البوابة نيوز:
2025-04-26@10:39:57 GMT

بدون كافيين فنجان هدوء لرجل حرب

تاريخ النشر: 15th, February 2024 GMT

لم أكن أتخيل أنني قد ألقى ذلك المشهد "فاضي شوية نشرب قهوة في حتة بعيدة".. تتحدث الأغنية لمن لم يسمعها عن دعوة لصديق أو حبيب أن يترك حياته من أجل فنجان قهوة محاط بالثرثرة حول حياة كل منهما. تقدم الأغنية الثرثرة كما لو كانت طريقة مثلى لإفراغ القلب من الوجع. كأن ما تحكيه مما يسيئك يغادر قلبك عن طريق لسانك.

ثم يشرع المطرب بعد ذلك في التندم على العمر الذي مضى دون أن يستغله كما يجب أن يكون هو وشريك القهوة. وجدت شابًا يهرب  من كل الضوضاء للهدوء. راقبت هدوءه. تذكرت ذلك التي تكررت أمامي في روايات عربية كثيرة "الهدوء الصاخب". تعلمت كيف أراقب الصخب في الهدوء. كاذب من يقول أن كل حالات الصمت متشابهة. هناك صمت ميت وآخر يحاول الموت وثالث يعلو صوته على الكل.

هو رجل حرب. يدير اليوم بطريقته وسط معارك لا يصنعها بل تأتيه وكأنها تبحث عنه. أخبرني أن عمله يأتي بها إليه. يصيد عمله المتاعب من تلقاء نفسه. لكنه لا يشعر بالراحة حتى يحقق النصر لنفسه. وهو ماهر في التخطيط بصمت لا يلاحظه إلا القليلون. لا بسبب أنه من هؤلاء الذين لا يملكون حضورًا. بل لأنه من الأذكياء الذين لا يريدون إلا جذب الأذكياء. يعلم كيف يتصرف لجعلهم مدار حوله. هو يمانع بشدة أن يسكن مدار أحد أيًا كان قربه منه. لكنه من الذكاء بمكان ليكون بصحبة أشخاص لهم مداراتهم الخاصة. هو لا يحب التابعين. ولا يتذكر أسماؤهم مهما قضى الوقت الطويل معهم. يعاني كثيرًا من محاولة تذكر أسماء هؤلاء. ليس سعيدًا بذلك. لكنه يشعر بالرضا في قرارة نفسه عن غيابهم عن ذاكرته. كأنه يختار ذلك ولا يصرح به.

في هذه الأيام ليس منا من لم يلاحقه الوجع واكتئاب الأحداث الصعبة. كل بيت يعاني وكل فرد يحاول أن يجد لحظات حياة مستقرة. هي أيام تذكرني بصوت الفرحة في نبرات صديقة مدرستي الثانوية ابنة بيروت "ميرفت" حين حدثتني عن فوز والدتها بلقب ملكة جمال المخبأ في حرب لبنان. كانت فخورة بأن الحرب لم تقتل فيهم حب الجمال حتى تحت الأرض. وتحت القصف. وفي ضوء الشموع الخافتة. انتخبوا أمها ملكة جمال من أجل حب الحياة الجميلة في أقل تفاصيلها. حملني ذلك لصوت طفل من غزة وهو يلعب الكرة مع رفقائه في أحد الشوارع ويقول" فيش مدرسة صار لازم نلعب. زهقنا من الحرب". جمل بسيطة تعبر أن الإنسانية تستطيع أن تجد طريقها لأوقات تحبها في أكثر الأوقات ظلامًا ووجعًا. 

وجدت على وجه رجل الحرب ابتسامة هادئة. كلامًا قليلًا. لكنه مدروس. ضحكات لا يعلو صوتها إلا قليلًا. للوهلة الأولى قد تظنه بريئًا لا خبرة لديه في الحياة لذا يراقب ويكرر عبارات محفوظة كأكلاشيه. وهو يريد ذلك. لكنه حين يفعل يظهر اختلافه. هو يجيد الذهاب بعيدًا في الأماكن الهادئة مع أشخاص يظنون أنهم يعرفونه. لكنهم يعرفون ما يريدهم هو أن يعرفوه. تأكدت خلال المرتين الأخيرتين التين رأيته فيهما أن هذا الشخص لا أحد يعرفه حقًا إلا نفسه. هو لا يتحدث ولا يطلب حتى الأشياء التي يريدها من أول مرة. لكنه يراقب ويفهم ويحرك الآخرين. كل هذا وهو في قلعة هدوئه بعيدًا يشرب القهوة ويدخن. أضحك كثيرًا حين أذكره. هو يجيد المفاجآت. تصرفاته تفاجئك بقوتها من قلب الهدوء. لأنها تصرفات تناسب التعامل مع الحرب لكنها ولدت في رحم الصمت.  

