فورين بوليسي: أزمات الشرق الأوسط تكشف بوضوح استراتيجية ودور الصين في المنطقة
تاريخ النشر: 17th, February 2024 GMT
استطاعت الصين في شهر مارس الماضي التوسط في اتفاق تم بموجبه استعادة العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإيران.
وذكرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية أن الصين لم تفعل ما اعتبره كثيرون مستحيلا فحسب، بل كانت أيضا هي الدولة الوحيدة التي ربما تمتعت بالقدرة على فعل ذلك، حيث رغم الخلافات الواضحة بين البلدين التي وصلت حد العداء، إلا أن كلا منهما كان يثق بالصين، ومن هنا تحقق الاتفاق الذي يعد علامة أخرى على دور بكين المتزايد في منطقة الشرق الأوسط.
ومع ذلك، ظلت الدبلوماسية الصينية الواثقة، التي ظهرت حينما تم إعلان هذه الاتفاق في شهر مارس الماضي، غائبة طيلة الأشهر الأربعة الماضية. فمع انزلاق منطقة الشرق الأوسط إلى أعمال العنف، لم تكن هناك أي علامة على الوساطة الصينية، أو أي علامة تذكر على وجود دبلوماسية صينية فاعلة رغم الدعم الذي يمتد لأكثر من نصف قرن للفلسطينيين، وأكثر من عقد من العلاقات الوثيقة مع إسرائيل، إضافة إلى استثمارات بمليارات الدولارات في العديد من دول المنطقة، ما يؤهلها للقيام بدور فاعل.
وأشارت المجلة الأمريكية إلى أنه في الوقت الذي أدت فيه هجمات الحوثيين إلى إضعاف التجارة الصينية وبدأت في خنق بعض شركاء الصين الإقليميين، بدت بكين في كثير من الأحيان إما غير قادرة أو غير راغبة في التصرف دبلوماسيا أو عسكريا أو اقتصاديا؛ لتعزيز مصالحها الأوسع، ناهيك عن دعم شركائها.
فالصين - وفقا لفورين بوليسي - تحب الترويج لنفسها باعتبارها قوة عالمية صاعدة، كما تحب انتقاد الولايات المتحدة لأنها لم تحقق طموحاتها في تأمين السلام والازدهار للعالم. ويبدو أن الصين ترغب في أن تتبنى دول المنطقة وجهة نظر مفادها أن المنطقة ستدخل، على المدى المتوسط، في مرحلة الابتعاد عن الإملاءات والهيمنة، نحو مرحلة التوازن الجيوستراتيجي والعدالة السياسية من خلال النفوذ الصيني المبني على التنمية، الاستثمار ورفاهية الشعوب والابتعاد عن الصراعات.
حقيقة، ليس من الخطأ أن تنظر الصين إلى الولايات المتحدة باعتبارها التحدي الاستراتيجي الرئيسي لها. ولكن ما يثير الدهشة هو مدى صحة هذا الأمر. فإن تصرفات الصين خلال الأشهر الأربعة الماضية تسلط الضوء على أنه رغم عقود من الاستثمار في الشرق الأوسط، إلا أن التركيز الإقليمي الرئيسي لبكين لا يزال قائما على محاولة تقويض الولايات المتحدة. ورغم أن الصين أصبحت بالفعل لاعبا إقليميا في الشرق الأوسط، إلا أنها لا تزال –وفقا للمجلة- تمارس لعبة مصالحها الذاتية بشكل ملحوظ.
ولفتت "فورين بوليسي" إلى أن السبب الرئيس لاهتمام الصين بالشرق الأوسط هو الطاقة. فقد أصبحت الصين مستوردا للنفط لأول مرة قبل ثلاثين عاما. وخلال العقدين الماضيين، كانت الصين تمثل ما يقرب من نصف الزيادة العالمية في الطلب على النفط. وطوال هذه الفترة، كان ما يقرب من نصف واردات الصين من النفط يأتي من منطقة الشرق الأوسط.
بالنسبة للصين، كان الاعتماد على الشرق الأوسط بمثابة نقطة ضعف مستمرة، حيث كانت الولايات المتحدة هي الفاعل الأمني المهيمن في المنطقة لمدة نصف قرن، ويخشى العديد من الصينيين أن تتمكن الولايات المتحدة، في أوقات العداء بين بكين وواشنطن، من قطع إمدادات الطاقة الأساسية عن الصين. وعلى نحو مماثل، يستضيف الشرق الأوسط ثلاث ممرات شحن حيوية للتجارة العالمية، وتمر عبر بلدان المنطقة العديد من الحاويات الصينية المتجهة إلى أفريقيا وأوروبا وحتى الساحل الشرقي للولايات المتحدة. وفيما تستعد البحرية الأمريكية الآن لحماية جميع نقاط الاختناق (ممرات الشحن) هذه، لكنها يمكن أن تمنع مرورها أيضا وقت العداء مع الصين.
