كانت الأعلامُ الفلسطينية تُرفرف في السابع من شهر فبراير/ شباط بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء، بمناسبة جنازة محمد بن سعيد، وهي المقبرة التي تضمّ رفات الشّهيد محمد الزرقطوني (أوّل شهيد للمقاومة المغربية، يضع حدًا لحياته حتى لا يفشي أسرار المقاومة)، ومحمد خيضر (من القياديين التاريخيين للثورة الجزائرية اغتيل في 1965 في مدريد)، وعبد الرحمن اليوسفي (القيادي الاتحادي والوزير الأوّل الأسبق).
جموع غفيرة تُشيِّع الفقيد إلى مثواه الأخير. الكثير منهم كانوا يلفُّون الكوفيات على أعناقهم أو يعتمرونها. كانت تلك الرمزيةُ إشارةً لما نذر له الراحل حياته من انعتاق بلاد المغرب كلها، ووَحدة العالم العربي، ومركزية القضية الفلسطينية.
كان الرجل علَمًا، يقترن بمحطات حاسمة في تاريخ المغرب الحديث والعالم العربي. انغمر في الحركةَ الوطنية يافعًا، وانضوى في حزب الاستقلال، وكان اغتيال النقابي التونسي فرحات حشاد (1952) تحولًا في مساره فانخرط في المقاومة (العمل الميداني في المدن).
ثم بعد ذلك في جيش التحرير، في الشمال أولًا، حيث كانت الإدارة الإسبانية أقلّ بطشًا، ثم في أعمال جيش التحرير في الجنوب، مما شكّل خطرًا على القوة الاستعماريّة الفرنسية، فتواطأت مع إسبانيا لقمع تحركات جيش التحرير، واستعملت الطائرات الحربية، وقتلت الماشية والإبل، وتعرّضت للأبرياء، مما يُعرف في وجدان الساكنة بـ (خبطة الطياير) (قصف الطيران). تأثر محمد بن سعيد بالقيادي المهدي بن بركة، وعانق الاتجاه اليساري الذي انشقّ عن حزب الاستقلال.
كان توجُّه محمّد بن سعيد قوميًا ويساريًا. آمن بالقضايا الناظمة للعالم العربي، ومنها مركزية القضية الفلسطينية، حتى آخر رمق من حياته، مثلما آمن بالاتّجاهات اليسارية، التي توزّعت العالمَ منذ الستينيات، من الحرب الفيتنامية والثورة الكوبية.
ولا أحسبُني مغاليًا إنْ قلت؛ إن محمد بن سعيد ثالث ثلاثة مَن طبَق ذِكرهم الآفاق من السياسيين المغاربة خارج حدود المغرب، أولهم محمد بن عبد الكريم الخطابي، من حاز لقبَ غازٍ، والثاني القيادي الأممي المهدي بن بركة.
والطريف أنّ هذا الرجل القومي، لم يكن عربيَ الأرومة، بل أمازيغيًا، من منطقة سوس، تعلم اللغة العربية الدارجة وقد قارب الشباب، تفضحه لكنته وهي يتلو خطبه بالعربية أو هو يُحدّث بها.. كان من طينة لا تميز بين عرب وأمازيغ في بلاد المغرب، طالما انغمروا في قيم، وعانقوا قضايا مصيرية.
كان مُعبِّرًا عن شريحة، تظلّ وفية للماضي، ولا تعادي المستقبل، ولا تجافي الحاضر. والمفارقة الثانية في حياة الرجل، أن هذا اليساري الصلب، المناصر لقضايا العدالة حيث تكون، تلقى تكوينًا تقليديًا، أو ما يسمى في المغرب بالمدارس العتيقة. ولكن التراث عنده لم يكن ينفصل عن روح ولا عن غاية. لم يكن مجرد مومياء محنطة.
كان ما يميز نضال محمد بن سعيد، عن غيره من رجال الحركة الوطنية، أنه الوحيد الذي لم يُمالئ السلطة، ولم يُبدِ أي مرونة تجاهها. رفض الدساتير المعروضة، واعتبرها دساتير ممنوحة تُضفي الشرعية على الحكم الفردي، أو الاستبداد، ورفض طقوس السلطة، أو ما يُعرف في المغرب بالتقاليد المَرعية، لا يُقبّل يد الملك، ولا يركع أمامه.
ولذلك لم تُوفِّره السلطة فضيّقت عليه، منذ تبني أول دستور 1962، الذي رفضته المعارضة باعتباره يُضفي الشرعية على الحكم الفردي. ارتحل بن سعيد إلى الجزائر، وكانت قِبلة الثوار، أو مكّة الثوار كما كانت تُسمى.
