منهج الاستقراء الأرسطي
تاريخ النشر: 15th, February 2024 GMT
آخر تحديث: 15 فبراير 2024 - 12:23 مكاظم لفتة جبر
إن عملية إعادة الفكر اليوناني على وفق إطار العقيدة المسيحيّة لا يخلو من التجديد القائم على الحوار الثقافي بين الحضارات غاية في إيجاد بيئة فكرية وفلسفة توافقية بين اللاهوت والعقل، كما أن الفكر اليوناني هو الفكر القائم على بيئة وثنية كان أقرب إلى الفكر العلمي الفلسفي، على عكس فكر وفلسفة العصور الوسطى التي كانت لاهوتية، لأن غرضها كان التوفيق بين الأرض والسماء.
. وهذا ما يمكن معرفته من خلال الفلسفة التي سادت في الشرق الإسلاميّ أو الغرب المسيحيّ. إن المحاولات التي قُدم عليها المسيحيون في استيعاب الفكر اليوناني كانت تقتصر على الفلسفات ذات النزعة المثالية (افلاطون والافلاطونية) التي تكون السند إلى فكر وعقيدة الكنيسة المستخلصة من السماء، كما تراها الكنيسة.. وهذا كان عن طريق القديس أوغسطين، لذلك منعت الكنيسة المسيحية خوفاً على مصالحها المادية من الفلسفات ذات النزعة العقلية (الأرسطية) التي ترى من الواقع هو الحقيقة، وانه يجب التعامل على وفق حقائق محسوسة تجعل من الإنسان هو القائد في إدارة توجه العقلي والفردي.
أما في الجهة المقابلة من المسيحية نجد الفكر في الشرق الإسلامي الذي كان أكثر تحرراً وعقلية في استقبال الفكر اليوناني، وخاصة الارسطي، لذلك كانت الشرق متقدماً على الغرب في التطور العلمي والثقافي والفلسفي، لجعله من العقل والتجربة هو المقياس في التوفيق بين الفلسفة والدين.إن حركة النقل التي قادها السريان في الشرق في القرن الثالث في «الرها ونصبين» وهما مدينتان في بلاد ما بين النهرين لنقل الفلسفة اليونانية إلى اللاتينية، ومن ثم إلى العربية، كان لها الصدى الأكبر في خدمة المسلمين لمعرفة أفكار وثقافة الأمم الأخرى.وفي سياق النقل من الممكن أن يكون السريان قد حاولوا من خلال ترجماتهم للفلسفة اليونانية التوفيق بينها وبين المسيحية، لذلك وصلت الفلسفة اليونانية، وخاصة فلسفة أرسطوا إلى العرب بصبغة لاهوتية مسيحية، لذلك لم تكن عصية الفهم على العقل الإسلامي وبها وجد المسلمون مبتغاهم العقلي في الفلسفة الأرسطية عبر ترجمات مسيحية، لذلك قد يكون أرسطوا الذي عرفة المسلمين بأنه مؤمناً بالأفكار المسيحية، سهل عليهم التوفيق والتأقلم مع الفكر الأرسطي. إلا أنّ ذلك لا يعني أن الأفكار الأرسطية بقت مفعمة بالمسيحية، بل أخضع إلى العقل والقرآن الإسلامي لفهمه على وفق منطق العقل الإسلامي والثقافة العربية والروحية الشرقية، لذا ظهر أرسطوا مع الفلسفة الإسلامية أكثر تطوراً وصلابة وتعددية في أفكاره.
