مصطفى سعيد: أنا أكذوبة
عبد الله علي إبراهيم
أنشر بمناسبة هذه الذكرى جزءاً من تعريب لكلمة طويلة لي في الإنجليزية عنوانها "المستعمر: حالة الخلو من الترجمة الذاتية" ووجدت أن الشاعرة نجلاء التوم أخذت بالمقال فعربتها دون علمي تعريباً مشوقاً. لها محبتي)

الترجمة (السيرة الشخصية) أثر حقيقي لإنسان عاش أصالة عن نفسه.

ولكن تخلو المرأة أو الرجل ممن استعمرهم الغرب من الترجمة لأنهما عاشا عالة على غيرهما، أي من صنع الغرب. فالغرب يجحد من وطئهم بمنسمه سيرة يروونها عن أنفسهم، أو تروى عنهم. فإن طلبوا واحدة أمدهم بها من محض صنعه ومقارناته واستدعاءات من جراب تاريخه. وجحود الغرب ترجمة للمستعمَر، للآخر، مما صوره الطيب صالح بدرامية بليغة في "موسم الهجرة لشمال". فأراد الراوي في الراوية أن يعرف كنه مصطفى سعيد، بطل الرواية الغامض العجيب، فأخذ يقلب محتويات الغرفة النشاز التي بناها مصطفي في قرية سودانية لجأ إليها بعد تجربة حافلة وتراجيدية لا تُنسي من العيش في انجلترا. فمعمار الغرفة مستفاد من معمار القرى الأنجلوساكسونية بسقف أحمر محدودب مثل ظهور البقر. وازدحمت الغرفة بكتب غربية وغالبها في الإنجليزية. فحتى القرآن كان في غير نصه العربي. وتنفست الغرفة فوح انجلترا تفصيلاً حتى بوجود مدفأة فكتورية بها. وعثر الراوي خلال جوسه في محتويات الغرفة على ورقة انتوى سعيد أن يدون عليها ترجمته الذاتية. ولكنه لم يكتب فيها حرفاً عن نفسه. وهكذا ودع الرجل الدنيا ولم يجد في حياته ما يروي عنه لغيره. وبدا من بياض ورقة سعيد وسواد نصوص الغرب المعيارية في الثقافة والذوق والمعارف، التي شغلت الغرفة، أن سعيداً قد أفحمه الغرب فلم بنبس ببنت شفة عن نفسه.
ولا غرابة أن مصطفى سعيد، بطل رواية "موسم الهجرة للشمال" للطيب صالح ما أنفك يتبرأ من حقائقه على طول الرواية وعرضها ملحاً بغير لبس أنه أكذوبة. وكانت أكذوبة خَلقِه هي التي جعلته يقبع ذاهلاً في المحكمة، التي انعقدت لمقاضاته على قتله عشيقاته وزوجاته الإنجليزيات، وكأنها انعقدت لمحاكمة شخص غيره. فلم يعتذر عن قتله جين موريسون بل اعتذر عن الأكذوبة التي هو. وحين تحدث أستاذه في المحكمة عن عبقريته قال مصطفى سعيد الشارد لنفسه إن مصطفى سعيد لم يعش أبداً في الدنيا. فهو وهم وأكذوبة. والتمس من القضاة الحكم بقتل الأكذوبة.
ومصطفى أكذوبة بوده هام. فهو منتج غربي من قمة رأسه حتى أخمص شهواته. ووظف الطيب صالح المحكمة التي انعقدت لمحاكمته على جرائمه العديدة بصورة غير عادية ليعرض لنا الصناعة الغربية التي تناصرت لتخليق هذا الشقي. فكانت المحكمة ساحة نزاع، لا حول حقائقه هو، بل عن بريطانيين، وصفهم مصطفى سعيد ب "البله"، حول اعتقاداتهم المتباينة وصوابها. ففيها تجاحد المحامون (الذين مثلوا الطيف العقائدي البريطاني) فوق جسده: الاستعمار والليبرالية والتبشير والتسلح الخلقي والماسونية وإنسانية عصر الأنوار والبوهيمية واليسار. فلم يكن هو في المحكمة أصالة عن جرائمه، بل كان فيها نيابة عن الصناعة الفكرية الغربية. فهناك الحلقات البوهيمية التي استلطفت منه "الأسود الأنيق". وهناك اللوردات من متصنعة الليبرالية ممن مصطفى سعيد من معروضات فضلهم على العالم. وهناك اليسار المفتون بنظريته عن اقتصاد يقوم على الحب لا الأرقام وأصبح بذلك فتاهم المدلل..
وكانت المحاكمة كذلك عن ضبط جودة هذه الصناعات. فرأينا في المحكمة هذا الضبط عند بروفسير ماكسويل، مؤسس جمعية التسلح الخلقي والماسوني وعضو المجلس الأعلى للإرساليات المسيحية في أفريقيا، الذي انزعج من مصطفى سعيد منذ أيامه في اكسفورد. وكان يقول له إنك أنت المثل الحي على أن مهمتنا الحضارية في أفريقيا قد باءت بفشل عظيم. وتحسر على جهودهم الطويلة لتعليمه سدى. فمصطفى في نظره يخرج عليهم في المحكمة وكأنه ما بارح الغابة إلا أمس. ومع ذلك كان ماكسويل في المحكمة مصمماً على تبرئته من التهم. وحتى المحلفين، الممسوسين بالإنسانية الليبرالية، اجتهدوا لأول مرة للارتفاع فوق حزازاتهم حيال هذا العبد الذي لن يقبلوا، في وضع طبيعي، بتأجير شقة له في عقارهم. فلم يرغبوا بالحكم لإعدامه لأنه في نظرهم كان رجلا فقد الرغبة في الحياة.