ثم ما لبثت السلطة في المغرب أن حكمت عليه بالإعدام غيابيًا. وكان إلى جانب فئة من السياسيين المغاربة قريبين من الرئيس بن بلة، ولذلك اختار مغادرة الجزائر سنة 1967، وعاش بالمنفى ما بين سويسرا وفرنسا، في ظروف مادية صعبة، بأوراق ثبوتية جزائرية.
بفرنسا تعرف على طائفة من القوميين. كان بسيطًا في حياته حد الزهد. وبقي على ذات السَّنَن إلى آخر حياته، يقطن في شقة متواضعة، في حي شعبي بضواحي الدار البيضاء، ويَنفر من البهرجة والظهور.
عاد إلى المغرب بداية الثمانينيات بمقتضى عفو عام وأنشأ حزبًا يضم فئة من الشباب الذين كانوا تحت تأثير الخطاب القومي، والتوجه الماركسي، هو منظمة العمل الديمقراطيّ الشعبي سنة 1983.
كان ذلك لتأكيد الخيار الديمقراطيّ، أو النضال من داخل المؤسّسات، على خلاف خيار كان يسمى بالخيار الثوري لتغيير نظام الحكم. كان هدف بن سعيد تغيير قواعد الحكم وليس مجرد نظام الحكم، إذ لا يفيد استبدال استبداد باستبداد. حاز بن سعيد مقعدًا في البرلمان 1984، وكان صوتَ من لا صوت لهم، كما كان يقال بشأنه، وكان الوحيدَ، في ظل ولاياته البرلمانية، من تجرأ بطرح سؤال من قبة البرلمان، عن معتقل تازمامارت الرهيب، وكان الموضوع من المحرمات.
أنشأ مجلة أسبوعية هي "أنوال"، وهو من اختار اسمها تيمنًا بموقع المعركة التي انتصر فيها محمد بن عبد الكريم على الإسبان، سنة 1921. كانت الأسبوعية من أهم الفصول الثقافية في تاريخ المغرب المعاصر، إلى جانب مجلة "لام ألف"، التي كانت تصدر بالفرنسية، وتحيل إلى حرف النفي "لا".
كانت أسبوعية "أنوال" (تحولت إلى يومية بعدها) خميرة ثقافية، ذات توجه قومي مؤكد. كانت منبرًا فكريًا، وساحة لفضح انتهاكات حقوق الإنسان.
كان تنظيم محمد بن سعيد- مثلما نعته الداعية الإسلامي عبد السلام ياسين في شيء من البَسْط – جيشًا مُكونًا من جنرالات، كانت المنظمة بحقّ تضم خيرة المثقفين المغاربة.
كان انخراط محمد بن سعيد في دمقرطة الحياة السياسية واحترام حقوق الإنسان جلِيّا، وكان حزبه من دعائم الكتلة الديمقراطية التي أنشئت في 1992، واستطاعت أن تنتزع من السلطة مراجعة الدستور.
بيد أن بن سعيد وبعضًا من رفاقه، رفضوا التصويت على دستور 1996، الذي لم يكن يمنح ضمانات لتداول فعلي للسلطة، ولميكانزمات توازن السلطات. عرفت المنظمة انشقاقًا جراء ذلك.
إلى ذلك كان انخراط بن سعيد في القضايا القومية لا غبار عليه، كما في لجنة الدفاع عن العراق، أو اللجنة المغربية الفلسطينية، أو مشاركته في المؤتمر القومي الإسلامي في بيروت 1994.
ظل بن سعيد ضميرًا. نأى عن المسؤوليّة في خريف عمره دون أن ينأى عن الالتزام. احتضن حزب اليسار الموحد، المكون من أطياف عدة، ودعّم براعم 20 فبراير/ شباط أثناء "الربيع العربي"، ودافع عن الصحفيين المعتقلين، ونافح عن معتقلي حراك الريف، وسعى أن يُرسي سبل الحوار مع البوليساريو، وتردّد على الجزائر في أفق مصالحة مغربية – جزائرية، وبقي على صلة مع فعاليات بها، بل حتى مع عناصر من السلطة بها. ظلّ منشغلًا بالقضية الفلسطينية، متابعًا لها.
لم يكن خطيبًا مِصْقعًا، على شاكلة السياسيين المُفوَّهين، ولكنه كان ذا حسّ سليم، والتزام صادق، وبساطة في كل أوجه حياته كلها، وكان ذلك من مصادر قوته.
