أحد ألمع علماء القرن الرابع الهجري، احتل مكانة عالية في العلوم الرياضية والفيزيائية والفلكية، وكان عالما موسوعيا وفيلسوفا، كما احتل مكانة مرموقة في الأدب العربي وفي الجغرافيا والرحلات.

نبغ في الطب والصيدلة، وأتقن اللغات وبرع في الترجمة، وكان معتزا باللغة العربية ومفتخرا بها، مع أنها ليست لغته الأمّ، وكان لا يكتب أعماله إلا بها، وصفه بعض المستشرقين بأنه "أعظم عقلية عرفها التاريخ"، وقال عنه آخرون إنه "بطليموس المسلمين".

المولد والنشأة

ولد أبو الريحان محمد بن أحمد البِيروني الخوارزمي في إحدى ضواحي مدينة كاث، عاصمة الدولة الخوارزمية، (جمهورية أوزبكستان حاليا)، يوم الثالث من ذي الحجة 362 هجرية، الموافق 5 سبتمبر/أيلول 973م. وقد سميت الضاحية التي وُلِد فيها لاحقا باسم بيرون، تيمنا باسمه.

كان أبوه موظفا في بلاط خوارزم شاه، وعمل في التجارة فترة من حياته، توفي وابنه لا يزال صغيرا، فتولت أمه رعايته، وكانت تبيع الحطب لتربية ابنها وتدريسه.

تمثال العالم أبو الريحان البيروني في حديقة لاله بالعاصمة الإيرانية طهران (شترستوك) النسب والكنية

دعت المكانة المرموقة التي وصل إليها البيروني عددا من الدول المعاصرة لتتنازعَ شرف نسبته إليها، مثل إيران وأوزبكستان وتركيا والاتحاد السوفياتي سابقا وروسيا الحالية، وكذلك الهند وباكستان، وساقت كل دولةٍ من الأدلة والبراهين ما ترى أنه يؤيد أحقّية انتمائه لها.

فسّر المؤرخ الرحالة أبو سعد السمعاني في كتابه الشهير "الأنساب" اسم البيروني، قائلا "بكسر الباء الموحدة، وسكون الياء آخر الحروف، وضمّ الراء بعدها الواو، وفي آخرها النون، هذه النسبة إلى خارج خوارزم، فإن بها من يكون من خارج البلد ولا يكون من نفسها، يُقال له: فلان بيروني.. والمشهور بهذه النسبة أبو الريحان البيروني"، بينما تذكر مصادر أخرى أن لفظ البيروني معناه "الغريب".

وعن كنيته "أبي الريحان" قيل إن والدته كانت تلاحظ اهتمام ولدها، منذ صغره، بالزهور والنباتات على اختلاف ألوانها، فكان يتفحّص ألوانها وأشكالها وروائحها، فكانت تناديه مداعبةً "يا أبا الريحان".

الدراسة والتكوين العلمي

تتلمذ أبو الريحان في صغره على يد الأمير أبي نصر منصور بن عَرّاق، الذي ينحدر من أسرة حاكمة في خوارزم، وكان عالما جليلا ينسب إليه اكتشاف علم المثلثات.

وقد تعهد ابن عراق تلميذه البيروني، ولمس فيه الحصافة وحب العلم والجد في العمل، فكتب له مؤلفاتٍ خاصةً به ليوسع مداركه وليقود مساره العلمي في الاتجاه الصحيح.

كان البيروني شغوفا بتعلّم اللغات، فأتقن الفارسية، والعربية، والسريانية، واليونانية، ودرس العبرية والسنسكريتية الهندية.

اضطرّ البيروني إلى الهجرة في شبابه، بسبب الاضطرابات السياسية التي كانت تشهدها البلاد، فتوجّه عام 994 إلى مدينة الري، إحدى ضواحي طهران، وخلال إقامته فيها التقى العالم الفلكي "أبا محمود الخجندي"، وأجرى معه بعض البحوث.

ثم عاد إلى بلاده وواصل عمله في الأرصاد، ثم لم يلبث أن شدّ الرحال إلى مدينة جرجان، شمال شرق إيران، حيث التحق ببلاط السلطان أبي الحسن قابوس بن وشكمير.

