وُلِدَ "فاليريو غافنكو" (Valeriu Gafencu) في ٢٤ يناير ١٩٢١، في القسم الشّماليّ مِنْ "رومانيا" بالقرب مِنَ الحُدُودِ الرّوسيّة.
وكان والداه مَسيحيَّين أرثوذكسيَّين مُؤْمِنَيْن. نُفِيَ أبوه إلى "سيبيريا" عام ١٩٤٠ بسبب نشاطاته المُناصرة للحكم الرّومانيّ.
فعندما كان في الثّانويّة التحق "فاليريو" بحركةِ شبيبة أرثوذكسية عُرِفَت بـ"أخويّة الصّليب".
إبّان الحرب العالميّة الثّانية، أُدرجت هذه الأخويّة في لائحة المُنظّمات غير القانونيّة، فجرى توقيف "فاليريو" وحُكم عليه بـ٢٥ سنة من الأعمال الشّاقة. كان عمره آنذاك ٢٠ سنة.
حاول أصدقاؤه وأساتذته الدّفاع عنه في محاكمته مبيّنين براءته وميزاته الإنسانيّة الرّاقية ولكن دون جدوى. أُرسل أوّل الأمر إلى سجن اسمه "آيود".
كانت سنواته الأولى فترةً أخذ فيها يتأمّل بميراثه المسيحيّ. ثمّ ما لبث أن التزم حياةً كلّها صلاة، وكان يقرأ بلهفة كتابات الآباء القدّيسين.
ورغم أنّ "رومانيا" كانت تحت سلطة ديكتاتوريّة أثناء الحرب إلّا أنّ الحياة في السّجن لم تكن قاسية وكانوا يؤمّنون للسّجناء بعض الحقوق الإنسانيّة الأساسيّة: كان باستطاعتهم أن يذهبوا إلى الكنيسة ويعترفوا لدى كاهن ويُساهموا القدسات، حتّى إنّهم كانوا يلتقون ويقرأون الكتب الّتي يختارونها.
لذلك قرأ "فاليريو" الكثير: الكتاب المقدّس، والفيلوكاليا وآباء الكنيسة القدّيسين.
أثناء الحرب، اعتُقل عدد كبير من الكهنة والرّهبان لأسباب سياسية مختلفة ولحقهم آخرون فيما بعد تحت الحكم الشّيوعيّ، فكان للسّجناء الرّاغبين في حياة روحيّة مجموعةٌ من البشر يستطيعون اللّجوء إليهم لإرشادهم.
فكّر "فاليريو" كثيرًا بموضوع الخلاص في سنواته الأولى. وفي رسالة له عام ١٩٤٢ كتب: "إنّ الإيمان في الحياة هو كلّ شيء، فمن دونه يكون المرء ميتًا". حاول أن يعيش مع رفقائه السّجناء بكلّ تواضع ممارسًا المحبّة المسيحيّة.
وإذ استأثر به التّفكير بالخطيئة، شاء أن يدخل ديرًا عندما يتمّ إطلاق سراحه. كان يعترف باستمرار ويصلّي كثيرًا في زنزانته. وقد وضع مع مجموعة من السّجناء المكرّسين قانونًا صلاتيًّا لا يتوقّف لا ليلًا ولا نهارًا.كانوا يصلّون معًا كما لو في الكنيسة، وأيضًا كلّ على حدة في زنزانته.
استطاع "فاليريو" بفضل مشاعره الأرثوذكسية الأصيلة ولطفه وحياته الملأى بالصّلاة أن يؤثّر على عدد كبير من النّاس، ومنهم من لم يلتقِ به شخصيًّا ولكن عرفه ممّا كان يُروى عنه حتّى قبل رقاده. لُقِّب بـ"قدّيس السّجون".
علّمته سنواته الثّمانية الأولى في السّجن أن يترسّخ في الإيمان (الأمر الّذي كان ضروريًا ليتشدّد فيما بعد).
عندما تغيّر الحكم في "رومانيا" تغيّرت أيضًا الأوضاع في السّجن بشكل جذريّ: فقد حُرم السّجناء من كلّ التّسهيلات الّتي كانت مؤمنة لهم قبلًا وصاروا مضطهدين لأجل إيمانهم (كذلك لاشتراكهم في أخويّة الصّليب).
وفي تلك الفترة كانت أقوال "فاليريو" كمثل شهب نار تدفئ وتُعزّي كلّ من حوله. عندما كان في "آيود" التقى، مرّة، رجلًا فقيرًا فأعطاه سترته الجامعيّة. هذه الحادثة يذكرها كاهن في باريس اسمه "فاسيلي بولدونو" أُدخل سجن "آيود" وعليه فقط قميصٌ وبنطلونٌ وقد أعطاه أخوه الأصغر المكابد معه سترةً دافئة.
بين العامَين ١٩٤٦ و١٩٤٨ أُرسل "فاليريو" مع سجناء أكبر منه سنًّا إلى معتقل للعمل في حقول قرب "غالدا". لم يكن النّظام بعدُ صارمًا إذ كان للسّجناء وقتٌ، بعد أن يُنهوا أشغالهم، كي يصلّوا وكانوا يعيشون في مكان واسع ويلتقون يوميًّا.