ولم يرد مصطفى لمحاكمته أن تتحول إلى صراع بين الشرق والغرب. فليس ثمة نزاع كهذا في نظره. فالإنجليز، متى تجاحدوا، كانوا هم موضوع التجاحد لا مصطفى. فهم قد جعلوا منه باتفاق عقائدهم قرداً يطرب فعله صاحبه لأنه أتقن ما عوده عليه. وخاف مصطفى سعيد أن تستدعي المحاكمة صورة عطيل العربي الأفريقي من شكسبيرهم العظيم من جهة قتله حبيبته الأوربية من فرط الغيرة. فيتلاشى هو أكثر فأكثر في ركام الصور الغربية عنه. فصرخ فيهم ألا يجعلوا منه عطيلاً لأنه صحراء العطش . . . وأكذوبة.
ومصطفى أكذوبة بوجه ثان هام. فهو صناعة غربية حتى في شهواته. فحتى شهواته مستعارة. فلم يأت للشمال غازياً بذكره، كما قال، اعتباطاً. فهو منتج من منتجات صناعة العنف الأوربي الإمبريالي. فلفحت جرثومة العنف هذه الغرب من أكثر من ألف سنة مذ سادوا العالم. فهو قطرة من السم الزعاف الذي حقن به الغرب شرايين التاريخ. ومع ذلك لم يشته النساء كما شاء، بل اشتهاهن كما شاءت بروتكولات الغرب. وهذه الجرثومة لها إفرازاتها الفكرية التي سماها إدوارد سعيد ب"الاستشراق". فقد شوّقت صور المعرفة الغربية للشرق وأفريقيا نساءهم في رجال تلك البقاع الغامضة وفحولتهم الوهّاجة. ولم يكن مصطفى بحاجة لبذل أي جهد لإغوائهن. يكفي أن يكون هو الأكذوبة (لا مصطفي سعيد) المصنوعة ليترامين عنده كالفراشات. ولم يكن هو موضوع شهوتهن. فصورتهن عنه، ثمرة صناعة ثقافتهن، هي التي تنصب لهن الفخاخ فيسرن لحتفهن بظلفهن. فمن رأي مصطفى سعيد أن ضحاياه رغبن في الموت ولو لم يقتلهن لانتحرن طوعاً. فالذي قتلهن هو جرثومة مرض عضال أصابهن قبل آلاف السنين.
وكان الشرك الذي نصبه مصطفى لهن فصادهن من خيوط عنكبوت ثقافتهن. كانت المرايا تغطي غرفته. فهو إن ضاجع واحدة بدا في المرايا وكأنه ضاجع النساء جميعاً: الحريم. كان الصندل يفوح في الغرفة. وكانت المساحيق الشرقية والعطور مل حَمَّامه.
ومع أنه سعى دائماً لاسترداد نفسه من ركام المعرفة الاستعماري بقوله إنه ليس عطيلاً لأن عطيل أكذوبة إلا أنه يعرف من أين تؤكل كتف نساء مصابات بالشرق وأفريقيا. فكان يَستِرقهن لمضجعه من مقود ثقافتهن. قال لسيمور يغريها: أنا عطيل، عربي أفريقي. وكان يعرف أنه ليس بعطيل وإنما هي بضاعتهن ردت إليهن.
وسقطن في فخ من صنع أيديهن الثقافية. فآن هاموند قد أخذت الفلسفة الشرقية بعقلها في أكسفورد. أما سيمور فقد شغفت ببدائيته الأفريقية ثم أندلسيته العربية في وقت معاً. وهي هواجس شهوانية التقطتها من ثقافتها. فكانت تستعذب حديثه وترخي له أذنها في صمت والشفقة المسيحية تدفق في عينيها. وترى مصطفى سعيد وقد تحول في نظرها إلى مخلوق بدائي عار كما ولدته أمه. وما فرغت من النوم معه حتى وصفته بأنه خصب كالأندلس. وقالت له: أن أرتع فيّ أيها الشيطان الأفريقي. احرقني في نيران معبدك. ودعني التوي وأدور في طقوسك الوحشية الحامية. وكانت عابدة له حتى استعجب مصطفى سعيد وقال: ألأن هناك من ولد على خط الاستواء تجد بعض المجانين من الناس يدعونه عبداً وبعضاً يؤلهونه. فأين يقع الوسط السعيد.
لقد استوعب مصطفى الحضارة الغربية ولكنها كسرت جُبارته. وقد حمل أسفار تلك الحضارة إلى غرفته العجيبة النشاز في القرية السودانية التي لجأ إليها بعد عودته من إنجلترا. وبلغ من محو هذه الحضارة لهويته أنه فشل فشلاً ذريعاً في كتابة ترجمة لنفسه. فلما جاس الراوي خلال محتويات تلك الغرفة عثر على ورقة انتوى مصطفى أن يدون عليها ترجمته الذاتية ولكنه لم يكتب فيها حرفاً عن نفسه. وهكذا ودع الرجل الدنيا ولم ير في حياته ما يروي عنه لغيره. وبدا من بياض ورقة سعيد وسواد نصوص الغرب المعيارية في الثقافة والذوق والمعارف، التي شغلت الغرفة، أن مصطفى قد أفحمه الغرب فلم ينبس ببنت شفة عن نفسه.