كان السلطان قابوس بن وشكمير، المُلقب بـ"شمس المعالي"، أحد أمراء الأسرة الزيارية التي كانت تحكم طبرستان وجرجان التابعتين للخلافة العباسية وقتئذ. وقد كان مُحبّا للعلم، يحفل بلاطه بجهابذة المعرفة، وتزخر مكتبته بالكتب القيمة.

وأثناء إقامته بكنف السلطان ابن وشكمير، أنجز البيروني أول مؤلفاته المهمة في التاريخ، بعنوان "الآثار الباقية عن القرون الخالية"، وقد بقي في جرجان حتى الإطاحة بالسلطان قابوس عام 1009م، حين أُرغم على التنازل عن عرشه لابنه "منوجهر".

أبو الريحان البيروني العالم الذي حدد بدقة خطوط الطول والعرض (الجزيرة) حياته العلمية

يُعترَف للبيروني بالإسهام في مختلف العلوم، فقد حدَّد بدقة خطوط الطول والعرض، وناقش مسألة ما إذا كانت الأرض تدور حول محورها أم لا، وبحث في الوزن النوعي، وقدَّر بدقةٍ كثافة 18 نوعا من الأحجار الكريمة والمعادن، وتوصل إلى أن سرعة الضوء أكبر من سرعة الصوت، كما شرح كيفية عمل الينابيع الطبيعية والآبار الارتوازية بناء على مبادئ الهيدروليكا.

كان البيروني ألمع علماء زمانه في الرياضيات، كما قال "سمث" في كتابه "تاريخ الرياضيات". وبجانب ذلك اشتغل بالفلك، وبحث في هيئة العالم وأحكام النجوم، ووضع طريقة لاستخراج مقدار محيط الأرض تعرف عند العلماء الغربيين باسم " قاعدة البيروني".

ووصف ظواهر الشفق وكسوف الشمس وغير ذلك من الظواهر الطبيعية، كما كان ملمًا بعلم المثلثات، وهو من الذين بحثوا في التقسيم الثلاثي للزاوية.

وكان البيروني رائد زمانه في علم الإنسان "الأنثروبولوجيا"، وذلك من خلال دقة وصفه للإنسان الهندي المتبع للديانة الهندوسية، في مؤلفه الشهير "كتاب الهند"، فقد وصف فيه عقائد الهندوس وشرائعهم وعاداتهم المختلفة في الزواج والأعياد، ومأكلهم وملبسهم، مستفيدا في ذلك من المعلومات الضخمة التي جمعها خلال مكوثه لسنوات عدة في البلاد ومخالطته أهلها.

وتتجلّى الدقة في الوصف الأنثروبولوجي بكتابه "الآثار الباقية من القرون الخالية"، الذي سرد فيه تاريخ نظم الجماعات والطوائف المختلفة، وعاداتهم وتقاليدهم السائدة، وأبرز المواضيع التي تخصهم ضمن فصول متعددة.

وتناول فيه التقويمات التاريخية التي كان يستخدمها العرب قبل الإسلام، وتواريخ الملوك من عهد آدم حتى وقته، وفيه جداول تفصيلية للأشهر الفارسية والعبرية والرومية والهندية، كما يبيّن كيفية استخراج التواريخ بعضها من بعض.

وكان البيروني من الرواد الذين قالوا إن للأرض خاصية جذب الأجسام نحو مركزها، وتناول ذلك في آراء نشرها في كتب مختلفة، ولكنَّ أشهر آرائه بهذا الخصوص ضمَّنه كتابه "القانون المسعودي"، وسبق بذلك إسحاق نيوتن صاحب قانون الجاذبية.

وبرع البيروني في الطب وعلم الأدوية، وألَّف كتابه الموسوعي "الصيدنة في الطب"، وهو مخطوط يقع في 427 صفحة، والنسخة الموجودة مؤرخة بتاريخ 678هـ، وهي بخط إبراهيم بن محمد التبريزي، وقد نقلها الناسخ عن نسخة بخط البيروني نفسه، وهو كتاب نفيس في الأدوية والعقاقير والسموم، وفي التعريف بمهنة الصيدلة ومواصفات الصيدلاني.

