في الذكرى الخامسة عشر لرحيل الطيب صالح (1929-18 فبراير 2009)
تاريخ النشر: 17th, February 2024 GMT
مصطفى سعيد: أنا أكذوبة
عبد الله علي إبراهيم
أنشر بمناسبة هذه الذكرى جزءاً من تعريب لكلمة طويلة لي في الإنجليزية عنوانها "المستعمر: حالة الخلو من الترجمة الذاتية" ووجدت أن الشاعرة نجلاء التوم أخذت بالمقال فعربتها دون علمي تعريباً مشوقاً. لها محبتي)
الترجمة (السيرة الشخصية) أثر حقيقي لإنسان عاش أصالة عن نفسه.
ولا غرابة أن مصطفى سعيد، بطل رواية "موسم الهجرة للشمال" للطيب صالح ما أنفك يتبرأ من حقائقه على طول الرواية وعرضها ملحاً بغير لبس أنه أكذوبة. وكانت أكذوبة خَلقِه هي التي جعلته يقبع ذاهلاً في المحكمة، التي انعقدت لمقاضاته على قتله عشيقاته وزوجاته الإنجليزيات، وكأنها انعقدت لمحاكمة شخص غيره. فلم يعتذر عن قتله جين موريسون بل اعتذر عن الأكذوبة التي هو. وحين تحدث أستاذه في المحكمة عن عبقريته قال مصطفى سعيد الشارد لنفسه إن مصطفى سعيد لم يعش أبداً في الدنيا. فهو وهم وأكذوبة. والتمس من القضاة الحكم بقتل الأكذوبة.
ومصطفى أكذوبة بوده هام. فهو منتج غربي من قمة رأسه حتى أخمص شهواته. ووظف الطيب صالح المحكمة التي انعقدت لمحاكمته على جرائمه العديدة بصورة غير عادية ليعرض لنا الصناعة الغربية التي تناصرت لتخليق هذا الشقي. فكانت المحكمة ساحة نزاع، لا حول حقائقه هو، بل عن بريطانيين، وصفهم مصطفى سعيد ب "البله"، حول اعتقاداتهم المتباينة وصوابها. ففيها تجاحد المحامون (الذين مثلوا الطيف العقائدي البريطاني) فوق جسده: الاستعمار والليبرالية والتبشير والتسلح الخلقي والماسونية وإنسانية عصر الأنوار والبوهيمية واليسار. فلم يكن هو في المحكمة أصالة عن جرائمه، بل كان فيها نيابة عن الصناعة الفكرية الغربية. فهناك الحلقات البوهيمية التي استلطفت منه "الأسود الأنيق". وهناك اللوردات من متصنعة الليبرالية ممن مصطفى سعيد من معروضات فضلهم على العالم. وهناك اليسار المفتون بنظريته عن اقتصاد يقوم على الحب لا الأرقام وأصبح بذلك فتاهم المدلل..
وكانت المحاكمة كذلك عن ضبط جودة هذه الصناعات. فرأينا في المحكمة هذا الضبط عند بروفسير ماكسويل، مؤسس جمعية التسلح الخلقي والماسوني وعضو المجلس الأعلى للإرساليات المسيحية في أفريقيا، الذي انزعج من مصطفى سعيد منذ أيامه في اكسفورد. وكان يقول له إنك أنت المثل الحي على أن مهمتنا الحضارية في أفريقيا قد باءت بفشل عظيم. وتحسر على جهودهم الطويلة لتعليمه سدى. فمصطفى في نظره يخرج عليهم في المحكمة وكأنه ما بارح الغابة إلا أمس. ومع ذلك كان ماكسويل في المحكمة مصمماً على تبرئته من التهم. وحتى المحلفين، الممسوسين بالإنسانية الليبرالية، اجتهدوا لأول مرة للارتفاع فوق حزازاتهم حيال هذا العبد الذي لن يقبلوا، في وضع طبيعي، بتأجير شقة له في عقارهم. فلم يرغبوا بالحكم لإعدامه لأنه في نظرهم كان رجلا فقد الرغبة في الحياة.
ولم يرد مصطفى لمحاكمته أن تتحول إلى صراع بين الشرق والغرب. فليس ثمة نزاع كهذا في نظره. فالإنجليز، متى تجاحدوا، كانوا هم موضوع التجاحد لا مصطفى. فهم قد جعلوا منه باتفاق عقائدهم قرداً يطرب فعله صاحبه لأنه أتقن ما عوده عليه. وخاف مصطفى سعيد أن تستدعي المحاكمة صورة عطيل العربي الأفريقي من شكسبيرهم العظيم من جهة قتله حبيبته الأوربية من فرط الغيرة. فيتلاشى هو أكثر فأكثر في ركام الصور الغربية عنه. فصرخ فيهم ألا يجعلوا منه عطيلاً لأنه صحراء العطش . . . وأكذوبة.