وعام ١٩٤٨، أُغلق هذا المعتقل وأُعيد السّجناء إلى "آيود" حيث واجهوا الحكم الشّيوعي وسعيه ليفرض نظامه الملحد.
وبعد وقت قصير أُرسل كلّ الطّلاب إلى سجن خاص يُدعى "بيتيشتي"، حيث كان يجب "إعادة تثقيفهم" (هناك جرت التّجارب الفظيعة والمعروفة جدًا عن سجن بيتيشتي). ثمّة أمور كثيرة تُروى عن هذه الظّاهرة المرعبة وعن الصّمود المسيحيّ المميّز الّذي حصل هناك.
بقي "فاليريو" في "بيتيشتي" فترةً قصيرة فقط لأنّه، بسبب التّعذيب والبرد والجوع، أُصيب بمرض السّل وأُرسل إلى مستشفى السّل الإصلاحيّ المعروف بـ"تارغو أوكنا".
وقد رأى في ذلك عناية الله ورحمته إذ أعتقه من العذابات الرّهيبة والأفظع الّتي أبدعها الإنسان والّتي أخذت تُمارس في "بيتيشتي" بعد وقتٍ قليل مِنْ رحيله.
كان النّاس الّذين يلتقون به خلال هذه الفترة الصّعبة من "إعادة التثقيف"، المُتّبعة من قبل النّظام الشّيوعي، يرَون فيه الرّسول بولسَ جديدًا إذ كان يؤاسيهم ويشجعهم ويُغنيهم روحيًّا. لذلك كان المرضى في سائر الغرف يجتمعون إلى سريره ويستمعون إلى كلامه فيحظون بالقوّة لمواجهة الضّيق الّذي كانوا يلاقونه. كانت قوّة محبّته تشعّ على وجهه كلّ حين.
كانت قُدْرَة "فاليريو" على التّضحية فائقة: لم يكن يفرّق بين أي إنسان وإنسان مهما كان أصله أو دينه أو انتماؤه السّياسيّ. مرّة، رغم مرضه الشّديد، وهو على شفير الموت، فضّل أن يقدّم الدّواء المضاد للسّل (الّذي كان الحصول عليه صعبًا ونادرًا) لمريضٍ آخر يهوديٍّ كان على شفير الموت. هذا اقتبل الإيمان المسيحيّ فيما بعد وصار قسًّا بروتستنتيًّا وكتب الكثير عن ذاك الّذي أنقذ حياته.
شخّص الطّبيب في السّجن أنّ "فاليريو" مصاب بالزّائدة الدّوديّة ويجب أن يخضع لعملية جراحيّة. أرسل تقريرًا بذلك لإدارة السّجن كي يتمّ نقله إلى مستشفى في المدينة لإجراء العمليّة. وإنّ المسؤول عن السّجن جاء إلى "فاليريو" وقال له: "إنّ حياتك بين يدَيّ. إذا لم تُجرَ لك هذه العمليّة، ستموت!". فابتسم "فاليريو" متفهمًا وأجاب: "إذا كانت حياة الإنسان هي رهن بآخر، فإنّه تقع على هذا الأخير مسؤوليّة كبيرة!. ولكن إن أدرك الجميع أنّ حياتهم في يد الله، فسيقيمون أهميّة كبيرة لحياة قريبهم!". فقال له المسؤول: "أنت مجنون!"، وأرسله إلى المستشفى في المدينة لإجراء العمليّة بحراسة مشدّدة. بعد أن أنهى الطّبيب العمليّة قال له "فاليريو" إنّه شعر بكلّ شيء لأنّ التّخدير لم يكن له مفعول. غير أنّه لم يتفوّه بكلمة أثناء الجراحة فقط كان جبينه يتصبّب عرقًا. عاد "فاليريو" إلى السّجن، فقال له المسؤول: "انظر لقد كنت على شفير الموت!. شئنا أن نبيّن لك أنّ حياتك هي بين أيدينا. ربّما الآن ستغيّر فكرك وتتعاون معنا. سنعطيك الدّواء المضاد للسّل
وستتلقّى كلّ الحزم الّتي تبعثها لك عائلتك وهل تعرف ماذا سيحصل فيما بعد أنت إنسان ذكيّ وستكون نافعًا لنا. نحن نعرف أنّ السّياسة لا تهمّك ولكنّ الدّين أليس البطريرك وكلّ كهنته إلى جانبنا الآن؟ لماذا لا تنضم إليهم؟. ستربح الكثير!".
فأجابه "فاليريو": "أشكرك لأنّك سمحت أن تُجرى لي العمليّة. لكن من الآن فصاعدًا آلامي ستدوم لفترةٍ أطول... أما بالنّسبة لكلّ ما تقترحه، فإنّ المسألة بينك وبيني هي مسألة ضمير. فإنّي اخترتُ الموت كي أحظى بالحريّة الرّوحيّة. من الجيّد أن نتكلّم عن الحقيقة بصراحة، وأنا خادم للحقيقة. لست أدين أحدًا بل أنا شاهدٌ للمسيح. ليس هناك ما تحت الشّمس يمكنه أن يحيا من دون الله. أنت لا تستطيع أن تقبل المسيح وأنا لا يمكنني أن أقبل الموت الرّوحيّ".