"الصيدنة في الطب" كتاب في علم الصيدلة للبيروني شرح فيه أنواع الأدوية والعقاقير (الجزيرة)

 

وأسهم البيروني بغزارةٍ في علوم الفلسفة والماورائيات، وانتقد أفكار أرسطو وفلاسفة الإغريق، وكان يبتدع المفاهيم الفلسفية ويتقبّل كل التساؤلات غير المطروحة التي تخطرُ بذهنه، على عكس ابن سينا الذي كان يستخدم التركيب والعرض للمفاهيم، أي أنه كان مثل موسوعة أو دائرة للمعارف.

ويعتبر البيروني مؤسّس "الجيوديسيا"، أي علم تقسيم الأرض، وهو فرع من الرياضيات التطبيقية يُعنى بالدراسة الجيولوجية لحجم الأرض وشكلها، وقياس أجزاء واسعة من باطنها وسطحها، وقد أجرى عدة بحوث في هذا المجال، وله رسائل علمية وكتب في توضيح قياس ورسم سطح الأرض وكيفية رسم المحيطات، وأبعاد المشاريع الهندسية، مثل: السدود والقنوات.

وإلى جانب نبوغه في العلوم الطبيعية فقد كان محيطا بالأدب والشعر، وله شرح لديوان أبي تمام، ومختار في الأشعار والآثار، وفي الفلسفة له كتاب "المقالات والآراء والديانات"، و"جوامع الموجود في خواطر الهنود".

الوظائف والمسؤوليات

غادر البيروني خوارزم بينما كان في الـ23 من عمره، بعد اغتيال شاه أبي العباس، الذي كان البيروني من أنصاره، وداعما للسياسة في خوارزم، وهاجر بعدها إلى جرجان، وأصبح من حاشية بلاط السلطان أبي الحسن قابوس بن وشكمير، وبدأ بكتابة مؤلفاته التاريخية والفلكية.

وبعد هدوء الوضع السياسي في خوارزم عاد لها بعد غياب استمر 15 عامًا، والتحق بحاشية الأمير أبي العباس مأمون بن مأمون خوارزم شاه، شقيق الأمير أبي الحسن علي بن مأمون، وكان يهتم بالأمور السياسية في مدينة جرجان، بسبب طلاقة لسانه وطريقته الفذة في الإقناع، وقدم العديد من الأبحاث الفلكية وأصبح من أبرز العلماء في خوارزم.

لكنه أسر بعد غزو خوارزم في مدينة غرنة "كابل حديثا"، التي تقع داخل حدود أفغانستان، ثم قربه السلطان ابن مسعود منه، للاستفادة من علومه ومعارفه، ورفض البيروني هدية السلطان الثمينة التي كانت حِمل فيل من القطع الفضية، دلالة على زهده ورفعة نفسه وحبه للعلم لا الشهرة والمال، فاصطحبه السلطان معه في غزواته للهند، واستفاد من رحلاته في معرفة الحضارة الهندية والإغريقية وإثراء معارفه وثقافته.

تمثال أبي الريحان البيروني في فناء كلية الجغرافيا بجامعة طهران (شترستوك) المؤلفات والإنجازات

كتب البيروني في مختلف الفنون، وبلغت كتبه الكبيرة حوالي 150 كتابا، معظمها في الرياضيات، إضافة إلى عشرات الرسائل والمناقشات.

لكن لم يصل منها إلا حوالي 22 كتابا. وفي ما يلي بعض من إنجازاته ومؤلفاته:

"تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة"، وهو أثر فريد في الأدب العلمي. "تصحيح الطول والعرض لمساكن المعمور من الأرض"، في الجغرافيا. "تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن"، وهو مؤلف في الجغرافيا أيضا. "تصحيح التواريخ"، و"الآثار الباقية عن القرون الخالية" في التاريخ. "مختار الأشعار والآثار" في الأدب. "شرح ديوان أبي تمام" في الشعر. "الصيدنة في الطب"، تناول فيه الصيدلة والأدوية. "الاستيعاب في تسطيح الكرة"، والذي وضع فيه قاعدة حسابية لتسطيح الكرة، أي نقل الخطوط والخرائط من الكرة إلى سطح مسطح وبالعكس، وبهذا سهل رسم الخرائط الجغرافية.

