يمر السودان في وقتنا الراهن بظروف سياسية بالغة التعقيد وحرب ضروس ضد كل الشعب السوداني ومقدراته ودولته، ألقت هذه الظروف بظلالها على التوصل لتوافق سياسي منذ سقوط حكم الإنقاذ، فوهن عزم بعض ساستنا وقيادات الجيش لشيء في نفوس بعضهم، فارتمى في أحضان الخارج، ووصلت حالة اليأس ببعض القوى المدنية لدرجة أن تعلقت أفئدتهم بالخارج دون تحفظ أيضا بحثا عن أمل ضائع وأحلام مبعثرة.

وليس هنالك أكثر إيلاما من أن يصبح البحث عن الحلول خارج حدود الوطن، رغم عدالة قضية الحرب ضد النهب والسلب واحتلال الأعيان المدنية والممتلكات الشخصية وتدميرها والاغتصاب وتحطيم البنى التحية للسودان ومحاولة الإحلال الديمغرافي للتركيبة السكانية للبلاد.

في ظل هذه التطورات طاف بمخيلتي ما كتبه المفكر الجزائري الكبير الأستاذ مالك بن نبي -رحمه الله- في كتابه “شروط النهضة” التي وضع لأحد أبوابه عنوان أسماه “القابلية للاستعمار” والتي تعني: أن دخول المستعمر إلى دول العالم الثالث (رغم اختلافي قبول تسمية العالم الثالث) أو الدول العربية والإسلامية ليس من منطق أنه قوي، ويمتلك عتادا حربيا متطورا أو جنودا مدربين بشكل جيد، ليس هذا ما جعلهم يحتلون أرضنا، بل إن ما جعلهم يحتلون أرضنا هو نحن، فقبل أن يشرع المستعمرون في تحركاتهم الاستعمارية، كانت نفسية الخنوع والانهزام قد تشكلت لدى الأفارقة والعرب والمسلمين وقادتهم خاصة، مما سهل على المستعمر مأموريته، فتمكنت آلته المدمرة من السيطرة على الدول النامية والأقل نموا المختلفة في كل أرجاء العالم في وقت قياسي.

وتأسيسا على حديث بن بني، فإن كان الحديث عن الاستعمار، بل الاستخراب (كما يسميه بروفسير أحمد علي الإمام رحمه الله) قد مضى زمنه بحسبان أنه لم يعد هنالك ثمة استعمار (استخراب) في بلداننا حاليا، إلا أن ذلك المفهوم أراه ماثلا في كثير من الإشكالات السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية التي تفتك بالدول العربية والإفريقية، ومن ضمنها السودان، فلضعف عزيمة بعض هذه الدول ظلت العديد من القضايا الداخلية لهذه الدول ترتبط طواعية أو قسرا بالعوامل الخارجية، وأقصد هنا تحديدا مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة، دول الجوار ذات الِيَسارَ المالي والدول الغربية الكبرى خاصة تلك صاحبة العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي، التجمعات الإقليمية والمنظمات الدولية مع العلم أنه على الرغم من طغيان وهيمنة النظام العالمي الذي نشأ على نتائج الحرب العالمية الثانية التي مكنت الحلفاء من الهيمنة من خلال هذه المنظمات والمؤسسات، إلا أنه دون شك لا مناص من التعامل مع هذه الكيانات الخارجية في إطار الحفاظ على المصالح القومية للدول النامية والأقل نموا باعتبار أن ذلك شرا لا بد منه، وقد نجح بعض هذه الدول إلى حد ما من انتهاج سياسية خارجية تراعي مصالحها حتى وإن في حدها الأدنى.

السودان مثله ومثل هذه الدول ظل منذ تكوين الدولة الحديثة في القرن التاسع عشر له ارتباط بالعالم ومحيطه الإقليمي سواء أكان عبر العلاقات الدبلوماسية الثنائية أو المتعددة أو المواثيق الدولية، ولكن التعويل على العامل الخارجي ظل حاضرا بقوة من أجل إحداث تغيير في شؤون السودان الداخلية وربط تلك القضايا بدول أو تجمعات إقليمية أو منظمات دولية باعتبارها طوق النجاة لحلحلة التعقيدات التي نعانيها. جعل ذلك الارتباط أذهان بعضنا خاصة الطبقة السياسية مصابة بجرثومة القابلية للاستعمار التي تحدث عنها مالك بن نبي، فطفق ومازال يطفق البعض بحثا عمن يُعينه، لتحقيق أهدافه السياسية الضيقة، ولو أدى ذلك لارتهان قراره بالعامل الخارجي، وهذا للأسف ما نشاهده حاليا ومنذ أكثر من مائة عام وقادة الأحزاب السياسية في السودان يبحثون عن الدعم الخارجي لتحقيق الطموح السياسي لهذه الأحزاب وقادتها حتى، ولو كان ذلك على حساب الوطن أو حتى الوقوع في شباك الخيانة والعمالة كما نراه في سلوك بعض القوى المدنية والسياسية.