أيضا فأن حكاية الفكر لا تكتمل إلا بعد التواصل بين حلقاتها ومحاولة استثمار الميزات فيما بينها، من هنا أقدم المسيحيون في القرن الثاني عشر على ترجمة الفكر اليوناني والإسلامي مستبعدين الفكر الأرسطي الميتافيزيقي، ولكنهم سمحوا للطبيعيات من أجل دراستها في الجامعات الاوروبية لغرض التطور العلمي، لا لأنهم لم يوفقوا في ذلك، لأن الفلسفة الارسطية قائمة على استثمار الطبيعيات من أجل فهم الغيبيات (ما بعد الطبيعة)، أي بمعنى أن أرسطية القرن الثاني عشر كانت غير مكتملة المعالم الثقافية. حتى جاء القرن الثالث عشر، الذي كان عصراً ذهبياً للعقل المسيحي من خلال القديس توما الاكويني (1225_1274) عندما قرر اعادة الترجمات للفكر اليوناني والمسيحي طالباً المساعدة من صديقة المترجم جيوم دي موربيكي لترجمة أرسطوا ومؤلفات الفلاسفة المسلمين، لغرض فهم الأفكار الارسطية فهماً يقربهُ من العقيدة المسيحية، وأن الاكويني قد وجد مبتغاه الفكري من خلال الفلسفة الاسلامية وفلاسفتها (الفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد) لما فيها من فهم للفكر الارسطي وتوافق بين الأرض والسماء بعدما قاموا بتهذيب الارسطية بالعقل الاسلامي الشرقي. فعندما قدم توما الاكويني الارسطية من جديد، وجدت مقبولية لدى العقل الأوربي والكنيسة، لأن أرسطوا الذي تكلم عنه في فلسفته ليس أرسطوا اليوناني الوثني، بل أرسطوا الاسلامي الذي تحدث عن اله منفصل عن العالم وسلسلة العلل السببية للحركة عبر تفرقته بين الواجب والممكن، ووجد أن هناك تدرج وفرق بين الكمالات، وأن هذا النظام القائم بين الموجودات لا يوجد إلا بوجود عقل يدور الكون بمداره وعنايته. فأرسطوا في الفلسفة الإسلامية كان ذو نزعة دينية وقريب من السماء، بعدما كان مرتبط في الأرض اليونانية وذو فكر أفقي لا عمودي، فأن اليونان كانت في قمة سطوتها الثقافية إلا أنها حضارة مادية بعكس الحضارة الشرقية ذي نزعة روحية، فعندما جمع الفلاسفة المسلمون أفكار الحضارتين وصل العقل الإنساني إلى أوج العطاء المعرفي ومحاولة استثمار الطبيعة علمياً، بعدما كانت أسطورة مخيفة لدى الإنسان القديم، فأنتجت الأرسطية المفهمة بالروح الشرقية كمياء «جابر ابن حيان وطب الحسن ابن الهيثم والكندي»، وثقافة الفارابي التوفيقية المعتدلة، وعلم نفس ابن سينا، وثقافة ابن رشد العلمية.
أرسطوا الذي وجد في الفكر المسيحي عند طريق الاكويني هو أرسطوا بعقل إسلامي، لذلك نجد الاكويني ذو أثر حي في تطور الفكر المسيحي نحو العلمية، بعدما فصل اللاهوت عن العلم، وبذلك قدم الاكويني خدمة جليلة لأوروبا للوصول إلى مصاف الحضارات المتطورة.. وهذا لم تنتبه له أوروبا إلا بعد وفاة الاكويني بأربعة قرون، حتى بدأت اوروبا التطور وعصر النهضة من خلال الفكر الارسطي عن طريق الفيلسوف جورج بيكون (1561_1626) الذي يرى أن الفلسفة الحقة يجب أن تقوم على أساس من العلم وتستمد نتائجه من الملاحظة والتجريب، إذ رأى ضرورة إصلاح المنطق الارسطي الصوري وتعديله والاستعاضة عنه بمنطق جديد يمهد السبيل أمام الإنسان لكي يستطيع بواسطته الكشف عن ظواهر الطبيعة والسيطرة عليها من خلال منهج الاستقراء الأرسطي.
المصدر: شبكة اخبار العراق
كلمات دلالية: من خلال
إقرأ أيضاً:
ما هو سلاح المقاومة الذي يريد الاحتلال الإسرائيلي نزعه من غزة؟
يتبين للمتابع منذ عودة حرب الإبادة الصهيونية على قطاع غزة في 18 آذار/ مارس الماضي أنها حرب فوق كل الأهداف المعلنة المزعومة لها، وعودتها خارج كل المبررات المساقة من الإسرائيليين، وجاءت بعد اختبارهم الناجح للعالم وللإدارة الأمريكية الجديدة عبر انتهاك الاتفاق عشرات وربما مئات المرات أمام ترامب، فكانت نتيجة طبيعية للشعور المفرط بقوة الدعم الأمريكي لكل ذلك. وفي الواقع كانت بقرار وأمر أمريكي يدعو بنيامين نتنياهو لذلك أو يحركه بهذا المسار لينوب عن واشنطن في إبادة أهل غزة؛ لدوافع سياسية اقتصادية كشف عنها ترامب نفسه من خلال صفقته المضخمة حول غزة مع بدء تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق الذي دمرته إسرائيل، وهو ما شكل حجر الأساس الأمريكي لتدمير الاتفاق وبما يتماشى مع رغبات نتنياهو الشخصية والسياسية بمواصلة حرب ضد شعب فلسطيني أعزل، بهدف دفعه نحو التهجير القسري وتفريغ غزة وسرقتها.