كما أبدع البيروني في علم الفلك، ومما ألف فيه:

"الاستشهاد باختلاف الأرصاد". "اختصار كتاب البطليموس القلوذي". "الاستيعاب للوجوه الممكنة في صنعة الإسطرلاب". "تعبير الميزان لتقدير الأزمان" "قانون المسعودي في الهيئة" "التفهيم لأوائل صناعة التنجيم"، وهو بحث فيه الحساب والهندسة والجبر والعدد والفلك. وقد كتبه البيروني على شكل سؤال وجواب، ووضحه بالأشكال والرسوم.

كما أُثِرَ عنه مؤلَّفات عِدَّة في الرياضيات منها:

"استخراج الكعاب والأضلاع وما وراءه من مراتب الحساب. استخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحني فيها.

وتضاف إلى تاريخه عدة رسائل في الهندسة والحساب والفلك والآلات العلمية والطب والصيدلة. كما كانت له مراسلات مع ابن سينا.

وترجم عددا من الكتب من اللغة السنسكريتية إلى العربية. وترجمت معظم كتبه إلى اللغات الفرنسية، والألمانية، والإنجليزية، ونشرت في القرنين الـ19 والـ20.

مراحل أطوار القمر خلال الشهر وفق أبي الريحان البيروني (كتاب العلوم الإسلامية -حسين نصر) تكريمه والإشادة بعلمه

يَدين العالَم العربي والغربي في التقدم في سائر العلوم والمعارف للبيروني، ولطالما أشاد العلماء والمجامع العلمية والمؤسسات التقنية بهذا العالِم الفذّ.

فقد أطلقت وكالة "ناسا" اسم العالم المسلم البيروني على فوهة من فوهات سطح القمر عام 1390 للهجرة (1970 للميلاد)، تكريما لإسهاماته القيمة في علم الفلك.

وسُميت فوهة بركانية على سطح القمر باسمه إلى جانب 300 اسم لامع تم اختيارها لتسمية الفوهات البركانية على القمر ومنها الخوارزمي وأرسطو وابن سينا.

ووصفه الأميركي ذو الأصول البلجيكية، جورج سارتون، في كتابه "مقدمة لدراسة تاريخ العلم" قائلا "لقد كان رحالة وفيلسوفا، ورياضيا وفلكيا، وجغرافيا وعالما موسوعيا، ومن أكبر عظماء الإسلام، ومن أكابر علماء العالم".

وقال عنه المستشرق الألماني كارل إدوارد سخاو إنه "أعظم عقلية عرفها التاريخ". وعن "كتاب الهند" الشهير، قال المستشرق الروسي فيكتور رومانوڤيتش روزن إنه "أثر فريد في بابه، لا مثيل له في الأدب العلمي القديم أو الوسيط، سواء في الغرب أو في الشرق".

الوفاة

بعد أن رجع إلى غزنة من الهند، لم يغادر البيروني تلك المدينة، وانقطع للقراءة والبحث والتجربة والتأليف، إلى أن توفاه الله تعالى في الثالث من شهر رجب عام 440 هـ، الموافق 13 ديسمبر/كانون الأول 1048م، عن عمر ناهز 78 عاما.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: فی الأدب التی کان فی الطب فی علم

إقرأ أيضاً:

50 عاما على نهاية حرب فيتنام التي غيّرت أميركا والعالم

لم يكن 30 أبريل/نيسان 1975 يوما عاديا في التاريخ الفيتنامي، فقد انتصرت فيتنام الشمالية آنذاك، وأُعيد توحيد شطري البلاد بعد حربين مع إمبراطوريتين أودتا بحياة نحو مليوني فيتنامي، وفقدت فرنسا كامل نفوذها تقريبا بالمنطقة، بينما خسرت الولايات المتحدة -التي تورطت بعدها- نحو 58 ألف جندي و120 مليار دولار في الحرب التي باتت الأكثر "إذلالًا" في تاريخها.

