د.كهلان الخروصي: الأمم المفسدة يتم استبدالها بسنة التدافع.. فالإهلاك العام انتهي بنزول التوراة
تاريخ النشر: 15th, February 2024 GMT
لا زال محور قضايا الأمة دائر حول قضية فلسطين والقتال الدائر بين أصحاب الحق والأرض من الفلسطينيين، وبين اليهود الصهاينة الغاصبين، وفي البرنامج التلفزيوني "سؤال أهل الذكر" الذي يعده ويقدمه الدكتور سيف الهادي ويستضيف فيه فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عمان، يتناول هذه القضية وفق رؤية شرعية تحليلية، وقد تعرض فضيلته إلى العلاقة بين ذكر حادثة الإسراء باعتبار الحيز المكاني المقدس، وعلاقة ذكر بني إسرائيل في هذه السورة وذكر قضية الإهلاك في الأمم السابقة.
ففي سؤال عن الربط بين حادثة الاسراء و ذكر النبيين موسى و نوح عليهما السلام في الايتين التاليتين لاية الاسراء" سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) " نرجو التكرم بمزيد من التوضيح لنقطة الاهلاك العام. والحكمة من توقفه بعد نزول التوراة على نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام.
أجاب مساعد المفتي بأنه يمكن تلخيص الجواب في هذا المقام في ان الله تبارك وتعالى يمتن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده بهذه المنزلة العالية الشريفة التي بوأه إياها في سياق التمجيد والتنزيه والتسبيح له جل وعلا بما أكرمه به من هذه الرحلة التي أراد له فيها أن تنكشف له بعض حجب الغيب و أن يرى فيها بعض أسرار ملكوت الله تبارك و تعالى في هذا الكون.
دروس الإسراء والمعراج
و هذه الآية فيها ثلاث حكم بما يتصل بحادثة الإسراء و المعراج و العضات و الدروس التي تأخذ من هذه الحادثة، أما الأمر الأول فهو أن هذه الدعوة الخاتمة التي أرسل بها نبينا محمد صلى الله عليه و آله و سلم سيجتمع فيها ميراث إبراهيم الخليل عليه السلام فإن إبراهيم عليه السلام كان له إسحاق في أرض فلسطين و كان له إسماعيل في مكة المكرمة عند بيت الله المحرم و امتدت ذرية إسحاق و النبوة و الرسالة في ذرية إسحاق و يعقوب عليهما السلام كما أن الله تبارك و تعالى جعل من بعد إسماعيل في ذرية إسماعيل الرسول الخاتم نبينا محمدا صلى الله عليه و آله و سلم و قد وصف الله عز و جل إبراهيم الخليل في كتابه الكريم بقوله: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" فالآية الأولى من سورة بني إسرائيل تؤكد هذا المعنى أن ما تفرق في النبوات في ذرية إبراهيم عليه السلام سيجتمع الآن مكانا و ميراثا لنبينا محمد صلى الله عليه و آله و سلم، لأنه جمع بين المسجد الحرام و المسجد الأقصى في هذه الحادثة.
الأمر الثاني أن الله تبارك و تعالى يقول لنريه من آياتنا فمعلوم أن إبراهيم عليه السلام أيضا أراه الله تبارك و تعالى بعض ملكوت السماوات و الأرض حينما قال: " وكَذَلِكَ نُرِي إبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ" و هذا هو السر في اصطفائه خليلاً لأنه كشف له بعض الأسرار التي لا يحتملها الخلق من سواه، و إذا به يكرم محمدا صلى الله عليه و آله و سلم بمثل ما أكرم به خليله إبراهيم عليه السلام فكشف له بعض آيات الملكوت و بين له بعض أسرار الغيب مما لا تحتمله الخلائق و لذلك قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم "إن الله قد اتخذ إبراهيم خليلاً و قد اتخذني خليلاً و لو كنت متخذاً خليلاً من الناس لاتخذت أبا بكر خليلاً".
و بقي معنى ثالث و هو التبشير لهذه الدعوة الخاتمة بأن الله سيجمع لها أطراف الأرض و سيضم إليها المقدسات التي أضف الله عز و جل عليها الحرمة و جعل فيها البركة و القداسة و جعلها من شعائر دينه تبارك و تعالى و من شعائر الحنيفية السمحاء و أن ذلك سيحصل لرسول الله صلى الله عليه و سلم حياً أو ميتاً لأمته من المسلمين من بعده فالآية تحمل هذه البشارة فاقتضى هذا التقديم لهذه السورة أن يكشف الله عز و جل ما يحقق به هذه البشارة لمن آمن بمحمد صلى الله عليه و سلم.
