار. (الإحصائيات والأرقام ينقلها هاليفي في مقاله).
وتابع: “لم يهزم جيش الدفاع الإسرائيلي كتيبة واحدة، ولا حتى سريّة واحدة في رفح، وينسحب جنود حماس تكتيكيًّا إلى أماكن أخرى، ويختبئون بين السكان المدنيين الذين يشكلون أسرهم البيولوجية وبيئتهم الطبيعية، لكنهم في الواقع لم يذهبوا إلى أي مكان بالنسبة لهم، هذا ليس تراجعًا، بل هو جزء لا يتجزأ من حرب العصابات”.
استمرار بسالة جنود القسام وشجاعتهم في هذه الظروف الصعبة دفع القائد السابق لفرقة غزة في “جيش” الاحتلال الإسرائيلي، اللواء غادي شامني، إلى القول إنّ حركة حماس “تفوز بهذه الحرب”، في حين “تخسر إسرائيل، وبصورة كبيرة، على الرغم من تحقيق نجاحات تكتيكية”، بحسب ما نقلته عنه صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، في يوليو الماضي.
وأكد شامني أنّ حماس استعادت مناطق من قطاع غزة في غضون 15 دقيقةً من الانسحابات الإسرائيلية منها، مشددًا على أنّ “أحدًا لا يستطيع تحدي حماس هناك بعد انسحاب القوات الإسرائيلية”.
في شمال قطاع غزة الذي يشهد توغلاً بريًّا مكثفًا وقصفًا عنيفًا منذ أكثر من شهر ونصف، يثبت جنود القسام أنهم قادرون على إيلام العدو بخسائر فادحة، حتى إن حصيلة قتلى ومصابي جيش الاحتلال خلال هذه الفترة -في صفوف ضباطه وجنوده- تعد الأكثر خسارة للعدو منذ بدء عدوانه، وكأنها الأيام الأولى لطوفان الأقصى، وهذا ما يبثه مقاومو القسام بشكل يومي، ويعترف بالكثير منه جيش الاحتلال وإعلامه.
وفي مشهد آخر من مشاهد التحامات جنود القسام مع قوات العدو الصهيوني المتوغلة في قطاع غزة، بثت الكتائب صورة لإحدى العمليات التي قام بتنفيذها شيخ في الـ 60 من عمره، ليثبتوا للعالم كله أن المقاومة متجذرة في دماء الشعب الفلسطيني منذ صغره، ولا تنتهي روح المقاومة لديه عند شيخوخته.