*أستاذة بقسم الإعلام – آداب المنصورة

المصدر: البوابة نيوز

إقرأ أيضاً:

يساعدك في اتخاذ القرار.. كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي صورة الإنسان عن نفسه؟

يشهد العالم المعاصر تحوّلًا غير مسبوق في تاريخ الوجود البشري، تقوده التكنولوجيا بصفتها القوة الأكثر تأثيرًا في تشكيل ملامح الحياة الحديثة.

لم تعد التكنولوجيا مجرد أدوات أو منصات مساعدة، بل أصبحت بحد ذاتها بيئةً كلية نعيش فيها، وعاملًا حيويًا يُعيد صياغة مفاهيم الإنسان عن ذاته، وعن العالم، وعن الآخرين من حوله. وفي قلب هذا التحول تقف الأجيال الجديدة لا كمتلقٍّ سلبي، بل كنتاجٍ حيّ لهذا العصر الرقمي بكل تعقيداته وتناقضاته.

نتحدث هنا تحديدًا عن جيل Z (المولود بين 1997 و2012)، وجيل ألفا (المولود بعد 2013)، وهما جيلان نشآ في ظل تحوّل تكنولوجي عميق بدأ مع الثورة الرقمية في نهاية القرن العشرين، وتفاقم مع دخول الذكاء الاصطناعي والواقع المعزز والميتافيرس والبيانات الضخمة إلى صلب الحياة اليومية.

جيل Z يمثل الجسر بين عالمين: عالم ما قبل الثورة الرقمية، وعالم أصبحت فيه الخوارزميات هي "العقل الجمعي" الجديد.

لقد عاش هذا الجيل مراحل الانتقال الكبرى: من الكتب الورقية إلى الشاشات، من الاتصالات الهاتفية إلى الرسائل الفورية، من الصفوف المدرسية إلى التعليم عن بُعد. أما جيل ألفا، فهو الجيل الذي لم يعرف سوى الرقمية منذ لحظة الميلاد، إذ تفتحت حواسه الأولى على شاشة، وتكوّنت مهاراته اللغوية من خلال مساعد صوتي، وتعلّم المفاهيم الأولى عن طريق تطبيقات ذكية وخوارزميات دقيقة تستجيب لسلوك المستخدم لحظيًا.

إعلان

إننا لا نتحدث عن تغيّر في أنماط الحياة فقط، بل عن إعادة تشكيل حقيقية للذات الإنسانية. ففي السابق، كانت الهوية تُبنى عبر التفاعل مع الأسرة، والمدرسة، والثقافة المحلية، وكانت تنشأ ضمن سياق اجتماعي واضح المعالم.

أما اليوم، فالأجيال الرقمية تبني صورها الذاتية في فضاءات افتراضية عالمية، تتخطى الحواجز اللغوية والثقافية والجغرافية. إنها هوية "مُفلترة"، تُنتجها الصور والمنشورات والتفاعلات المرسومة وفق خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي، وتُقاس بكمية "الإعجابات" والمشاهدات، لا بتجربة الذات العميقة.

هذا التحول لا يخلو من مفارقات. فعلى الرغم من الكمّ الهائل من التواصل الرقمي، تشير دراسات عديدة إلى تصاعد مشاعر الوحدة والعزلة، خصوصًا بين المراهقين والشباب.

وقد ربطت تقارير صحية بين الإفراط في استخدام التكنولوجيا وبين ارتفاع معدلات القلق، واضطرابات النوم، وضعف التركيز، وتراجع المهارات الاجتماعية.

جيل Z، برغم إتقانه المذهل للتكنولوجيا، يواجه صعوبة متزايدة في بناء علاقات واقعية مستقرة. أما جيل ألفا، فيُظهر مبكرًا قدرة رقمية خارقة، لكنها تقترن أحيانًا بضعف في التطور اللغوي والعاطفي، وكأن المهارات الإنسانية الكلاسيكية باتت تُستبدل تدريجيًا بكفاءات رقمية جديدة.

