“The Guide to Modern Cooking”: Viewing Sudanese Women’s Labor through an Arabic Home Economics Textbook
Heather Sharkey هيذر شاركي
تقديم: هذه ترجمة لبعض ما جاء في ورقة قدمتها هيذر شاركي (الأستاذة بجامعة بنسلفانيا الأمريكية) في يناير من عام 2014م لمؤتمر بباريس عنوانه "منهجيات إبداعية: التقاط قصص نساء الطبقات الشعبية العاملات في البيئة الحضرية الأفريقية، 1920 – 1970م".

Creative Methodologies: Capturing the Stories of Working Women from popular Classes in African Urban Milieu, 1920 - 1970".
المترجم
********** ********** ********
1/ ذكرت الكاتبة في مقدمتها أن الغرض من هذه الورقة الأولية preliminary هو تتبع تاريخ "النساء العاملات بأجر working women" – وأيضا تاريخ من يعملن في منازلهن women working بلا أجر. واستخدمت لهذه الدراسة كتاباً عربياً (سودانياً) للطهي من أجل تقديم بعض الرؤى والأفكار عن عمل المرأة في داخل الأسرة؛ وعنوان الكتاب هو "دليل الطهي الحديث" الذي صدر بقلم مدينة بابكر الغالي ونفيسة خليل جبارة، ونشرته المطبعة الحكومية عام 1973م بالخرطوم. وبالكتاب العديد من الرسومات التوضيحية (باللونين الأبيض والأسود).
عملت المؤلفة الأولى رئيسةً لقسم الاقتصاد المنزلي بمعهد تدريب معلمات المرحلة الثانوية، بينما عملت الثانية بكلية تدريب المعلمات. ويُعد هذا الكتاب "كتاباً دراسيا textbook" و"كتابا للطهيcookbook " في آن معاً، ويغطي جوانب متعددة في مجالات التغذية والنظم الغذائية والتمارين الرياضية، ويقدم نصائح في مجال "التدبير المنزلي" ووسائل نظافة البيت، وعدد من الوصفات الغذائية، مرتبة بحسب أنواع الأطعمة (أطباق اللحوم والخضروات، والحلويات الباردة والحارة، الخ). ويعتبر هذا الكتاب الآن من الكتب النادرة، وليس له ذكر في سجلات WorldCat (وهو فهرس موحد، تابع لمركز المكتبة الرقمية على الإنترنت، يجمع محتوى أكثر من 17900 مكتبة في حوالي 123 دولة وإقليم حول العالم)، وتوجد منه نسخة واحدة فقط في مكتبة الكونغرس، ليست للاستعارة. ولعل ندرة هذا الكتابة تعد رمزاً أو كناية عن تاريخ النساء الخفي (أو المخفي في الغالب)، والذي يتعذر الوصول إليه. ويجمع المؤرخون على أن كتب الطهي في كل اللغات ترتبط بعمل النساء في البيت، ولا تُقَوَّمُ بحسبانها أعمالاً جديرة بالتصنيف كأعمال أكاديمية / علمية. ولعل هذا ما يفسر عزوف المكتبات عن جمع مثل تلك الكتب وإدراجها في فهارسها.
غير أن التأمل في كتاب "دليل الطهي الحديث" يقدم لنا دروساً عديدة يجدر بنا ذكرها للقراء. فهذا الكتاب يكشف عن المواقف حول الحياة النسوية المنزلية والجمال والصحة والنظافة. إنه يقدم معلومات حول التكنولوجيا والثقافة المادية، مما قد يشير إلى الكيفية التي تغيرت بها البيوت حتى صارت تحتوي على مطابخ بها أجهزة مثل الثلاجات. إنه يعكس القومية / الوطنية والديناميات الطبقية. وعندما نشرت الحكومة هذا الكتاب في عام 1973م - أثناء فترة الهدوء بين الحرب الأهلية الأولى والثانية (بجنوب السودان. المترجم) - كان تعليم البنات في مرحلة الثانوي يتوسع باضطراد. وفي هذا السياق، خاطبت المؤلفتان الفتيات بحسبانهن عضوات في الطبقات الوسطى المتطلعة والطموحة في السودان (1)، بينما قدمت المرأة السودانية على أنها امرأة مثقفة وعصرية، وفي ذات الوقت تحترم التقاليد.