الناظر لتاريخ الطبقة السياسية السودانية في تاريخ السودان الحديث تتجلى له إصابة عقول بعض هذه الطبقة بداء القابلية للاستعمار، فانظر إلى زيارة وفد زعماء السودان في عام 1919م حيث رأت حكومة السودان حينها، نزولاً عند رغبة بريطانيا أن ترسل وفدا سودانيا، أسوة بالبلاد الأخرى الخاضعة للاستعمار (الاستخراب) ليرفع إلى الملك جورج الخامس تهنئة شعبه بما أحرزته بلاده وحلفاؤها من نصر على ألمانيا في الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) وكان الوفد السوداني يتألف من الزعماء الدينيين، وبعض العلماء وزعماء القبائل، يتقدمهم السيد “علي الميرغني” زعيم طائفة الختمية والسيد عبد الرحمن المهدي زعيم طائفة الأنصار وبعض مرافقيهم. يحدث هذا رغم بلاء الثورة المهدية واستبسال جيوشها واستشهاد حوالي 18 ألف شهيد و30 ألف جريح في واقعة كرري ضد الإنجليز ورغم استغلال بريطانيا للسودان، بل إن التاريخ يحكي أن السيد عبد الرحمن أهدي سيف جده المهدي الذي قاتل به الاستخراب إلى الملكة فكتوريا ملكة بريطانيا التي أرجعت السيف للسيد عبد الرحمن المهدي حاثة إياه للاحتفاظ به للدفاع عن الإمبراطورية البريطانية.

د. أحمد عبد الباقي

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: هذه الدول

إقرأ أيضاً:

«العدل والمساواة» و«الاتحادي الموحد» يرفضان الحرب ويدعوان لحل شامل للأزمة السودانية

دعا الطرفان إلى الحفاظ على وحدة السودان شعباً وأرضاً، ومقاومة كافة المحاولات الرامية إلى تمزيق النسيج الاجتماعي.

الخرطوم: التغيير

أعلنت حركة العدل والمساواة السودانية والحزب الاتحادي الموحد في بيان مشترك، اليوم الثلاثاء، رفضهما القاطع للحرب كوسيلة لحل النزاعات في السودان.

وأكد الجانبان التزامهما بإنهاء النزاع والعمل على مكافحة العنصرية والجهوية وخطاب الكراهية، والذي أشارا إلى أن حزب المؤتمر الوطني المحلول والحركة الإسلامية يروجان له.

وجاء البيان بعد سلسلة مشاورات بين الطرفين حول تدهور الأوضاع في البلاد نتيجة استمرار الحرب وتصاعد مخاطرها.

ودعا الطرفان إلى الحفاظ على وحدة السودان شعباً وأرضاً، ومقاومة كافة المحاولات الرامية إلى تمزيق النسيج الاجتماعي، كما شددا على ضرورة التصدي لأسباب الأزمة الوطنية الممتدة منذ عقود، والتي أدت إلى انفصال الجنوب وتصاعد النزاعات الداخلية.

وأشارا إلى أن الحرب الحالية، التي اندلعت في 15 أبريل، يجب أن تكون آخر الحروب، مشددين على أهمية تأسيس دولة تقوم على أسس الحرية، العدالة، والمساواة، مع التزام بمبدأ المواطنة المتساوية.

كما طالب البيان بوقف فوري وغير مشروط للحرب وفتح جميع المعابر للسماح بوصول المساعدات الإنسانية، داعين المجتمع الدولي والإقليمي لممارسة الضغوط اللازمة على الأطراف المتصارعة للوصول إلى وقف إطلاق نار شامل وحظر القصف الجوي والمدفعي في المناطق المدنية، لتهيئة الظروف لعودة النازحين واللاجئين إلى ديارهم بسلام.

وأكد الطرفان على ضرورة محاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان، ودعيا الأطراف المتصارعة للالتزام بالقوانين الدولية والتعاون مع لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة لضمان محاكمات عادلة ووضع حد للإفلات من العقاب.

وحث البيان القوى السياسية والمدنية السودانية، وخاصة المشاركين في ثورة ديسمبر، على تبني رؤية سياسية شاملة تعزز بناء دولة مدنية ديمقراطية تُحترم فيها حقوق الجميع، مع وضع دستور دائم يعالج قضايا التنوع والدين ويؤمن احتياجات الشعب من أمن واستقرار.

الوسومالاتحادي الموحد حركة العدل والمساواة السودانية سليمان صندل محمد عصمت وقف الحرب

مقالات مشابهة

  • الخارجية المصرية تجدد رفضها التدخل الخارجي في الأزمة السودانية
  • بعد حصار الدعم السريع ... 79 قتيلا بولاية الجزيرة السودانية
  • أمين الجامعة العربية يتحدث عن القوات المسلحة السودانية والمساس بها وتحديد موعد لزيارته السودان
  • أطراف الحرب السودانية ترحّب بفوز «ترامب» بالانتخابات الأمريكية
  • الجامعة العربية أبدت استعدادها للتجاوب مع مطالب الحكومة السودانية ومساعدة السودان للخروج من الأزمة
  • نائب:الطبقة السياسية فاشلة وفاسدة ولا تحترم توجيهات السيستاني
  • بيان مشترك من حركة العدل والمساواة السودانية والحزب الإتحادي الموحد
  • سفارة السودان في سلطنة عمان تعلن بشرى لطلاب الشهادة السودانية
  • ثعابين عملاقة تظهر على ضفاف النيل بجزيرة صاي السودانية وتثير خوف السكان
  • «العدل والمساواة» و«الاتحادي الموحد» يرفضان الحرب ويدعوان لحل شامل للأزمة السودانية