وبدت حرب فيتنام -أو حروبها- بتشابكاتها الدولية والإقليمية تجسيدا لنظرية "الحرب التي تلد أخرى" في ظل صراع ساخن في بواكير الحرب الباردة. فقد أدت معركة ديان بيان فو (13مارس/آذار-7 مايو/أيار 1954) عمليا إلى نهاية الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية في منطقة الهند الصينية برمتها، وخسرت أيضا مستعمراتها الأخرى في أفريقيا بفعل صعود حركات التحرير التي تأثرت بالمقاومة الفيتنامية، وبمفاعيل "نظرية الدومينو" العسكرية والسياسية.

اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4كوارث بيئية لا تنسى.. "العامل البرتقالي" الأميركي بفيتنامlist 2 of 4الجزيرة نت في فيتنام.. احتفالات عارمة في "هو تشي منه" بخمسينية النصر والوحدةlist 3 of 4حرب فيتنام.. خمسينية النصر والوحدةlist 4 of 4هو شي منه قائد ثورة فيتنام ضد فرنسا وأميركاend of list

كانت حرب فيتنام نتاج سنوات من مقاومة الاحتلال الفرنسي للبلاد (منذ عام 1883) ثم الغزو الياباني الذي انتهى بهزيمتها في الحرب العالمية الثانية، والمد الشيوعي في المنطقة وصراع الأيديولوجيات، ومحاولات تقسيم البلاد، وبلغت أوجها مع التدخل الأميركي العسكري المباشر لمحاولة صد التوغل الشيوعي السوفياتي الصيني.

إعلان

وعمليا، لم تكن حرب الهند الصينية الأولى (بين عامي 1946 و1954) معركة الولايات المتحدة، لكنها كانت تمول فعليا نحو 78% من تكلفة تلك الحرب -وفق أوراق البنتاغون المنشورة عام 1971- وتقدم مساعدات عسكرية ولوجستية ضخمة لفرنسا، خوفا من التمدد الشيوعي وسيطرة الصين على المنطقة وصعود الاتحاد السوفياتي إذا هزمت القوات الفرنسية.

كما ناقش المسؤولون الأميركيون -تبعا لهواجسهم تلك- دعما إضافيا لفرنسا ضمن ما عرف بـ"عملية النسر" (Operation Vulture) وهي مقترح خطة عسكرية كبيرة، من أجل إسناد الفرنسيين في معركة ديان بيان فو، وضعها الرئيس دوايت آيزنهاور (حكم بين 1953 و1961) ومستشاروه.

وتضمنت العملية -اعتمادا على وثائق رفعت عنها السرية- قصفا مركزا ومكثفا مع احتمال استخدام قنابل ذرية اقترح تقديمها لفرنسا، وتدخلا بريا. لكن العملية لم تنفذ في النهاية وانسحبت فرنسا بخسائر فادحة، بعد توقيع اتفاقية جنيف للسلام في يوليو/تموز 1954 التي نصت على تقسيم فيتنام إلى شطرين، ولم توقع الولايات المتحدة وحكومة سايغون الموالية لها على الاتفاق رغم حضورهما. وبدأ التورط الأميركي العسكري تدريجيا لحماية النظام الموالي لها في فيتنام الجنوبية ومحاربة المد الشيوعي، إلى حد التدخل المباشر والمعلن عام 1963.

الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون (يمين) ووزير خارجيته هنري كيسنجر (أسوشيتد برس) نظرية الرجل المجنون

في منتصف عام 1968، وتحت ورطة الفشل في حرب فيتنام، اعتمد الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون (1969-1974) على مبدأ تحقيق "السلام بالقوة" عبر "المزيد من قاذفات بي 52" التي أوصاه بها وزير خارجيته هنري كيسنجر، مبتدعا ما سماها "نظرية الرجل المجنون".

ويكشف رئيس موظفي البيت الأبيض بوب هالدمان في مذكراته عام 1994 عن إستراتيجية الرئيس نيكسون لإنهاء حرب فيتنام التي أسرّ له بها قائلا "أنا أسميها نظرية الرجل المجنون، بوب.. سنرسل لهم رسالة مفادها يا إلهي، أنتم تعلمون أن نيكسون مهووس بالشيوعية لا يمكن كبح جماحه عندما يكون غاضبا ويده على الزر النووي.. سيصل هو شي منه (الزعيم الفيتنامي) بنفسه إلى باريس في غضون يومين ويطلب السلام".