2/ ذكرت الكاتبة أنها قرأت هذا الكتاب أول مرة باعتباره "كتاب طهي"، ضمن كتب أخرى من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أجل دراسة أبعاد الطهي في الثقافة الدينية لدى أصحاب الديات السماوية، وكيف أن كتب الطهي تبرز تقاليد الطعام عندهم (مثل الجلوس معاً حول نفس المائدة، وكيف أن مشاركة الطعام معاً تعزز من الاحترام المتبادل والشعور بالانتماء للمجتمع). وأشارت الكاتبة أيضاً إلى أن ذلك الكتاب السوداني أثار اهتمامها، ليس كمجرد كتاب للطهي، بل بحسبانه كتاباً دراسياً يقدم نماذج (models) للنساء السودانيات كربات منازل عصريات وزوجات وأمهات. وتسآلت الكاتبة عن تصور المؤلفتين لقارئات الكتاب: هل كن بالنسبة لهما "نساء عاملات" (أي عاملات وموظفات يعملن مقابل أجر خارج المنزل) أم كن فقط نساء يعملن في بيوتهن (من دون أجر معلوم)؟ واقترحت الكاتبة أن يقرأ الناس هذا الكتاب في سياق تاريخ العمل، سَواءً أكانت النساء ينلن أجراً على ما يقمن به من عمل، أو لا يحصلن على شيء (وهو ما يسميه علماء الاجتماع "العمل الخفي invisible labor" ضمن الاقتصاد غير الرسمي informal economy). وذهبت الكاتبة إلى أن الحقائق والتخيلات الاجتماعية التي قدمها كتاب "دليل الطهي الحديث" تقدم أشياء مشتركة بين الكثير من أقطار العالم؛ ولها صلة خاصة بالولايات المتحدة ومصر وبريطانيا، وهي دول مثلت قنوات لأفكار الاقتصاد المنزلي التي شقت طريقها إلى السودان (في بداية القرن العشرين).
3/ ذكرت الكاتبة أن ارتباط كتب الطهي العربية بالنساء هو ظاهرة تاريخية حديثة نسبياً. ففي العصور الإسلامية الباكرة (بين القرن العاشر تقريباً إلى القرن الخامس عشر الميلادي) ظهرت أعداد كبيرة الكتب المخصصة للطهي التي ألفها رجال كانوا في الغالب يعملون في قصور الخلفاء والسلاطين (استشهدت الكاتبة هنا بمؤلفات ليلى زوالي ونوال نصر الله وغيرهما، وبعدد من الأوراق الحديثة (2)). غير أن كتب الطهي العربية (خاصة بأقلام النساء) بدأت في الازدياد في مصر مع ازدياد التعليم في القرن العشرين، واكتسبت الكثير من الشعبية في أوساط القراء. ويؤكد صدور كتاب "دليل الطهي الحديث" السوداني مدى التوسع الذي حدث في مجال محو التعليم وتعليم البنات بالسودان، وتحول ديناميات النوع الاجتماعي في تاريخ القراءة والكتب.