هذا لا يعني أن الأجيال الرقمية "أقل إنسانية"، بل إنها مختلفة في تركيبها المعرفي والعاطفي والاجتماعي. إنها أجيال تعيش فيما يمكن تسميته "الواقع الموسّع"، حيث تتداخل فيه الذات البيولوجية بالذات الرقمية، ويذوب فيه الخط الفاصل بين ما هو واقعي وما هو افتراضي.

وهذه الحالة تطرح سؤالًا وجوديًا جوهريًا: من أنا في عالم يُعاد فيه تشكيل الذات بواسطة أدوات لا أتحكم بها بالكامل؟ من يوجّهني فعلًا: أنا، أم البرمجية التي تختار لي ما أقرأ وأشاهد وأرغب؟

في هذا السياق، تتزايد الحاجة إلى تفكيك العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا من جديد. فنحن لم نعد فقط نستخدم التكنولوجيا، بل يُعاد تشكيلنا من خلالها، وقد أصبح الذكاء الاصطناعي شريكًا خفيًا في اتخاذ القرارات، وتوجيه السلوك، وحتى في تكوين القيم وتصورات العالم. منصات مثل تيك توك ويوتيوب وإنستغرام لم تعد وسائط ترفيهية فحسب، بل منصات لإنتاج الثقافة والهوية والسلوك الاستهلاكي.

إعلان

ولعل المفارقة الكبرى تكمن في أن هذه التكنولوجيا التي وُعدنا بها كوسيلة لتحرير الإنسان، باتت تخلق أشكالًا جديدة من التبعية. فمن جهة، تسهّل الحياة وتختصر الوقت، لكنها من جهة أخرى تُعيد تشكي إدراكنا بطريقة غير مرئية. إنها "القوة الناعمة" الأشد تأثيرًا في تاريخ البشرية.

في ظل هذا الواقع، لا يكفي أن نُحمّل الأفراد مسؤولية التكيف. المطلوب هو تفكير جماعي لإعادة توجيه العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا. المؤسسات التعليمية مطالبة بأن تراجع مناهجها، لا فقط لتُدخل التقنية، بل لتُعيد التوازن بين ما هو رقمي وما هو إنساني.

الأسرة، بدورها، لم تعد فقط مصدرًا للقيم، بل أصبحت "ساحة مقاومة" للحفاظ على الحميمية في وجه التمدد الرقمي. أما صانعو السياسات، فعليهم مسؤولية أخلاقية وتشريعية للحدّ من تغوّل التكنولوجيا في تفاصيل الحياة اليومية، ووضع ضوابط تحمي الأجيال من فقدان الجوهر الإنساني.

ينبغي ألا يكون السؤال: كيف نُقلل من استخدام التكنولوجيا؟ بل: كيف نستخدمها بطريقة تحافظ على إنسانيتنا؟ كيف نُدرّب أبناءنا على التفكير النقدي، والقدرة على التأمل، والانفتاح العاطفي، لا فقط على البرمجة والتصميم؟

نحن نعيش لحظة مفصلية، لحظة يُعاد فيها تعريف الإنسان، لا بالمعنى البيولوجي، بل بالمعنى الوجودي. وإذا لم نُحسن إدارة هذا التحوّل، فإننا قد نخسر القدرة على أن نكون ذاتًا فاعلة حرة في عالم تتزايد فيه السيطرة غير المرئية للأنظمة الذكية.

المستقبل لا تصنعه الآلات، بل الإنسان الذي يعرف كيف يتعامل معها. ولهذا، فإن المعركة الأهم ليست بين الأجيال والتكنولوجيا، بل بين الإنسان وإنسانيته.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • الله أوحى به لرجل فقير قصة انتخاب البابا فرنسيس كما لم تُروَ من قبل
  • رجل يحاول الانتحار بإلقاء نفسه من فوق الجامع الأزهر (شاهد)
  • الانكماش لن يهدد الرواتب لكنه يضرب الموازنة الاستثمارية
  • هدوء الأسواق يضغط على الذهب: تراجع مفاجئ في الأسعار
  • حظك اليوم الجمعة 25 أبريل وتوقعات الأبراج
  • النور حمد (نموذجاً): عندما يتحدث النخبوي عن نفسه بصفة (نحن عملاء)
  • يساعدك في اتخاذ القرار.. كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي صورة الإنسان عن نفسه؟
  • الهدوء والعزلة ملاذ الأرواح المتعبة
  • طريقة عمل القهوة المظبوط بكل تكاتها
  • ما المقصود بقول الله تعالى كتب على نفسه الرحمة ؟.. علي جمعة بوضح