ونوهت المجلة إلى أن استراتيجية الصين كانت تتلخص في التعايش مع الولايات المتحدة بدلا من المواجهة، وإقناع دول المنطقة بتنمية علاقاتها مع الصين إلى جانب علاقاتها مع الولايات المتحدة. وقبل ما يقرب من عشرة أعوام، أعلنت الصين عن "شراكات استراتيجية شاملة" مع الجزائر ومصر، ثم أضافت في وقت لاحق المملكة العربية السعودية وإيران والإمارات العربية المتحدة إلى القائمة. وليس من قبيل الصدفة أن بكين نجحت في العمل من أجل انضمام الدول الأربع الأخيرة إلى كتلة البريكس (التي كانت تضم آنذاك البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) في أغسطس الماضي.
بدورها، رحبت دول الشرق الأوسط بالدور الإقليمي المتنامي الذي تلعبه الصين. ويرجع ذلك جزئيا إلى أن الصين تحررهم من الضغوط الغربية في بعض الملفات، وتمنحهم شريكا اقتصاديا يفضل السرعة على الدقة التنظيمية الصارمة. كما أنهم ينظرون إلى الصين كقوة عالمية صاعدة، إضافة إلى أنه بعد أكثر من عقد من التصريحات الرئاسية الأمريكية بأن مصالح واشنطن الرئيسية تكمن في آسيا، قد يبدو من التهور أن تتجاهل دول الشرق الأوسط مسألة بناء علاقة قوية مع الصين.
وفي حين أن الطرح الذي طرحته الصين، وهو أن الدول قادرة على تطوير علاقاتها مع الصين إلى جانب علاقاتها مع الدول الغربية، يبدو صحيحا من حيث المبدأ، إلا أن الناحية العملية أثبتت أنه أكثر تعقيدا، حيث تتهم الحكومات الغربية أن الاستثمارات التكنولوجية الصينية في المنطقة تهدف إلى تضمين أدوات للتجسس الصيني. ونتيجة لذلك، تنظر الحكومات الغربية في بعض الأحيان إلى حصول الحكومات الإقليمية على تلك التكنولوجيا باعتباره عقبة أمام مجموعة من الترتيبات الأمنية التعاونية.
وفي المقابل، ينتقد باحثون صينيون بشدة جهود الأمن الإقليمي الأمريكية، ويرون أن الصين ضحية لعدم الاستقرار الإقليمي نتيجة للأعمال العسكرية المتهورة التي تقوم بها الولايات المتحدة ووجودها. وتجلت وجهة النظر هذه على لسان عضو مجلس الدولة وزير الخارجية الصيني وانج يي خلال لقاء في يناير 2022 مع وزراء خارجية ست دول شرق أوسطية، حينما أكد أن شعوب الشرق الأوسط هي أسياد الشرق الأوسط. وأنه لا يوجد أبدا "فراغ في السلطة"، ولا توجد حاجة إلى "نظام أبوي من الخارج".
وحينما تم التوصل إلى الاتفاق السعودي الإيراني في مارس 2023، صور الجانب الصيني الأمر على أنه يمهد الطريق "لتحقيق السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، ويضرب مثالا جيدا لحل المشاكل والخلافات بين الدول من خلال الحوار والتشاور". ووعد الجانب الصيني بأن "بكين ستواصل دورها البناء".
ولكن في الأشهر التي تلت اندلاع أعمال العنف في الشرق الأوسط، اعتمدت الصين على التصريحات العالمية التي أعربت فيها عن قلقها، دون أن تقدم سوى القليل. وكانت أوضح إدانة لها مرتبطة بالهجوم على المستشفى الأهلي في مدينة غزة في أكتوبر الماضي.
وقبل اجتماع في تايلاند في يناير الماضي بين مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان ووزير الخارجية الصيني وانج يي، حيث كان أمن البحر الأحمر على جدول الأعمال، أكد المسؤولون الصينيون والإيرانيون على حد سواء أن الصين اشتكت للحكومة الإيرانية بشأن دعمها للحوثيين، دون جدوى. ومن غير الواضح ما إذا كانت مثل هذه التصريحات تهدف فقط إلى إبعاد وانج عن الضغوط الأمريكية أو تعكس عجز الصين الحقيقي عن التأثير على الحسابات الإيرانية.