4/ تناولت الكاتبة أيضاً موضوع دخول "الاقتصاد المنزلي" إلى السودان عبر مصر، وذكرت بأن ذلك العلم كان قد ظهر بالولايات المتحدة لأول مرة في العالم إبان سنوات القرن التاسع عشر الباكرة، ليس فقط كمادة أكاديمية لها أبعاد نظرية وعملية، بل كحركة عالمية تقودها النساء. ودخلت تلك المادة إلى مصر عن طريق مدارس التبشير المسيحي التي بدأها الأمريكيون في خمسينيات القرن التاسع عشر، ثم دخلت للسودان بعد عام 1900م. وكانت الحكومة المصرية في عهد الخديوي إسماعيل قد افتتحت في عام 1873م مدرسةً للبنات أدخلت في مناهجها مادة أُسْمِيَتْ "الفنون المنزلية". وفي تسعينيات القرن التاسع عشر بدأ الكتاب الوطنيون في مصر في مناقشة فائدة إدخال مادة "التدبير المنزلي" لخلق بيوت وعائلات عصرية، الأمر الذي كانوا يرون أنه سيفضي لخلق دولة عصرية. ومع بداية القرن العشرين شرع بعض الكتاب بمصر في الدعوة لإدخال مادة "التدبير المنزلي" في المدارس، وكانت النساء في أذهانهم وهو يدعون لذلك. وفي بداية ذلك القرن قامت امرأة لبنانية اسمها ملكة سعد بإصدار مجلة سمتها "الجنس اللطيف"، كانت تنادي أيضا بالاعتراف بأهمية "التدبير المنزلي" في البيوت المصرية الحديثة. وسرعان انتقلت تلك الأفكار للسودان بعد الغزو البريطاني – المصري، الذي افتتح بعض الإرساليات في الخرطوم الكبرى، كانت تدرس فيها مواد الحساب والقراءة والكتابة، وتعلم البنات أيضا التطريز (شُغْل الإبرة) وصنع مفارش الوسائد والمناديل المطرزة. وعندما أفتتح بابكر بدري مدرسة للبنات في رفاعة عام 1907م قلد النموذج التبشيري في تعليم البنات وأدخل شُغْل الإبرة في منهجه أيضاً؛ وكان يعد ذلك التعليم الموجه خصيصاً للإناث نوعاً من التطور والحداثة. ولم يدخل بابكر بدري مادة طهي الطعام، ربما لأن شُغْل الإبرة والتطريز أسهل في مواده المطلوبة من تعليم مادة الطهي الذي يتطلب مساحة أكبر ومواد ومعدات أكثر، وماء للنظافة). ويجب تذكر أنه كان من النادر جداً أن تجد بنتاً أو امرأة في السودان قبل القرن العشرين تجيد القراءة والكتابة. وبعد أن بدأ تعليم البنات في المدارس بالسودان كن يدرسن نفس المواد التي كان يدرسها الأولاد، مثل الحساب والدين (3).
وفي عشرينيات وثلاثينات القرن العشرين فتحت بعض المدارس التبشيرية والأهلية التي كان تعلم البنات فصولاً للتدرب على شُغْل الإبرة والتطريز سُمي الواحد منها "بيت الخياطة" (4). وكانت السودانيات اللواتي افتتحن مثل تلك الفصول الخاصة قد تعلمن شُغْل الإبرة والتطريز في المدارس التبشيرية. وكانت التلميذات السودانيات يأتين لبيوت المدرسات ليتعلمن الطبخ والتنظيف والخياطة. وفي غضون تلك السنوات تواصل في مصر التقدم في مجال الاقتصاد المنزلي. ففي عام 1939م قامت إحدى العاملات في وزارة التعليم المصرية (واسمها فاطمة فهمي) بإصدار كتاب دراسي (من ثلاثة أجزاء) عنوانه "التعليم المنزلي". وتوالى بعد ذلك إصدار كتب الطهي وإدارة البيت حتى ستينيات القرن الماضي. ولعل تلك الكتب كانت بمثابة النموذج الذي احتذته مدينة بابكر الغالي ونفيسة خليل جبارة في كتابهما. غير أن المؤلفتين السودانيتين أرادتا إصدار كتاب طهي سوداني ليدرج ضمن منهج تعليمي سوداني، تأكيداً للاستقلال الوطني والمعاصرة في فترة ما بعد الكلولونيالية. ولكن القارئة / القارئ قد لا يجد بهذا الكتاب الكثير من المحتويات السودانية الخالصة.