الإهلاك العام
فبين حدثين كبيرين في تاريخ البشرية ما يتعلق بنوح عليه السلام و ما يتعلق بموسى عليه السلام، ابتدأ بموسى قال: " وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا" فإيتاء موسى الكتاب كان علامة فارقة في تاريخ البشرية و في تاريخ الرسالات السماوية لأن الله تبارك و تعالى قال في سورة القصص، " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" ، فإيتاء موسى الكتاب كان بعد إغراق فرعون و إغراق فرعون هو آخر إهلاك عام أجراه الله تبارك و تعالى على من ناوأ الأنبياء و الرسل حصل ذلك لقوم نوح و لعاد و لثمود و لأصحاب مدين و لأصحاب الأيكة و لقوم لوط و لفرعون و ملائه ثم من بعد إغراق فرعون أوتي موسى الكتاب و توقف العذاب العام بنص هذه الآية الكريمة في سورة القصص.
قد ذكر ذلك الإمام الطبري في تفسيره و ذكر له رواية وقفها مرة و رفعها أخرى و ذكر أيضا ابن كثير هذا المعنى و ذكره الثعلبي و ذكره طائفة من المفسرين منهم من نقل عن ابن كثير أو عن الإمام ابن جرير الطبري و الرواية المرفوعة من طريق أبي سعيد الخدري، أن الله تعالى ما أهلك أمة بعذاب من السماء أو الأرض بعد أن أنزل على موسى التوراة ثم قرأ الآية الكريمة إذا هذه علامة فارقة في تاريخ النبوات و من أجل ذلك في تاريخ البشرية و توقف الإهلاك العام يعني أن سنة الله تبارك و تعالى في الخلق من بعد إنزال التوراة على موسى و ما سينزله على الرسل عليه الصلاة و السلام من بعده ستكون بالتدافع لأن الله تبارك و تعالى شرع القتال شرع الجهاد في سبيل نشر الحق و إعلاء كلمة الله عز و جل، و دفع الباطل و رفع القتال و دفع الظلم و العدوان عن الناس يعني الآن سيتوقف الإهلاك أول إهلاك ذرية من حملنا مع نوح و كيف كانت هذه الذرية التي حملت مع نوح عليه السلام كانت بالتنجية من الطوفان و كيف نجي موسى و من معه من بني إسرائيل بالتنجية من الغرق و كيف كان إهلاك من كذب نوحاً بالطوفان و كيف كان إهلاك فرعون و ملائه بالغرق فهذا تاريخ يعرفه بني إسرائيل.
و إذا بالله تبارك و تعالى يذكرهم بهذه الأحداث و يذكرهم بهذه المشابهة فنوح عليه السلام أهلك قومه المكذبون بالطوفان و هم أهلك عدوهم المكذب فرعون و أهلك الملأ مع فرعون بالإغراق لكن الفارق أن الله تبارك و تعالى هنا يخاطب بني إسرائيل و يخاطب هذه الأمة التي بشرت بأنه سيمكن لها في الأرض و أنها ستصل إلى بيت المقدس و ستحرره من كل المظاهر التي تتنافى مع الحنيفية السمحاء التي جاء بها إبراهيم عليه السلام فيقول في حق موسى عليه السلام " وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ " ثم يقول ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا " فنوح عليه السلام كان عبدا شكورا لله تبارك و تعالى، فإذا هذا الملحظ من جهتين من جهة عذاب الاستئصال، أن إهلاك الأمة بعامة كما يقول ابن كثير قد توقف بإنزال التوراة على موسى عليه السلام و أن الذي يأتي بعد ذلك إنما هو تدافع، و سورة الإسراء تؤكد على هذا المعنى، لأنها تتناول ما يتعلق بإصلاح الفرد و جزائه و ما يتعلق بسنة الله تبارك و تعالى في الأمم و القرى، و كيف أن الله تبارك و تعالى فيما يتعلق بالأفراد فإن سنته الماضية أن جزاءهم أخروي، لا يلزم أن يصيبهم شيء في الدنيا: "وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا".
أما في الأمم و القرى فإن الله تبارك و تعالى يقول وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)يأتي بعد ذلك أيضا و يقول وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا" و قبل ذلك قال " وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا" (7).