إعلان

وكتب هالدمان أن الرئيس نيكسون سعى إلى تنفيذ إستراتيجية التهديد باستخدام القوة المفرطة لتقويض خصومه، وإجبارهم على الاستسلام أو التسوية. وبهذه الطريقة، يصبح عدم يقين الفيتناميين بشأن الخطوات المستقبلية للزعيم "أداة إستراتيجية في حد ذاتها".

وفي 4 أبريل/نيسان 1972 قال نيكسون لهالدمان والمدعي العام جون ميتشل "لم يُقصف الأوغاد قط كما سيُقصفون هذه المرة" عند اتخاذه قرارا بشن ما أصبح يُعرف باسم عملية "لاينباكر التي مثلت تصعيدا هائلا في المجهود الحربي، الذي شمل قصف ميناء هايفونغ، وحصار ساحل فيتنام الشمالية، وحملة قصف جديدة ضخمة ضد هانوي.

ولا تثبت الوقائع التاريخية أن الزعيم الفيتنامي هو شي منه خضع لنظرية "الرجل المجنون" عندما تم توقيع اتفاق السلام في باريس يوم 23 يناير/كانون الثاني 1973، لكن الولايات المتحدة استخدمت قوة هائلة ومفرطة لمحاولة إخضاع الفيتناميين، وفكرت في استعمال السلاح النووي.

كانت نظرية "الرجل المجنون" تجسيدا للإحباط الذي أصاب الإدارة الأميركية من صمود المقاومة الفيتنامية والخسائر الفادحة في صفوف الجيش الأميركي، ومن حركة الرفض الواسعة للحرب في المجتمع الأميركي، واهتزاز الضمير العالمي من المشاهد المؤلمة للمجازر البشعة، سواء في مذبحة "ماي لاي" في 16 مارس/آذار 1968 التي قتل فيها 504 من المدنيين العزل، وغيرها من المجازر.

وفي المقابل، كانت نظرية الجنرال فو نغوين جياب قائد قوات قوات "الفيت منه"(رابطة استقلال فيتنام) تراوح بين خطتي "هجوم سريع.. نصر سريع" و"هجوم ثابت.. تقدم ثابت" واعتماد الحرب الشعبية وحروب العصابات الخاطفة واستنزاف العدو، حيث يقول في مذكراته "إن كل واحد من السكان جندي، وكل قرية حصن" وكانت نظريته أن حرب العصابات هي "حرب الجماهير العريضة في بلد متخلف اقتصاديا ضد جيش عدواني جيد التدريب".

الزعيم الفيتنامي الراحل هو شي منه رفض التخلي عن فكرة توحيد فيتنام (غيتي) ) الورطة والمقاومة

بدأ التورط الأميركي عمليا في حرب فيتنام بعد خروج القوات الفرنسية، ومنذ عام 1961 أرسلت واشنطن 400 من الجنود والمستشارين لمساعدة حكومة سايغون الموالية في مواجهته قوة هو شي منه الشيوعية، ومع التوصيات بزيادة المساعدات استجاب الرئيس جون كينيدي. وبحلول عام 1962 زاد الوجود العسكري الأميركي في جنوب فيتنام إلى نحو 9 آلاف جندي.

إعلان

ومع بداية عهد الرئيس ليندون جونسون (1963-1969) -الذي منحه الكونغرس صلاحيات واسعة في الشؤون الحربية- بدأت القاذفات الأميركية تنفيذ عمليات قصف منتظمة على فيتنام الشمالية وقوات "الفيت- كونغ" (الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام). وفي مارس/آذار 1965، بدأ تدفق القوات الأميركية إلى فيتنام الشمالية، حتى وصل إلى 200 ألف عام 1966، ثم نحو 500 ألف في نوفمبر/تشرين الثاني 1967.

وكانت قوات الزعيم هو شي منه، وقائد العمليات الجنرال جياب، تعتمد على التكتيكات الحربية النوعية والهجمات الخاطفة والكمائن والأنفاق والحرب الطويلة الأمد كما كانت تعتمد على الإمدادات القادمة من كمبوديا ولاوس المجاورتين، وعلى الدعم النوعي الذي تتلقاه من الصين ومن الاتحاد السوفياتي، خصوصا منظومات الدفاع الجوي التي أسقطت عشرات قاذفات "بي-52". ومع بداية عام 1968 بلغت الخسائر الأميركية 15 ألف قتيل و109 آلاف جريح.