5/ أهدت المؤلفتان كتابهما إلى "الطالبات وربات البيوت، على حد سواء"، وكانتا بهذا العمل تتابعان وتساهمان في حركة النساء العالمية ذات الأبعاد الأكاديمية والمهنية. ووصفت المؤلفتان كتابهما في المقدمة بأنه دراسة "للمعلومات العلمية والعملية" المتوفرة عن "مبادئ التغذية". وقدمتا نصائح حول تحضير وجبات غذائية للأسر النواتية / النووية (central families)، وليس للأسر الممتدة (extended families)، ويظهر ذلك من كميات وأحجام المكونات المذكورة في الوصفات. وتطرقتا للمواد والأجهزة المطلوبة للمطبخ العصري، وللصحة العامة. وخصصتا فصلاً كاملاً عنوانه "دراسة الغسيل" تناولت فيه طرق غسل الملابس والعناية بمختلف أنواع الأقمشة. وفي ذلك الفصل نصحتا القارئات بالتوسط والتعقل والاعتدال، والابتعاد عن الإسراف والتفسخ. وربطتا بين الغذاء وبعض الحالات الصحية مثل السمنة المفرطة وسوء التغذية، ونصحتا بممارسة التمارين الرياضية كسبيل للحصول على صحة جيدة. وكانتا تصوران "المرأة العصرية" بحسبانها "امرأة بيت / أُسرَوِيّة domestic" وعلمية "scientific" في ذات الوقت. وقدمتا في كتابهما الكثير من المعلومات العلمية عن الفيتامينات والمعادن وعن دورهما في الصحة. وجلبتا لذلك الغرض العديد من الجداول عن القيم الغذائية لكثير من أنواع الأغذية (بالجرام والنسب المئوية). وفي هذا افتراض بأن (كل) القارئات على علم وقدرة بتفسير المعلومات المقدمة بالكلمات والأعداد. وخصصتا فصلا كاملاً للأطعمة الموجودة بالسودان، مثل الحبوب والبقوليات والأرز، والخضروات والألبان ومنتجاتها. ومعظم ما ذكرتاه هي من الأطعمة التي توجد في كل مكان بالعالم تقريبا (generic). وغابت عن هذا الكتاب نباتات شائعة الاستخدام في السودان مثل الملوخية والبامية. وربما كانت المؤلفتان قد اعتمدتا في هذا الجزء على كتب طهي مصرية، كانت قد اعتمدت بدورها على كتب بريطانية أو أمريكية.
واحتوى الكتاب على العديد من الوصفات الغذائية، التي لا يمكن وصف بعضها بأنها "سودانية خالصة"، فهي في الأصل وصفات تركية أو مصرية أو البانية أو غير ذلك. وخلا الكتاب من أي وصفات تستخدم الذرة (sorghum) وهو عماد طعام غالب السودانيين (على الأقل في بدايات القرن العشرين). وخصصت المؤلفتان فصلا كاملاً (مخصص للمسلمين بالطبع) عن التغذية في شهر رمضان، وعما يُنْصَح بتناوله في الإفطار وقبل النوم من أطعمة تعيد للجسم حيويته وإماهته / ترطيبه، مثل سلطة الروب مع العجور/ الخيار، وشوربة الطماطم.