وتشير المعطيات منذ استئناف الإبادة إلى أن معركة وجودية لم يعد يخوضها الاحتلال ضد المقاومة المقاتلة ككيان عسكري في قطاع غزة، بل إنها معركة وجودية بالنسبة إليه ضد كل الوجود الفلسطيني في قطاع غزة، وانتقل الحديث المعلن المكشوف لدى كثير من قادته ووسائل إعلامه باعتبار المدنيين أضرارا
جانبية إلى جعلهم هدفا معلنا، وهو أوقح أنماط الإصرار على الإبادة، فما يحدث في غزة الآن حرفيا هو إبادة فقط وإبادة للسكان الأصليين بدون الحد الأدنى من المقاومة المعتادة المعهودة، أو على الأقل الظاهرة بتكتيك المعارك الثابتة والتصدي المباشر.
إنها حرب يشنها جيش منظم على عظام المدنيين وخيام النازحين دون مقدمات أو مبررات، فحتى مبرر هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 قد بطل كليا من النواحي السياسية والعسكرية والشعبية التي تحركها دوافع الانتقام نفسها والرغبة بالتدمير العسكري للمقاومة الفلسطينية نفسها وتحرير الأسرى، هذا إن افترضنا بشكل حيادي للحظات أنها معركة لفعل ذلك، فكل ذلك لم يعد مبررا بالمرة ولم يعد أحد يمكنه تصديق كل ذلك، حتى من كثير من الجنود وضباط الجيش والمخابرات في دولة الاحتلال وكثير من حلفاء إسرائيل والمؤيدين لإبادة غزة، فانتقلت إسرائيل بكل وقاحة لمرحلة الإفصاح عن الهدف المباشر، وهو القتل الجماعي بهدف القتل الجماعي الذي يؤدي لتهجير السكان أو دفعهم للهجرة بعد قتل نسبة كبيرة منهم. حتى الجولة الأولى من الإبادة قبل الاستئناف الأخير في 18 آذار/ مارس الماضي لم يكن شكلها بهذا الشكل.
وهذا الكلام ليس للوم المقاومين، فهم بذلوا كل ما يملكون وما يمكنهم سواء أكانوا يحاولون الحفاظ على بعض مقدراتهم المحلية أو ضرب العدو بذكاء وبشكل نوعي محقق ليظهر بمظهر الإرهابي أكثر وأن يسوؤوا وجهه أكثر سياسيا وحقوقيا وعسكريا من خلال عدم الرد أو التعامل معه عسكريا بنفس الطريقة السابقة قبل استئناف الإبادة، أو ربما بسبب أنه لم يعد لديهم مقدرات كافية لفعل ذات الأمر. وأتحدث هنا بتجرد تام وحيادية مؤقتة.
وفي سياق المقترح المقدم لاتفاق جديد مؤخرا فهناك نقطتان خطيرتان في المقترح الجديد الذي مررته مصر لحركة حماس من الاحتلال والذي قالت حركة حماس إنها تدرسه، وهما: تضمنه شرطا ابتزازيا بالتفاوض على نزع سلاح المقاومة بغزة كشرط أساسي لأي اتفاق لوقف إطلاق النار وفقا لما تم نشره وتداوله، وهو أمر رفضته حماس كليا وقطعيا، وثانيا فكرة الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين ضمن دفعتين فقط مقابل أسرى فلسطينيين، والتزامات تترتب على الاحتلال وضمن فترات زمنية. وهذا يسهل على إسرائيل التنصل لاحقا والعودة للإبادة التي ترغب بها، فهي فعلت شيئا مشابها وتنصلت من التزاماتها في الاتفاق الأخير ومنعت الانتقال للمرحلة الثانية رغم أن الإفراج كان يتم على دفعات صغيرة، فإن تم تعجيل الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين ضمن دفعتين فهذا يعني تعجيل تمكن الاحتلال من التنصل منه في حال لم تكن هناك ضمانات أقوى ضد إسرائيل؛ من خلال ابتزازها بأوراق من المقاومة داخليا أو بقوة ردع من المجتمع الدولي.