IbrahimA@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: مصطفى سعید فی المحکمة عن نفسه

إقرأ أيضاً:

هآرتس: الديمقراطية والصحافة الحرة في الغرب تتراجعان

حذرت صحيفة هآرتس اليسارية -في افتتاحيتها- من أن الديمقراطية والصحافة الحرة في تراجع جراء ما تسميه حرب النخب الثرية في الولايات المتحدة والغرب وإسرائيل على المبادئ الديمقراطية وحرية الصحافة.

وجاء المقال تعليقا على قرارٍ هذا الأسبوع للملياردير الأميركي جيف بيزوس (مؤسس ورئيس مجلس إدارة شركة أمازون ومالك واشنطن بوست) فرض سياسة جديدة لنشر مقالات الرأي في الصحيفة.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2يديعوت أحرونوت: 5 إشارات تحذيرية سبقت هجوم 7 أكتوبرlist 2 of 2صحف عالمية: اتفاق المرحلة الثانية أكثر صعوبة وحرب غزة قد تعودend of list

وبموجب هذا القرار، سيكون التركيز على "الحريات الشخصية والأسواق الحرة" ولن يُسمح بنشر مقالات تتعارض مع هذه القيم، كما تفيد هآرتس.

قرار مدروس

واعتبرت هآرتس أن هذا ليس قرارا بريئا من مالك صحيفة له أجندة أيديولوجية، بل ولا ينفصل عن المزاج السائد في عالم التجارة والأعمال الأميركي منذ انتخاب دونالد ترامب رئيسا.

ورأت في القرار أيضا "تملقا صارخا" لترامب من ناحية، وهو ما اتضح فعليا في حفل تنصيبه. ومن ناحية أخرى، هناك انخراط متزايد من قبل مجموعة من المليارديرات، معظمهم من عالم التكنولوجيا، في عمل الإدارة الأميركية.