مسؤولية الفرد والأمة
فسورة الإسراء تبين ما يتعلق بصلاح الفرد و بسنة الله تبارك و تعالى في ما يتعلق بمسؤولية الفرد و مسؤولية الأمة و كيف أن الله تبارك و تعالى يؤاخذ الأمم في الحياة الدنيا إن هي ظلمت و طغت و تجبرت و أنه يديل دولتها و يزيلها و يمكن غيرها عليها، كيف السبيل إلى صلاح الفرد و إلى قوام الأمة، سورة الإسراء تتناول الأصول الثلاثة اللازمة لكل ذلك أما الأصل الأول فهو المتعلق بأصول العقائد نعم و أما الأمر الثاني فهو المتعلق بأصول الأخلاق و الثالث أصول العبادات، فسورة الإسراء تكشف للأفراد و تكشف للأمم الراغبة في البقاء و الديمومة و التمكن أسباب بقائها و حضارتها و تمكنها و غلبتها على عدوها إذ لن يكون هناك استئصال لا تنتظر أمة و إنما سيكون هناك استبدال، إن هي ظلمت أو طغت إن هي أفسدت في الأرض إن هي تخلت عن منهج الله تبارك و تعالى فإن الله عز و جل سيستبدل بها قوما آخرين، و هذا الاستبدال يكون بسنة التدافع و السورة كلها تكشف هذه المعاني الآن لنرجع إلى الآيتين، قلنا أن من وجوه الشبه بين بني إسرائيل و بين قوم نوح هو ما تقدمت الإشارة إليه من أن حادثة الإغراق و الطوفان.
سلاح الدعاء
يضاف إلى ذلك أن بني إسرائيل يزعمون أنهم أبناء الله و أحباؤه و أنهم أولياء لله، و هم يزعمون ذلك إلى يومنا هذا و إلى الغد لأنهم من ولد سام بن نوح، و لهذا فإن التهمة الجاهزة لكل من يمكن أن يتعرض لمظالمهم و بغيهم و طغيانهم أنه معاد للسامية، و إذا بربنا تبارك و تعالى و يذكرهم أنكم إذا كنتم تؤمنون بموسى و تؤمنون بالكتاب، فإن عليكم أن تعلموا أنكم إنما أنتم من ذرية من حملنا مع نوح و ما حالة نوح إنه كان عبدا شكورا، فلإن كان نوح عليه السلام الذي أكرمه الله تبارك و تعالى بالرسالة و نجاه و أهلك من سواه من غير المؤمنين بالطوفان العام فهو عبد شكور لله تبارك و تعالى فكيف بولده و كيف بذريته من بعده، و هناك ملحظ ثالث ذكره الإمام البقاعي يقول بأن نوح عليه السلام و موسى حصل إهلاك عدوهما بالغرق كانا ممن دعا على أقوامهما، فنوح عليه السلام دعا على قومه وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا "،و موسى عليه السلام أيضا دعا على قومه " وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ ۖ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ"
فإن هذا الشبه أيضا ينبه المسلمين الذين يبشرون بالنصر و التمكين أنه لا غنى لهم أيضا عن اللجوء إلى الله تبارك و تعالى و الضراعة إليه بالدعاء، و لذلك فإنه بعد ذكر إفسادة بني إسرائيل و سنة الله تبارك و تعالى فيهم و لئن كان هناك من يستعجل النصر أو يستبطئ الفتح و التمكين فإن الله تبارك و تعالى يبين أن الأمر كله له و أنه بحكمته جل وعلا و فضله و منته هو الذي يتفضل على عباده فيكشف طبيعة هذا الإنسان فيقول: " وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا".