وبالعودة لمسألة حرب الإبادة وقدرات المقاومة، فربما يرجح أن المقاومة تركت الجيش الإسرائيلي يقاتل دون إشعارها له بوجود عمليات مقاومة ثابتة متكررة الضربات ومتوقعة التكتيكات، وهو ما يربك الاحتلال ويعزز عنصر المفاجأة لدى المقاومة والخوف لدى الجنود الإسرائيليين المتوغلين، كما يعزز من استراتيجية اقتصاد القدرات لديها، ومن ناحية أخرى يثبت أو يتقارب مع نظريات عسكرية تحدث عنها جنرالات أمريكيون متقاعدون من أن المقاومة (بشكل عام وليست الفلسطينية فقط، بل من حيث المبدأ لدى المقاومات) تعمل أحيانا بتكتيكات تحاول إبراز الجانب الإجرامي والدموي الوحشي غير المبرر للاحتلال ضد السكان، من خلال كشف معركته الحقيقية التي هي ضد كل السكان الأصليين وليس ضد حَمَلة السلاح والمقاتلين، وهذا بحد ذاته يضعفه ويضعف روايته ويربكه أمام مجتمعه وأمام العالم وأمام المقاومين أنفسهم.
والمحتل في كل الأحوال يرتكب الجرائم وسيتم الرد عليه مهما اختلف التكتيك في القتال، لكن هذه الأساليب ترفع من أسهم المقاومة والرأي العام الداعم لها وللشعب الفلسطيني، وتحسن الحالة النفسية للمقاومين وتحسن الاستثمار الوطني والنتائج الممكنة بالتضحيات الكبيرة وفقا لوجهات نظر، كما تُشعر الجندي الإسرائيلي بأنه يقاتل بشكل عبثي ودون وجهة أو هدف واضحين، كما ينزع هذا الأسلوب وفقا لمقالة للمحلل في قناة الجزيرة سعيد زياد؛ الشرعية عن حرب الاحتلال داخليا أمام جمهور الإسرائيليين ويظهرها بمظهر الحرب العبثية التي تشن لأهداف شخصية لدى نتنياهو واليمين الإسرائيلي.
وعلى الرغم من كل ذلك تبقى حقيقة أن المقاومة هي بإمكانيات محدودة عسكريا من الناحية العملية، وموضوعيا إن أردنا مناقشة الأمر المتعلق بالشرط الإسرائيلي بنزع سلاح المقاومة بواقعية عسكرية وسياسية، فهدف إضعاف المقاومة عسكريا قد تحقق إسرائيليا وإن نسبيا، فيستحيل أن تكون المقاومة لم تفقد كثيرا من قوتها مقارنة بما قبل هذه الحرب الوحشية، وهذا لا يعني أنها غير قادرة على الردع والصمود والثبات.
وفكرة نزع سلاح المقاومة هي فكرة غير قابلة للتنفيذ بتاتا؛ ليس لأنه أمر غير قابل للمساومة والنقاش أو لأنه من ثوابت الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة للدفاع عن بقائه على قيد الحياة ومواجهة الاحتلال دون شطب كامل له ولهويته، فالفلسطينيون صنعوا سلاحهم محليا ويمكنهم صناعة مثله من أبسط الإمكانيات دائما، ولكن لأنه لا يوجد سلاح للنزع أصلا، بل هي محاولات فلسطينية لإيجاد سلاح وردع والحفاظ على البقاء، وليس سلاحا بالمعنى الحقيقي للسلاح الذي يمكن نزعه.
وفكرة استمرار القصف الإسرائيلي على غزة والتدمير والقتل حتى اللحظة دون مواجهة عسكرية شاملة في كل زقاق وشارع وحي كالسابق؛ من منظور عسكري غير مبررة عند الإسرائيليين، فالمقاومة حاليا شبه منزوعة السلاح وإن نظريا وصوريا أو إن كانت تفعل ذلك كخدعة، لكن هذا ما يظهر واستنفدت كثيرا من إمكانياتها في مراحل مضت من محاولة التصدي لجرائم الإبادة، بل إن أسلحتها من الأساس دفاعية خفيفة يمكنها إن استخدمت بذكاء واقتصاد ومرونة كما أن تحدث إصابات مؤكدة لكنها ليست حاسمة، ولا يمكن غالبا من تكرار طوفان الأقصى كل عدة سنوات مثلا، فعن أي نزع سلاح يتحدث الإسرائيليون إذا؟!