وفي المقابل، زادت الولايات المتحدة من وتيرة القصف الجوي العنيف واستعمال الأسلحة المحرمة دوليا مثل "النابالم" وما سمي "العامل البرتقالي" -الذي يحتوي على "الديوكسين" وهو أكثر تلك المبيدات ضررا وفتكا- على فيتنام ولاوس وكمبوديا، ومازالت آثاره البيئية الخطيرة قائمة.

فتاة النابالم اعتبرت وثيقة تدين الحرب الأميركية في فيتنام (أسوشيتد برس) صورة الهزيمة

لم تكن الخسائر البشرية لوحدها ذات التأثير الأكبر فيما اعتبر هزيمة أميركية عسكرية وأخلاقية في فيتنام، فقد مثلت تلك الحرب أول "حرب تلفزيونية" مع بروز سطوة التلفزيون والصورة، وكانت للتقارير الإعلامية عن المجازر في فيتنام ذات تأثير واسع في الرأي العالم الأميركي والعالمي وفي قرارات الإدارة الأميركية لاحقا، خصوصا صورة "طفلة النابالم" التي كانت تجري عارية بعد أن أسقطت طائرة أميركية مادة النابالم الحارقة على قريتها في 8 يونيو/حزيران 1972.

إعلان

وفي 29 أبريل/نيسان 1975، ألقى الرئيس الأميركي جيرالد فورد (1974-1977) بيانا أعلن فيه إجلاء الموظفين الأميركيين من فيتنام قائلا "تعرض مطار سايغون لقصف صاروخي ومدفعي متواصل، وأُغلق بالكامل. تدهور الوضع العسكري في المنطقة بسرعة. لذلك، أمرتُ بإجلاء جميع الموظفين الأميركيين المتبقين في جنوب فيتنام" وكانت تلك نهاية الوجود الأميركي في هذه البلاد، ودخول قوات الجنرال جياب إلى المدينة اليوم التالي.

ولا تزال مجريات حرب فيتنام، بمآسيها وصمود مقاومتها وتوحيد شطريها، من بين أحداث العالم الفارقة خلال القرن العشرين، وواحدة من الحروب التي غيّرت وجه الولايات المتحدة والعالم بأبعادها العسكرية والسياسية وآثارها الإنسانية، كما باتت تكتيكاتها وأساليبها تدرس في الكليات العسكرية، وتتبعها حركات مقاومة أخرى حول العالم.

وبينما تحتفل بالذكرى الخمسين ليوم تحرير الجنوب وإعادة التوحيد الوطني، لم تعد مدينة سايغون (عاصمة فيتنام الجنوبية سابقا) -التي باتت تسمى هو شي منه نسبة إلى الزعيم الأسطوري لفيتنام- رهينة جراحات الماضي الأليم وأهواله، فقد تحولت على مدى الـ50 عاما الماضية إلى مدينة ناطحات سحاب براقة، وأعمال مزدهرة ومركز صناعي حيوي ونقطة جذب سياحية عالمية.

مقالات مشابهة

  • تكريم 27 عالمًا وباحثًا.. جامعة القاهرة تعلن عن الفائزين بجوائز التميز الأكاديمي لعام 2025
  • فوز 27 عالمًا بجوائز جامعة القاهرة للتميز والرواد والتفوق العلمي 2024-2025
  • 10 سنوات من النشر والإبداع «الاحتفال بالريادة في عالم الكتب»
  • “منصوري” العالمية تبرم شراكة مع “آمال” للانطلاق في عالم العقارات
  • بعد وفاته عن عمر يناهز 89 عامًا.. من هو أسطورة بناء المحركات إد بينك؟
  • 50 عاما على نهاية حرب فيتنام التي غيّرت أميركا والعالم
  • عالم آخر
  • “كاك بنك” وعالم الأعمال يوقعان مذكرة تفاهم لتأسيس صندوق استثماري لدعم الشركات الناشئة
  • «OpenAI» تدخل عالم التسوق الإلكتروني عبر شات جي بي تي
  • ولي عهد الفجيرة يلتقي عالم الفيزياء أحمد المهيري