ووفقا للصحيفة الإسرائيلية، فإن هذا التطور تجلى بشكل خاص في التدخل السياسي لأغنى رجل في العالم (إيلون ماسك) الذي كلفه ترامب بمهمة ترشيد أداء الأجهزة الحكومية، ولكنه يتعامل بقسوة في إنجازها مما أضر بالمؤسسات الحيوية.

إعلان

وماسك ليس وحده الذي نالته سهام هآرتس، إذ طالت أيضا مارك زوكربيرغ الرئيس التنفيذي لشركة ميتا. وقالت الصحيفة إن الأخير سرعان ما انساق مع الرياح التي تهب من البيت الأبيض عندما ألغى آلية التحقق من الحقائق في منصة فيسبوك.

ومع إقرارها بحق وسائل الإعلام في الترويج لقيم ورؤى عالمية معينة، إلا أن هآرتس ترى أن قرار بيزوس بالحد من حرية التعبير الصحفي في واحدة من أهم الصحف في العالم لا يمكن النظر إليه بمعزل عن العمليات الأعمق التي تهدد الصحافة الحرة في العديد من البلدان التي تولى فيها قادة مناهضون لليبرالية زمام السلطة.

الأوليغارشية وترامب

وزعمت هآرتس أن الإضرار بحرية الصحافة في هذه البلدان جزء معلن ومتعمد من حرب هؤلاء القادة على المبادئ الديمقراطية.

فالجمع بين رئيس أميركي مدفوع بروح انتقامية يتعذر التنبؤ بتصرفاته، وحكومة مؤلفة من مجموعة صغيرة من فاحشي الثراء (الأوليغارشية أو حكم الأقلية) هو مزيج يقود الولايات المتحدة إلى حقبة خطيرة للغاية من تقويض الضوابط والتوازنات في أقوى ديمقراطية في العالم، تسير خلف ركابها دول أخرى، على حد تعبير المقال.

وحسب الصحيفة، فإن بيزوس ليس سوى مثال واحد على الانزلاق الخطير للنخب إلى هذا الدرك. وفي إسرائيل أيضا، تواجه الصحافة مخاطر متزايدة من قبل حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو للحد من استقلاليتها.

وتوضح افتتاحية هآرتس أن هذه التهديدات تمثلت في تدخل مالكي وسائل الإعلام خفية في شؤونها، كما هو موثق بالقضايا الجنائية ضد نتنياهو، ومحاولات الاستيلاء من الداخل، كما حدث بالقناة 13 التلفزيونية؛ وتشريعات صريحة مثل مشاريع القوانين التي تقدمها الحكومة ليل نهار ضد هيئة البث العام "كان" وهآرتس.

وخلصت إلى أن الصحافة الحرة تعتبر أساسية لحماية الديمقراطية، وأن مالكي الصحف يتحملون مسؤولية كبيرة في تحقيق التوازن بين مصالحهم الشخصية والمصلحة العامة، في وقت يتراجع فيه الوعي بهذه المسؤولية، مما يهدد مستقبل النظام الديمقراطي.

إعلان

مقالات مشابهة

  • في ثاني حلقات الإمام الطيب: الاختلاف بيننا وبين الشيعة فكري وليس في الدين
  • امارة كرنقو انقلو تحتفل بانتصارات القوات المسلحة و الذكرى الخامسة لتأسيس
  • في الذكرى السادسة للحراك الشعبي.. أية جزائر جديدة؟
  • ابننا العزيز الرشيد أحمد الطيب عبد الحفيظ
  • مي عمر تكشف أهم حلقات مسلسلها "إش إش" في رمضان 2025
  • اليوم السبت .. الذكرى 69 لتعريب قيادة الجيش العربي
  • الإمام الطيب وأمة واحدة وقيم إنسانية.. أبرز برامج حكماء المسلمين خلال رمضان
  • هآرتس: الديمقراطية والصحافة الحرة في الغرب تتراجعان
  • سيمون تحيي الذكرى السنوية لوفاة الفنان أبو بكر عزت
  • تقارير: ريال بيتيس يعطي الضوء الأخضر لرحيل روكي إلى بالميراس