التدافع والدعاء
وسأله المقدم: إذن ما الذي يستخلصه المسلمون الآن و هم يواجهون هذا الطغيان و الاعتداء على الآمنين في فلسطين و في غزة بالتحديد من خلال هذه الآية ذكرتم سنتين سنة التدافع و سنة الدعاء ؟
فأجاب فضيلته: أما الأمر الأول فهو الاستبشار أن وعد الله تبارك و تعالى منجز لا محالة و أن هذه البشارة التي بشروا بها متحققة لكنها لا تتحقق إلا بإتقان فهم نواميس الله تبارك و تعالى في الكون فلا ينتظر عذابا يستأصل عدوهم، فإن هذا العذاب العام قد انتهى بإنزال ببعثة موسى عليه السلام و لئن وصف الله تبارك و تعالى حينما وصف ما أوتي إياه موسى عليه السلام بأنه هدى، فإنه عقب ييان الافسادتين و ما تلا ذلك من آيات فإن ربنا تبارك و تعالى يجعل محور سورة الإسراء الوحي القرآن الكريم " إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا" ليس هو مصدر للمعرفة النظرية، ولذلك يقول إن هذا القرآن لا يمكن أن يكون إلا لسائر باحث عن الهداية ولذلك يهدي للتي هي أقوم، و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا و أن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما و الحقيقة أن سورة الإسراء، تتعرض لموضوع القرآن الكريم أكثر ما تتعرض للتأكيد على أن المنهاج الذي يحقق النصر للمؤمنين و يمكنهم مما بشر به نبيهم صلى الله عليه و آله و سلم إنما هو السير على هذا المنهاج الأخذ بكتاب الله عز و جل إذن هذا درس ثاني.
الأمر الثالث هو أهمية التسبب الأخذ بالأسباب، التي تحقق لهم التمكين في الأرض، وهذه الأسباب عرضتها أيضا هذه السورة و هي أصول التوحيد وأصول الأخلاق، وأصول العبادات، و هذه عناوين كبرى لأننا حينما نتحدث عن أصول الأخلاق، فهذا يحمل هذه الأمة مسؤولية التخلص من الرذائل و أنواع الفساد مما ينتشر في العالم من حولهم، و أن يكونوا على يقظة و حذر مما يكاد بهم و مما يسعى إليه عدوهم من نشر الرذيلة فيهم و من إشغالهم بالملهيات، و من بعث وسائل التسلية و الترفيه و الترفيه و المجون و الخلاعة فيهم فإن هذه ليست مجرد حوادث يراد منها التكسب المالي، و إنما هي في حقيقتها صرف للمسلمين عن أصول أخلاقهم الربانية السماوية التي أكرمهم الله تبارك و تعالى بها، و إن هم استجابوا لهذه الدعوات فإنهم يتخلون بذلك عن ركن من أركان بناء مجتمعهم و دولتهم، فالسورة مكية، نزلت في أواخر العهد المكي، و لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم إلا جماعة لم يكونوا مجتمعا و إنما تؤهلهم السورة لما بشروا به في أول آية منها سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ".
الأخلاق وأصول التوحيد
و كذا الحال فيما يتعلق بأصول العقائد بأصول التوحيد الله تبارك و تعالى تجد أن الأخلاق يفتتح بها " وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا "وهكذا يتكرر فما يتعلق بتوحيد الله من صدر السورة الكريمة سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ثم في ذكر هدى لبني إسرائيل يهدي للتي هي أقوم، فيما يتعلق بالقرآن الكريم و هذا أيضا يستدعي منهم الحذر من المكائد التي تستهدف القرآن الكريم لأن سورة الإسراء كما تقدم تجعل من موضوعها الرئيس القرآن الكريم و من هذه الموضوعات التي تعرضت لها السورة ماذا يكيد المشركون المعارضون بكتاب الله عز وجل فالسورة لا نريد أن نبسط في السورة الآن و إنما فيما يهمنا منها الآن في مواجهة هذا الطغيان و الظلم ، إذن هي المحافظة على هذه الأركان إصلاح الفرد و الإصلاح العام لأنها من موضوعات السورة و الإصلاح العام هو لا يلزم أن يكون كل فرد و إنما هو أحد سببين إما أن تكون السلطة التي تتولى الأمر فإنها آخذة بهذا المنهاج القرآني محافظة على دين الله تبارك و تعالى و على الأخلاق و العبادات أو أن يكون السواد الأعظم من الناس الذين لهم الكلمة يأمرون بالمعروف و ينهون و هذا ما حملت إياه هذه الأمة فإذن هذه هي ما يتصل بكيفية التصدي مع ما تقدمت أيضا الإشارة إليه من عدم التهوين من شأن الدعاء لأن هذا الملحظ أيضا في ذكر نوح عليه السلام و ذكر موسى عليه السلام جميعا و أن كل واحد منهما دعا على قومه، فهذا فيه إشارة وتنبيه للمؤمنين إلى الضراعة والدعاء لله سبحانه وتعالى مع الأخذ بالأسباب.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: إبراهیم علیه السلام موسى علیه السلام نوح علیه السلام القرآن الکریم بنی إسرائیل علیه السلام سورة الإسراء ال م س ج د ما یتعلق فی تاریخ إن الله من بعده أن یکون دعا على له بعض من بعد
إقرأ أيضاً:
حكم التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته
النبي محمد.. قالت دار الإفتاء المصرية إن علماء الأمة من المذاهب الأربعة وغيرها، أجمعوا على جواز واستحباب التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد انتقاله صلى الله عليه وآله وسلم، واتفقوا على أن ذلك مشروعٌ قطعًا ولا حرمة فيه، وهو ما ندين الله به؛ أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم مستحبٌّ وأحد صيغ الدعاء إلى الله عز وجل المندوب إليها، ولا عبرة بمن شذ عن إجماع العلماء.
التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته
و أوضحت دار الإفتاء، مفهوم التَّوَسُّل وهو ما يُتَوَصَّلُ به الإنسان إلى الشيء ويُتَقَرَّبُ به، كما قال العلامة ابن الأثير في "النهاية" (5/ 185، ط. المكتبة العلمية).
وأكدت الإفتاء أن من رحمة الله بنا أن شرع لنا العبادات وفتح باب القربة إليه، ليتقرب المسلم إلى الله بشتى أنواع القربات التي شرعها الله عز وجل، والقرآن كله يأمرنا بالوسيلة إلى الله، أي بالتقرب إليه سبحانه.
وجاءت النصوص والأدلة المتكاثرة من الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة بمشروعية التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ذلك حاصل قبل مولده، وفي حياته الدنيوية، وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى ذلك اتفقت المذاهب الأربعة:
فمن الكتاب قوله تعالى يخبر عن حال أهل الكتاب قبل مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعثته: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: 89].
وقوله تعالى: ﴿ولو أَنَّهم إذ ظَلَمُوا أَنفُسَهم جاءوكَ فاستَغفَرُوا اللهَ واستَغفَرَ لهم الرسولُ لوَجَدُوا اللهَ تَوّابًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 64].
وأما الأدلة من السنة النبوية المطهرة:
فحديث الأعمى الذي علَّمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّد إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى لِيَ، اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ» رواه الترمذي وابن ماجه والنسائي وصححه جمع من الحفاظ، وفي بعض رواياته أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: «وَإِنْ كَانَ لَكَ حَاجَةٌ فَمِثْل ذَلِكَ»، وعند الطبراني وغيره أنَّ راوي الحديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه علَّم هذا الدعاء لمن طلب منه التوسط له في حاجة عند عثمان بن عفان رضي الله عنه في خلافته، وفي ذلك طلب صريح للمدد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
وحديث الخروج إلى المسجد للصلاة: فعن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ قَالَ حِينَ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ، وَبِحَقِّ مَمْشَايَ؛ فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، خَرَجْتُ اتِّقَاءَ سُخْطِكَ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ، أَسْأَلُكَ أَنْ تُنْقِذَنِي مِنَ النَّارِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَكَّلَ اللهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ وَأَقْبَلَ اللهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ» رواه أحمد وابن ماجه وابن خزيمة، وهو حديثٌ صحيحٌ؛ أشار إلى صحته الحافظ ابن خزيمة عندما استدل به في العقائد؛ قال الحافظ البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 98، ط. دار العربية): [رواه ابن خزيمة في "صحيحه" من طريق فضيل بن مرزوق؛ فهو صحيح عنده] اهـ.
وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه عند موت فاطمة بنت أسد أم علي رضي الله عنهما، وهو حديث طويل، وفي آخره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اللهُ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، اغْفِرْ لِأُمِّي فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ ولَقِّنْهَا حُجَّتَهَا وَوَسِّعْ عَلَيْهَا مُدْخَلَهَا بِحَقِّ نَبِيِّكَ وَالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِي، فَإِنَّكَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» رواه الطبراني في "الأوسط" (1/ 67، ط. دار الحرمين)، و"الكبير" (24/ 351)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 121، ط. السعادة)، وغيرهما. قال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/ 257): [رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه روح بن صلاح، وثقه ابن حبان والحاكم، وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح] اهـ.
وورد عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يقول: "يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وآله وسلم على مشركي العرب -يعني بذلك أهل الكتاب- فلما بعث الله محمدًا صلى الله وآله عليه وسلم ورأوه من غيرهم، كفروا به وحسدوه".