ومصطفى أكذوبة بوجه ثان هام. فهو صناعة غربية حتى في شهواته. فحتى شهواته مستعارة. فلم يأت للشمال غازياً بذكره، كما قال، اعتباطاً. فهو منتج من منتجات صناعة العنف الأوربي الإمبريالي. فلفحت جرثومة العنف هذه الغرب من أكثر من ألف سنة مذ سادوا العالم. فهو قطرة من السم الزعاف الذي حقن به الغرب شرايين التاريخ. ومع ذلك لم يشته النساء كما شاء، بل اشتهاهن كما شاءت بروتكولات الغرب. وهذه الجرثومة لها إفرازاتها الفكرية التي سماها إدوارد سعيد ب"الاستشراق". فقد شوّقت صور المعرفة الغربية للشرق وأفريقيا نساءهم في رجال تلك البقاع الغامضة وفحولتهم الوهّاجة. ولم يكن مصطفى بحاجة لبذل أي جهد لإغوائهن. يكفي أن يكون هو الأكذوبة (لا مصطفي سعيد) المصنوعة ليترامين عنده كالفراشات. ولم يكن هو موضوع شهوتهن. فصورتهن عنه، ثمرة صناعة ثقافتهن، هي التي تنصب لهن الفخاخ فيسرن لحتفهن بظلفهن. فمن رأي مصطفى سعيد أن ضحاياه رغبن في الموت ولو لم يقتلهن لانتحرن طوعاً. فالذي قتلهن هو جرثومة مرض عضال أصابهن قبل آلاف السنين.
وكان الشرك الذي نصبه مصطفى لهن فصادهن من خيوط عنكبوت ثقافتهن. كانت المرايا تغطي غرفته. فهو إن ضاجع واحدة بدا في المرايا وكأنه ضاجع النساء جميعاً: الحريم. كان الصندل يفوح في الغرفة. وكانت المساحيق الشرقية والعطور مل حَمَّامه.
ومع أنه سعى دائماً لاسترداد نفسه من ركام المعرفة الاستعماري بقوله إنه ليس عطيلاً لأن عطيل أكذوبة إلا أنه يعرف من أين تؤكل كتف نساء مصابات بالشرق وأفريقيا. فكان يَستِرقهن لمضجعه من مقود ثقافتهن. قال لسيمور يغريها: أنا عطيل، عربي أفريقي. وكان يعرف أنه ليس بعطيل وإنما هي بضاعتهن ردت إليهن.
وسقطن في فخ من صنع أيديهن الثقافية. فآن هاموند قد أخذت الفلسفة الشرقية بعقلها في أكسفورد. أما سيمور فقد شغفت ببدائيته الأفريقية ثم أندلسيته العربية في وقت معاً. وهي هواجس شهوانية التقطتها من ثقافتها. فكانت تستعذب حديثه وترخي له أذنها في صمت والشفقة المسيحية تدفق في عينيها. وترى مصطفى سعيد وقد تحول في نظرها إلى مخلوق بدائي عار كما ولدته أمه. وما فرغت من النوم معه حتى وصفته بأنه خصب كالأندلس. وقالت له: أن أرتع فيّ أيها الشيطان الأفريقي. احرقني في نيران معبدك. ودعني التوي وأدور في طقوسك الوحشية الحامية. وكانت عابدة له حتى استعجب مصطفى سعيد وقال: ألأن هناك من ولد على خط الاستواء تجد بعض المجانين من الناس يدعونه عبداً وبعضاً يؤلهونه. فأين يقع الوسط السعيد.
لقد استوعب مصطفى الحضارة الغربية ولكنها كسرت جُبارته. وقد حمل أسفار تلك الحضارة إلى غرفته العجيبة النشاز في القرية السودانية التي لجأ إليها بعد عودته من إنجلترا. وبلغ من محو هذه الحضارة لهويته أنه فشل فشلاً ذريعاً في كتابة ترجمة لنفسه. فلما جاس الراوي خلال محتويات تلك الغرفة عثر على ورقة انتوى مصطفى أن يدون عليها ترجمته الذاتية ولكنه لم يكتب فيها حرفاً عن نفسه. وهكذا ودع الرجل الدنيا ولم ير في حياته ما يروي عنه لغيره. وبدا من بياض ورقة سعيد وسواد نصوص الغرب المعيارية في الثقافة والذوق والمعارف، التي شغلت الغرفة، أن مصطفى قد أفحمه الغرب فلم ينبس ببنت شفة عن نفسه.