خصّصت له مجلة زمان (فرنسية) ملفًا له في عددها الشهري، بعد وفاته، ونعتته في عنوان المجلة بآخر الصِّدِّيقين. أطلق عليه اليساريون راهب اليسار، ونعاه واحد من قدامى البوليساريو بخاتم المجاهدين. وحتى السلطة اعترفت بمكانته، إذ حضر شقيق الملك الأمير رشيد، جنازته. كان بحق جبلًا أشَمّ.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: محمد بن سعید لم یکن
إقرأ أيضاً:
ملك المغرب: هناك من يستغل قضية صحراءنا ليغطي على مشاكله الداخلية
وجه الملك محمد السادس، ملك المغرب، خطابا ساميا إلى الشعب المغربي بمناسبة الذكرى 49 للمسيرة الخضراء التي استعادت من خلالها المملكة المغربية أقاليمها الجنوبية بطريقة سلمية.
وأكد العاهل المغربي أن المسيرة السلمية والشعبية التي قام بها المعرب سنة 1975، مكنت من استرجاع الصحراء المغربية، وعززت ارتباط سكانها بالوطن الأم، حيث تمكن المغرب، منذ ذلك التاريخ، من ترسيخ واقع ملموس، وحقيقة لا رجعة فيها، قائمة على الحق والشرعية، والالتزام والمسؤولية؛ ويتجلى ذلك، وفق الملك المغربي، من خلال: أولا، تشبث المغاربة الصحراويون بمغربيتهم، وتعلقهم بمقدسات الوطن، في إطار روابط البيعة، القائمة عبر التاريخ، بين سكان الصحراء وملوك المغرب.
وثانيا، النهضة التنموية، والأمن والاستقرار، الذي تنعم به الصحراء المغربية. ثالثا، الاعتراف الدولي المتزايد بمغربية الصحراء، والدعم الواسع لمبادرة الحكم الذاتي.
أوضح محمد السادس أن هناك عالم آخر، منفصل عن الحقيقة، ما زال يعيش على أوهام الماضي، ويتشبث بأطروحات تجاوزها الزمن، فهناك، يضيف العاهل المغربي، من يطالب بالاستفتاء، رغم تخلي الأمم المتحدة عنه، واستحالة تطبيقه، وهناك من يستغل قضية الصحراء، للحصول على منفذ على المحيط الأطلسي، وهو ما لا يرفضه المغرب الذي اقترح مبادرة دولية لتسهيل ولوج دول الساحل للمحيط الأطلسي، في إطار الشراكة والتعاون، وتحقيق التقدم المشترك، لكل شعوب المنطقة.
في نفس الإطار، أشار ملك المغرب أن هناك من يستغل قضية الصحراء، ليغطي على مشاكله الداخلية الكثيرة، وهناك كذلك من يريد الانحراف بالجوانب القانونية، لخدمة أهداف سياسية ضيقة، وهو ما يجعل المغرب، وفق تعبير الملك محمد السادس، مصمما على اعتبار أن الشراكات والالتزامات القانونية للمملكة، لن تكون أبدا على حساب وحدتها الترابية، وسيادتها الوطنية.
خاطب العاهل المغربي الأمم المتحدة بالقول: "لقد حان الوقت لتتحمل الأمم المتحدة مسؤوليتها، وتوضح الفرق الكبير، بين العالم الحقيقي والشرعي، الذي يمثله المغرب في صحرائه، وبين عالم متجمد، بعيد عن الواقع وتطوراته".
في سياق متصل، أبرز ملك المغرب أن المرحلة التي تمر منها قضية الوحدة الترابية للمملكة، تتطلب استمرار تضافر جهود الجميع، منوها بروح الوطنية التي يتحلى بها المغاربة المقيمون بالخارج، وبالتزامهم بالدفاع عن مقدسات الوطن، والمساهمة في تنميته.
من جهة ثانية، سلط العاهل المغربي الضوء على التضحيات التي قدمها جيل المسيرة، والتي تحفز المغرب على المزيد من التعبئة واليقظة، قصد تعزيز المكاسب التي حققها، في ترسيخ مغربية الصحراء، ومواصلة النهضة التنموية، التي تعرفها أقاليمنا الجنوبية. وبنفس الروح، يضيف ملك المغرب، يجب العمل على أن تشمل ثمار التقدم والتنمية، كل المواطنين في جميع الجهات، من الريف إلى الصحراء، ومن الشرق إلى المحيط، مرورا بمناطق الجبال والسهول والواحات.