6/ يفترض هذا الكتاب أن من سيقرأنه هن نساء مسلمات ومتعلمات وذكيات ومتزوجات (أو على وشك أن يتزوجن)، ومسؤولات عن أسرة أو أسر، ولهن بيوت حديثة تتوفر فيها مختلف أنواع الأطعمة. ومثل هذا الكتاب مرغوب عند أفراد الطبقات الوسطى المتطلعة، التي تتمتع بأسلوب حياة يجمع بين العمل والترفيه، وبين الراحة والجدارة بالاحترام (respectability) مع أناقة متبسطة زاهدة (austere elegance). وقد يتساءل البعض عن أعداد النساء السودانيات القارئات لهذا الكتاب اللواتي يملكن من الموارد ما يمكنهن من بلوغ معاييره (العالية نسبياً. المترجم). فكم منهن يملكن أفران الغاز أو الكهرباء التي وردت في إحدى رسومات غلاف الكتاب، أو المُجمِّد freezer لصنع الآيس كريم، المذكور في فصل الأطعمة المجمدة. وكم من طالبات "الاقتصاد المنزلي" يعشن في حياة مثل تلك التي يصفها ذلك الكتاب؟ لا ريب أن الأجوبة عن مثل تلك الأسئلة تتطلب المزيد من البحث والتقصي، وإجراء الكثير من الاستطلاعات والمقابلات الشخصية، ودراسة الإعلانات في الصحف والمجلات عن المواد الاستهلاكية لتقييم أسعارها ومدى توفرها، وبحث تغيرات أنماط استهلاك الغذاء. كل هذا مع ملاحظة أن هذا الكتاب كان قد صدر في عام 1973م، أي عند بدايات هجرة السودانيين للعمل في دول النفط الغنية مثل ليبيا والخليج العربي.
7/ خلصت الكاتبة أن كتاب " دليل الطهي الحديث " يبعث برسائل مختلطة عن النساء، وعن أجسادهن وعن أنواع سلوكهن. فهو مثلاً ينصح النساء بالرياضة، ويصور في أحد رسوماته بالكتاب (ص 38) المرأة السودانية وكأنها "دمية باربي Barbie doll"، مفرطة النحافة، وذات قدمين طويلين، وصدر مدبب بارز. هل كان هذا المُؤَلَّف كتاباً نِسوِيّاً (feminist) أم هو ضد النسوية؟ وهل يعمل على تمكين الشابات وتعزيز احترامهن لذواتهن بمعاملتهن كمهنيات محليات في المستقبل؟ أم أنه يعمل على إعاقة طموحات النساء، ويعزز من استمرار اعتمادهن اقتصادياً على الرجال عن طريق شغلهن بصنع الكيك في البيت؟
*********** ************* *************
إحالات مرجعية
1/ يمكن الاطلاع على مقالين يتناولان الطبقة الوسطى بالسودان في هذا الرابطين: https://shorturl.at/sCIW0 و https://shorturl.at/DHNP9
2/ اُنْظُرْ على سبيل المثال Anny Gaul. Gastronomica. 19, 2, 2019. 87 – 95
3/ استشهدت الكاتبة هنا بمقال سابق له تجد ترجمة له في هذا الرابط: https://shorturl.at/qzHL2
4/ لآيات مبارك النور مقال في صحيفة "المجهر السياسي" عن "بيت الخياطة" تجده في هذا الرابط https://shorturl.at/IMU57

alibadreldin@hotmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الاقتصاد المنزلی القرن العشرین ش غ ل الإبرة هذا الکتاب الکاتبة أن الکثیر من فی هذا

إقرأ أيضاً:

رؤية النخب السودانية حول الحراك الثوري والتحولات السياسية

يتسم التحليل التاريخي لمسارات الثورة السودانية بجدلية معقدة بين النخب السودانية حول طبيعة الحراك الثوري وما حققه من تغييرات. منصور خالد، في كتابه "حوار مع الصفوة", يعد من أبرز من شخصوا طبيعة الصراع الذي شق طريقه عبر تاريخ السودان الحديث، خاصة في أعقاب ثورة أكتوبر 1964. يرى خالد أن هناك صراعاً دائماً بين القوى الثورية ذات الفكر الأيديولوجي، التي تحمل رؤية حداثية تسعى لتجاوز الأنماط التقليدية، وبين القوى التقليدية المتماسكة بالقيم القديمة، التي تعتمد على قواعدها الاجتماعية في الأرياف وتتشبث بهياكلها المحافظة.