وعلى الجانب الآخر، ينخرط الدبلوماسيون الغربيون والشرق أوسطيون بعمق مع بعضهم البعض في محاولة لإيجاد طريقة ما لإنقاذ الأرواح، والحد من التوترات، وتحرير التجارة العالمية.
ومن الصعب في هذا المقام القول بأن الأحداث في المنطقة لا تضر المصالح الصينية بشكل مباشر، حيث إن الصين ليست دولة تجارية فحسب، بل هي أيضا دولة بحرية. وتؤثر الاحتكاكات في التجارة العالمية على الصين بشكل مباشر وتدفع المستثمرين نحو تحويل الاعتماد على سلاسل التوريد إلى دول أقرب وأكثر ودية، لتجنب الاضطرابات المستقبلية.
وفي الوقت الذي يهدد وكلاء إيران في منطقة الشرق الأوسط بدفع المنطقة نحو الحرب، ويفعلون ذلك جزئيا من خلال هجماتهم على إسرائيل، التي كانت هي نفسها تعمل بشكل مطرد على تنمية علاقاتها مع الصين منذ ما يقرب من عقدين من الزمن، إلا أن قليلين فقط يتوقعون أن تتمكن الصين من السيطرة على إيران، ناهيك عن وكلائها، فيما يرى كثيرون أن الصين لا تبدو أنها تحاول ذلك.
وأرجعت "فورين بوليسي" السبب في ذلك إلى أن الصين ترى في هذه الأزمة، فرصة، حيث حاولت بكين الاستفادة من الوضع الراهن عبر القيام بأمرين، الأول يتمثل في انتقاد الولايات المتحدة، والسعي إلى تحفيز العداء في الجنوب العالمي للدور الأمريكي في الشرق الأوسط.
أما الأمر الثاني الذي تفعله الصين، فيتمثل في الاهتمام بمصالحها الاقتصادية المباشرة، حيث هناك طلب متزايد على السفن الصينية، التي يعتقد الشاحنون أن الحوثيين لن يهاجموها. وتجلى ذلك في إعلان بعض السفن التي تبحر عبر البحر الأحمر أن "جميع أفراد الطاقم صيني"، وذلك على أجهزة تتبع السفن؛ لتجنب الهجمات.
وشددت المجلة الأمريكية على أهمية أن يتخلى الصينيون عن البحث عن طرق لتعزيز مصالحهم الخاصة على حساب الشركاء والحلفاء، حيث إن هذا ليس منطق "الربح للجميع" الذي تروج له الصين في كثير من الأحيان باعتباره بطاقة الاتصال الخاصة بها، وإن البديل سيكون "الخسارة للجميع" بما فيهم الصين.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الولايات المتحدة أفريقيا إيران منطقة الشرق الأوسط الولایات المتحدة فی الشرق الأوسط فورین بولیسی علاقاتها مع فی المنطقة ما یقرب من أن الصین مع الصین إلا أن إلى أن
إقرأ أيضاً:
الأقمار الصناعية تكشف تعديًا للاحتلال على المنطقة العازلة مع سوريا
اتهمت الأمم المتحدة، الاحتلال بارتكاب "انتهاكات خطيرة" للاتفاق الموقع منذ 50 عاما مع سوريا، قائلة إنها انخرطت في "أنشطة هندسية أساسية" تتعدى على منطقة عازلة رئيسية في مرتفعات الجولان.
وحسب شبكة “سي إن إن” الأمريكية، أظهرت صور الأقمار الصناعية الصادرة عن Planet Labs ووكالة الفضاء الأوروبية أن جيش الاحتلال يقوم بنشاط تنقيب بالقرب من جباتا الخشب في سوريا منذ منتصف أغسطس الماضي، ويجري حفر ساتر ترابي كبير يبلغ عرضه حوالي 40 قدمًا (12 مترًا).
ويمتد الخندق الآن لحوالي خمسة أميال (8 كيلومترات)، في حين يستمر العمل على توسيع الخندق بشكل أكبر، وفقًا لصور الأقمار الصناعية الأخيرة لـ Planet Labs في 5 نوفمبر الجاري.
وكشفت قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك إن "الأنشطة الأساسية الهندسية واسعة النطاق" تجري على طول ما يسمى بخط ألفا الذي يفصل بين سوريا ومرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل.
وأضافت أن البناء بدأ في يوليو ويتضمن استخدام "الحفارات وغيرها من معدات تحريك التربة مع الحماية من المركبات المدرعة والجنود”.