"سبقتُ وقلتُ لكَ أنّك مجنون سوف أكتب تقريرًا بشأنك. أنت ثوريّ فاشستيّ عدوّ للشّعب، في خدمة السّرّاق الأميركيّين!. نحن نعرف كيف نتعامل مع أمثالك!. لا يليق بك سوى الموت!. اذهب ومُت مع مسيحك
"باستطاعتك أن تقتلني الآن، ولكن ليس باستطاعة أحد أن يقتله هو (أي المسيح). إنّه حجر عثرة لكلّ كبرياء. اعرف جيّدًا أنّ المسيح هو القوّة الوحيدة الّتي باستطاعتها أن تُعتق البشريّة من العذاب ومن الخطيئة وتخلَّ عن كلّ هذه التّرّهات فإنّ الحقيقة إلى جانبنا
"الحقيقة هي المحبّة الّتي تضحّي بنفسها من أجل الفقير والمضطهَد!".
"هل أنت مختلّ؟ هل، وأنت على شفير الموت، تعطيني مواعظ ميستيكيّة هل تريد أن تقنعني أنا أيضًا؟. لقد تماديتَ كثيرًا
أغمض "فاليريو" عينيه إذ كان متعبًا للغاية وأخذ يُصلّي لهذا الإنسان التّعيس كي يصل إلى معرفة الحقّ، أمّا هو فتركه محتارًا بأمره.
وتوفي "فاليريو" في ١٨ فبراير عام ١٩٥٢، في "تارغو أوكنا". كلماته الأخيرة كانت: "لا تنسوا الصّلاة إلى الله كي نلتقي هناك!. إنّ الله منحني القيود الّتي تحرّر الرّوح وأخذ منّي الحريّة الّتي تأسر روحي! لا نعرف مكان ضريحه إذ إنّ السّجناء في تلك الفترة كانوا يدفنون في مدافن جماعيّة وكانت وجوهم تُهشّم كي يتعذّر التّعرّف عليهم. غير أنّ "فاليريو" طلب أن يُدفن مع صليبٍ فضيٍّ صغير في فمه وربّما، بإذن الله، سوف يتمّ التّعرّف على رفاته.
بقي "فاليريو" في ذاكرة كلّ الّذين عرفوه بقية حياتهم. وإنّ كلّ كتاب يستذكر الفظائع الشّيوعيّة الّتي حصلت في السّجون الرّومانيّة يأتي على ذكر اسم قدّيس السّجون.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: أقباط
إقرأ أيضاً:
أحمد حافظ: أول عمل قدمته كان «45 يوم».. وجهة الإنتاج كانت متخوفة
أقام مهرجان القاهرة السينمائي الدولي بدورته الـ45، في الثانية عشرة ظهر اليوم، الخميس 21 نوفمبر، على المسرح المكشوف بدار الأوبرا المصرية، محاضرة مع أحد أشهر مونتيري الأفام في مصر أحمد حافظ، ضمن فعاليات أيام القاهرة لصناعة السينما، وقامت بإدارتها المخرجة مريم أبو عوف.
وقال أحمد حافظ: “أول فيلم قمت بعمل مونتاج له كان ”45 يوم"، وقد كانت شركة الإنتاج متخوفة في البداية من إسناد العمل لي، خاصة أنني لم أعمل مساعدا من قبل".
وأضاف: “لست متخوفا من الذكاء الاصطناعي، لأنه من الممكن أن يسهل على المونتير”.
يقدم "حافظ" خلال هذه الجلسة، التي تديرها المخرجة مريم أبو عوف، كواليس عمله في أفلام شهيرة، ويمنح الحضور نظرة تفصيلية عن حرفة تشكيل السرد من خلال فن المونتاج.
ويشارك حافظ عبر المحاضرة رؤيته حول عملية اتخاذ القرار الإبداعي والتعاون مع المخرجين والدور الحيوي للمونتير في سرد القصة عبر الشاشة.
فعاليات أيام القاهرة لصناعة السينما (CID)، والتي تقام في الفترة من 15 إلى 20 نوفمبر 2024، تمثل منصة حيوية تهدف إلى دعم وتعزيز مشروعات السينما، وتقديم فرص نادرة للتفاعل بين صناع الأفلام من جميع أنحاء العالم، وتشهد هذه الفعالية مشاركة متميزة من مخرجين، منتجين، وخبراء في مختلف جوانب الصناعة السينمائية، يجتمعون لاستكشاف أحدث الاتجاهات وتبادل الأفكار والتجارب.
تتضمن فعاليات أيام القاهرة لصناعة السينما ورش عمل وجلسات حوارية ونقاشات تتناول تحديات واحتياجات السوق، ما يعزز من فرصة المساهمة في نمو وتطوير مشاريع سينمائية جديدة ويُعيد تأكيد مكانة مصر كمركز إقليمي للإبداع السينمائي.