اللواء الفاتح عروة شخصية مثيرة للجدل ظهر في المشهد العام بعد سقوط نظام نميري. كان اللواء ضابط أمن متوسط الرتبة أو أعلي قليلا خلال السنوات الأخيرة من نظام النميري. شارك في ترحيل اليهود الفلاشا إلي اسرائيل.
كانت عملية موسى عملية سرية لنقل اليهود الإثيوبيين – المعروفين باسم مجتمع “بيتا إسرائيل” أو الفلاشا – من أثيوبيا إلي اسرائيل عبر السودان في عام 1984 إلي بداية 1985.
وبعد سقوط نظام النميري تمت محاكمة عروة بتهمة نقل يهود الفلاشا وكانت المحاكمة على شاشة التلفزيون. علي ما أذكر كان اللواء عروة شاهد ملك وكانت المحكمة مليئة بالمسرحيات وكان اللواء جريئا وعينو قوية.
خلال الفترة الديمقراطية القصيرة، انتقل عروة للعمل لدى المملكة العربية السعودية في مجال خبرته: الاستخبارات والشؤون العسكرية.
وعندما قام الإخوان بانقلابهم عام 1989 واستولوا على السلطة، انضم إليهم عروة وعمل في نفس مجالاته القديمة ولكن بعد فترة عمل في البعثات الدبلوماسية السودانية في الولايات المتحدة وانتقل بعد ذلك ليشغل منصب رئيس شركة زين للاتصالات وبعدها تقاعد في الولايات المتحدة الأمريكية.
هذه المعلومات معروفة، لكن الفيسبوك يضم مختلف الفئات العمرية، ولهذا أكرر ما هو معروف للكثيرين ولكنه قد يغيب علي شباب.
وأهم ما أريد قوله هو أن شهادة عروة للتاريخ خطوة إيجابية ومرحب بها. من المهم دائمًا أن يقوم الذين شاركوا على مستوى عالٍ في الشؤون الوطنية الرئيسية بتوثيق ما حدث في أزمنتهم. وهذا أفضل من إخفاء التاريخ الوطني والحفاظ عليه سرا، وهو عكس التوثيق والشفافية.
وبالطبع هذا لا يعني أن علينا أن نصدق كل ما يقوله عروة أو ما يقوله أي شخص آخر. لكن المادة التي يقدمها تؤمن مصادر مهمة للرأي العام والمؤرخين لتحديد الجزء القابل للتصديق والجزء المشكوك فيه في سرديته.
حتى الأكاذيب يمكن أن تساعد الرأي العام على التوصل إلى استنتاجات مهمة، وفي بعض الأحيان يمكن مقارنة أكاذيب المصادر المختلفة لمساعدة الرأي العام على مقاربة الحقيقة.
رغم ملاحظتي مطابقة الكثير مما قاله عروة للحقيقة التاريخية لكني لا أقول إن كل ما قاله عروة قيم أو صادق أو العكس، أنا فقط أقول إن التوثيق له قيمة عظيمة وتحتاج إلي شجاعة لانه في أقل تقدير يفتح للراي العام فرصة مساءلة المتحدث والتمحيص في روايته وردمه إن لزم الأمر أو لم يلزم..
كما أعتقد أن المقابلات التي أجراها سعد الكابلي يمكن أن تقدم مساهمات مهمة في تسجيل تاريخنا في مختلف المجالات. ليس من الضروري أن نحب سعد أو ضيوفه حتى نقدر العمل الذي يقوم به.
ويتعين على الإعلاميين إجراء مقابلات مع من لديهم أشياء مهمة ليقولوها سواء أحببناهم أم لا. من المؤكد أن الأعداء يستحقون أن تتم مقابلتهم واستجوابهم من أجل بناء فهم دقيق بالتاريخ.
لذلك فان كل المساهمات الإعلامية والفكرية تظل عملا ايجابيا بغض النظر عن عمق المحتوي فالقحة السلمية دائما أحسن من الركود والسكوت والتعتيم علي ما حدث بهدف إخفاء تاريخ مهم يخشي من شارك فيه إطلاع الرأي العام علي ما حدث ثم لا يجد في نفسه حرجا أن يتهم خصومه بإنعدام الشفافية.
معتصم اقرع
معتصم اقرع
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
حرب لا يمكن الفوز بها.. وواشنطن تضع نهاية "اللعبة" في أوكرانيا!
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
حذّر الكثيرون منذ وقت مبكر من أن الحرب الأوكرانية لا يمكن لأي طرف الفوز فيها وأن الجميع خاسر، بل ذهب صمويل شارب إلى أكثر من ذلك؛ وهو عضو فريق تخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأمريكية خلال إدارة أوباما ومؤلف مشارك لكتاب "الجميع يخسر: الأزمة الأوكرانية والمسابقة المدمرة لأوراسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي". وقد تنبأ "شارب" قبل ثلاث سنوات بنهاية قد تكون صادمة للحرب في أوكرانيا بسبب غموض الهدف والخطة. يقول: "كان الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022 لحظة فارقة للولايات المتحدة وحلفائها، وكانت أمامهم مهمة عاجلة وهي مساعدة أوكرانيا في الرد على روسيا، لكن دون أن يكون هناك وضوح لكيفية وموعد وقف الحرب".