أنا لا أتحدث هنا عن رؤية كل منا للطريقة الأفضل التي يمكن أن تدار بها معركة أو نهج قتالي من مقاومة شعبية ضد احتلال، فهذه معركة طويلة ولها رؤى عديدة كلها تحمل في طياتها الإيجابي والسلبي، وليس الحديث أيضا عن خلافات أيديولوجية أو خصومات سياسية أو توافق مع حركة المقاومة الأبرز حاليا، أو حول سؤال كيف نفكر باليوم التالي، فالأمر تجاوز ذلك منذ وقت طويل من عمر هذه المجزرة المتواصلة، وكل تلك القضايا نوقشت وقيل فيها كل شيء، بل إن اليوم التالي الفلسطيني نوقش مرارا وتكرارا بين الفلسطينيين بمن فيهم الفرقاء وتم التوصل لحالة يمكن تطبيقها كتشكيل حكومة وحدة وطنية أو لجان إسناد تدير القطاع مثلا. حتى مسألة إن كانت المقاومة قد فكرت مليا بنتائج الطوفان أم لا نوقشت، ولم تعد هذه المسألة هي الفكرة الرئيسية اليوم ولم يعد النقد الداخلي هو أساس الحل أو المشكلة، رغم أهميته، وذلك بصرف النظر عن كل الرؤى؛ من أكثرها تمسكا بالمقاومة المسلحة إلى الأبعد عنها أو حتى من يجاهر بالعداء معها. تجاوزت الأمور مسألة كيف يمكن للشعوب العربية والإسلامية وأحرار العالم دعم غزة وفلسطين في ظل حرب الإبادة المستمرة، كما تجاوز الأمر كل مراحل خذلان المدنيين والمقاتلين في قطاع غزة الذين خفت ذخيرتهم وجفف عنهم الطعام والدواء والماء وكل شيء، هذا عدا عن القتل الجماعي الذي لا يتوقف للحظة.
لكن بالفعل، ماذا يعني طلب نزع سلاح المقاومة في ضوء كل ذلك؟ وماذا تعني فكرة نزع سلاح كان بالأصل سلاحا دفاعيا مصنعا محليا خفيفا لم يعد موجودا منه الكثير، وحتى إن كان بالأصل موجودا فهو لا يعادل سلاح كتيبة شرطية في أصغر دولة في العالم؟ ماذا يعني نزعه كشرط لوقف المقتلة؟ وهل هذا يعني شيئا سوى تأكيد أن إسرائيل خائفة من أبسط أداة يمكن أن يقاتل بها الفلسطينيون للبقاء وتأكيد على استمرار المقتلة والإبادة أطول وقت ممكن؟
ما يعنيه ذلك باختصار هو أن السلاح الذي تتحدث إسرائيل عن ضرورة نزعه من غزة هو الشعب، نعم الشعب الفلسطيني، فإما نزع الشعب وتهجيره واقتلاعه أو الإبادة، أو ربما كلاهما معا، لأن السلاح العسكري الحقيقي بالأساس هو سلاح مقاومة قدراتها محدودة مصدرها الشعب نفسه، والتسليح كنظرية فعلية بسيط جدا وسطحي ومحدود في كل من تخشاهم إسرائيل عسكريا مقارنة بها، وهذا ما أثبتته الوقائع منذ نشوئها إلى اليوم وليس فقط خلال حرب الإبادة الأخيرة، ولا ترقى الأمور لفكرة النزع فهو سلاح متواضع خفيف بسيط محلي الصنع.
الشعب الفلسطيني في غزة ككتلة بشرية كبيرة هو السلاح المراد نزعه هذه المرة -على الأقل في غزة- لأنه سيقاوم دائما بمجرد بقائه في أرضه، وهو من يقاوم، وهو السلاح حتى لو امتلك حجرا أو قلما أو رصاصة. لو كان هناك سلاح عسكري حقيقي لدى الفلسطينيين لما استمر الشيء المدعو "إسرائيل" حتى اللحظة أصلا، باعتبار المعركة بين الإسرائيليين والفلسطينيين هي المعركة الوجودية الصفرية الأشد بين الكيان والسكان الأصليين، ورفض نزع سلاح الفلسطينيين يعني رفض انتزاعهم من أرضهم بكل بساطة.