IbrahimA@missouri.edu
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: مصطفى سعید فی المحکمة عن نفسه
إقرأ أيضاً:
انطلاق النسخة الخامسة من فعالية "الفرص فين" الثلاثاء
تُنظم "Startup Grind Cairo"، المدعومة من Google for Entrepreneurs، النسخة الخامسة من فعالية «الفرص فين»، مساء الثلاثاء المقبل الموافق 31 ديسمبر 2024، بالحرم اليوناني «Greek Campus»، بحضور نخبة من رواد الأعمال، الشباب، ومسؤولي الشركات الناشئة، بهدف مناقشة واستطلاع أهم الفرص المتاحة في سوق ريادة الأعمال والشركات الناشئة خلال عام 2025.
مناقشات مُعمقة حول ريادة الأعمال والفرص المستقبلية
ويحاور حسين المناوي، مستشار تطوير الأعمال ومدير مكتب Startup Grind Cairo، محمد أبو النجا، الشريك المؤسس والمدير التنفيذي لشركة ExitsMena وعضو مجموعات العمل التابعة للمجموعة الوزارية لريادة الأعمال، لاستعراض تطورات قطاع ريادة الأعمال والشركات الناشئة في مصر ومنطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى استقراء أبرز الفرص الواعدة خلال العام الجديد.
وتكتسب النسخة الخامسة من فعالية «الفرص فين»، أهمية خاصة في ظل التطورات المتلاحقة التي شهدها الاقتصاد المصري خلال عام 2024، والتي على رأسها تشكيل الحكومة الجديدة، وتدشين مجموعة وزارية متخصصة في ريادة الأعمال، فضلًا عن تنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي طموح مع صندوق النقد الدولي، وهو ما انعكس على صمود الاقتصاد الكلي، وبالتالي التأثير على مجتمع ريادة الأعمال والشركات الناشئة.
قال حسين المناوي، مستشار تطوير الأعمال ومدير مكتب Startup Grind Cairo، إن فعالية «الفرص فين» تستقطب اهتمام مجتمعات ريادة الأعمال والشركات الناشئة، منذ انطلاقها قبل أربع سنوات، نجحت الفعالية في الوصول إلى أكثر من مليوني مشاهدة عبر منصات التواصل المختلفة، موضحًا أن «الفرص فين» أصبحت منصة حيوية لمشاركة الخبرات واستعراض أبرز الفرص المتاحة، مما يجعلها محطة هامة في أجندة مجتمع ريادة الأعمال.
وأضاف: "نسعى من خلال هذه النقاشات المفتوحة إلى تسليط الضوء على القطاعات الأكثر حيوية، مثل التحول الرقمي والطاقة المتجددة والتكنولوجيا الزراعية، ونهدف إلى تقديم رؤى واقعية يمكن أن تلهم الحاضرين وتساعدهم على اتخاذ قرارات مستنيرة. التعاون مع رواد الأعمال البارزين مثل محمد أبو النجا يضيف قيمة حقيقية للفعالية، ويمنح الحضور فرصة لفهم الاتجاهات العالمية والمحلية بشكل أفضل."
تأتي الفعالية في وقت حقق فيه قطاع الشركات الناشئة في مصر نموًا مطردًا. وفقًا لتقارير مركز معلومات مجلس الوزراء، ليبلغ إجمالي الاستثمارات في الشركات الناشئة بمصر حوالي 1.5 مليار دولار خلال السنوات الخمس الماضية، بمعدل نمو سنوي مركب بلغ 84%. وفي عام 2022 وحده، بلغت الاستثمارات في هذا القطاع نحو نصف مليار دولار، مما يعكس الدور الحيوي الذي تلعبه ريادة الأعمال في تعزيز الاقتصاد المصري.
تُعد Startup Grind Cairo جزءًا من شبكة دولية تدعمها Google for Entrepreneurs، وتتواجد في أكثر من 600 مدينة في 120 دولة حول العالم. تعمل الشبكة على تمكين المهتمين بريادة الأعمال من بدء أعمالهم الخاصة من خلال فعاليات دورية تستضيف أبرز رواد الأعمال الناجحين لمشاركة خبراتهم مع الشباب.