ولعل من يتأمّل موقف واشنطن داخل مربع الحرب الأوكرانية يضع يده على الفور على سمة من سمات التحرك الأمريكي الخارجي وهي الغموض، وهذا لا يقع تحت بند ارتكاب أخطاء سياسية بل هو غموض مقصود ومتكرر، ومن يفحص الحروب التي أعلنتها وشاركت فيها الولايات المتحدة خلال القرن الأخير يتأكد أن الغموض حول نهاية المهمة كان سمة دائمة لتلك التدخلات. الحرب الأفغانية وحرب العراق نموذجان مليئان بالدروس المشابهة، ومن قبلهما حرب فيتنام التي تحولت إلى كابوس للأمريكيين وفشل ذريع للتدخل الأمريكي الخارجي.
وقد اتفق مستشار الأمن القومي جيك سوليفان في يونيو 2022، مع ما قاله شارب، عندما أشار إلى أن الولايات المتحدة "امتنعت في الواقع عن وضع ما تعتبره نهاية اللعبة؛ لقد ركزنا على ما يمكننا القيام به اليوم، وغدًا، والأسبوع المقبل، لتقوية يد الأوكرانيين في ساحة المعركة إلى أقصى حد ممكن.. وكان مسار الحرب بعيدًا عن الوضوح في تلك المرحلة. ومع امتداد المعارك وزيادة الخسائر أصبح من الصعب على الولايات المتحدة التحدث عن وجهة نظرها بشأن هدف الحرب التي لا تخوضها قواتها".
صحيح أن التوقعات بانتهاء "اللعبة"-كما وصفها سوليفان-تفترض أن يقرر الأوكرانيون متى يتوقفون، لأنهم هم من يموتون من أجل بلدهم، بغض النظر عما قد تريده واشنطن. لكن كييف ظلت تبحث عن النصر المزعوم رغم تعاظم الخسائر. وجاء قرار وضع حدّ للسيناريو الأسوأ مع وصول ترامب للبيت الأبيض، لأن الولايات المتحدة ضجرت من دفع المزيد من التمويلات بالمليارات دون جدوى، خاصة بعد أن أوضحت سنوات القتال أن أيًا من الطرفين لا يملك القدرة-حتى بمساعدات خارجية-لتحقيق نصر عسكري حاسم على الطرف الآخر.
ومن الواضح أن العوامل المؤدية إلى صراع مدمر كانت مؤهلة للاستمرار لسنوات مقبلة دون نتيجة نهائية. وظل العالم ينظر ويتأسى ويتأسف لأنه مجرد رقم صغير في هذه الحرب. والجميع يعلم في الحرب والسلم أن الأرقام الصغيرة لا تحدد نهاية اللعبة، وبالتالي قررت الولايات المتحدة البدء في توجيه الحرب نحو نهاية تفاوضية في القريب العاجل، ولا يهمها الآن الاستراتيجية المستقبلية لحلفائها الأوروبيين أو حتى موقف كييف. ولن يكون أمام الجميع خيار الانتظار بعد تضاعف تكاليف الحرب البشرية والمالية والعسكرية. كما أنه لا مجال الآن لأي دور لمن كانوا يروجون للعكس بعد أن أهلكت تداعيات الحرب التماسك الغربي وتضررت بشكل عميق الاقتصادات الأوروبية، خاصة مع تبخّر الأمل لدى العواصم الغربية من تحقيق كييف لمكاسب في ساحة المعركة، من شأنها أن تجبر بوتين على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
كما اتضح لواشنطن أيضا أن رغبة أوكرانيا هي الاستمرار في القتال حتى لو كانت ستقودها للخسارة. وقد كشف التاريخ أن الدول قد تختار الاستمرار في القتال على الرغم من الاعتراف بحتمية الهزيمة، وألمانيا كانت خير مثال لذلك إبان الحرب العالمية الأولى. باختصار، لن تؤدي المكاسب أو الخسائر في ساحة المعركة بالضرورة إلى إنهاء الحرب.
الجميع يتذكرون ما قاله الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، عن الرئيس بوتين، وبثقة منقطعة النظير: "هذا الشخص لا يمكن أن يظل في السلطة". كان ذلك بعد شهر من اندلاع الحرب في فبراير 2022؛ وها هو بايدن اليوم يجلس في نادي المتقاعدين، بينما بوتين مازال في مركزه يدير دفة الحكم بل وارتفعت شعبيته لأن الناس يلتفون حول الزعيم والعلم في أوقات الحرب. وهذا في حد ذاته مؤشر على أن الولايات المتحدة كثيرا ما تندفع في الحروب دون قدرة على حسمها. وجاء ترامب وسعى إلى التراجع وكانت عملية إخراج القرار على طريقته الدرامية، وشاهد العالم المؤتمر الصحفي الذي حاول خلاله مع نائبه إهانة حليفهما زيلينسكي بشكل متعمد حتى يستسلم لقرار وقف الحرب. بينما فشل الافتراض السابق لدول حلف الناتو وأوكرانيا بأن العلاقات بين روسيا والغرب لا يمكن أن تتحسن طالما ظل بوتين في منصبه. لكنها تتجه إلى التحسن رغما عنهم ولأن ترامب يريد ذلك!
وسيثبت أن هناك معادلة أخرى في العالم –وهي أدوات السلم وليس الحرب-وشرط الرحيل ربما كان أحد السيناريوهات التي تجول في ذهن الحكام الغربيين –ويحلمون بها لتخليصهم من الكابوس-عندما كان بايدن في الحكم لكن سجلُّ التحولات السياسية التي أعقبت خروج بايدن وفريقه لم يوفر مساحة للتفاؤل الأوروبي لأن الطريق إلى روسيا "أفضل"، من وجهة نظر المصالح الغربية، اختفى تماما!