هذا الصراع بين قوى التغيير الحداثي وقوى المحافظة الاجتماعية يتجسد في طبيعة العلاقة مع التحولات الديمقراطية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت دائماً محل تنازع. القوى الثورية، التي تستمد شرعيتها من مشاريعها الفكرية المتأثرة بالإيديولوجيات العالمية مثل الاشتراكية والقومية العربية أو الإسلام السياسي لاحقاً، تجد نفسها في مواجهة القوى التقليدية التي ترتكز على إرث عميق من السلطة الاجتماعية، مستندة إلى الهياكل القبلية والطائفية التي طالما سادت في السودان.
القوى التقليدية لم تكن مجرد بقايا من الماضي، بل استطاعت تطوير نفسها لتتماشى مع متغيرات الحداثة، حيث أدركت أهمية الحفاظ على السلطة من خلال التكيف مع أدوات الدولة الحديثة مثل الأحزاب السياسية والديمقراطية الشكلية. محمد أبو القاسم حاج حمد، في كتاباته الفكرية، أكد أن القوى التقليدية في السودان طورت خطاباً مرناً يخدم مصالحها، مما مكنها من امتصاص ضربات القوى الثورية دون أن تفقد هيمنتها الكاملة على المشهد.
ثورة أكتوبر 1964 وانتفاضة أبريل 1985 تجسدان هذا التوتر الحاد بين المشروع الثوري والرؤية التقليدية. ثورة أكتوبر جاءت كنتيجة لتحالف بين القوى الثورية في المدن، خاصة النقابات والطلاب، وبين القوى التقليدية التي استغلت الحراك الشعبي لإعادة إنتاج النظام السياسي وفقاً لرؤيتها. القوى التقليدية لم تتوانَ عن تقديم وعود بالإصلاح، لكنها عملياً عملت على استعادة السيطرة من خلال أطرها السياسية والاجتماعية التقليدية.
فشل القوى الثورية: خطاب خشبي وإقصاء الشارع الثوري
إحدى الإشكاليات الكبرى التي عانت منها القوى الثورية في السودان كانت جمود خطابها الفكري واللغة الخشبية التي سيطرت على طرحها السياسي. بالرغم من الطموح الكبير الذي حملته هذه القوى لإحداث تغيير جذري، إلا أن خطابها غالباً ما كان أسيرًا للتصورات الأيديولوجية الجامدة التي تسعى إلى فرض رؤية الجماعة الفكرية بدلاً من استلهام روح الشارع الثوري.
هذا الخطاب الخشبي، الذي يتسم بالإصرار على عمل الفكر الجماعي الخاص بالنخبة الثورية، أدى إلى عزل القوى الثورية عن الجماهير. في وقت كانت فيه الجماهير تبحث عن خطاب يعبر عن تطلعاتها اليومية واحتياجاتها المباشرة، ظل الخطاب الثوري محصورًا في نقاشات أيديولوجية مجردة لا تجد طريقها إلى الترجمة العملية.
عبد الله علي إبراهيم تناول هذا التناقض، مشيراً إلى أن الثورة ليست مجرد مشروع فكري للنخبة، بل يجب أن تكون فعلًا شعبيًا شاملاً يعبر عن طموحات الجماهير، وليس فقط عن الأطر النظرية للنخبة الثورية. إصرار القوى الثورية على فرض رؤيتها الفكرية الخاصة أدى إلى تجاهل المطالب الحقيقية للشارع، ما أضعف قدرتها على بناء قاعدة جماهيرية واسعة ومستدامة.
إضافة إلى ذلك، فإن هذا الإصرار على الطرح الأيديولوجي أدى إلى أزمة ثقة بين القوى الثورية والجماهير، حيث أصبحت الحركة الثورية في كثير من الأحيان تعبر عن مصالح النخبة فقط، بعيدًا عن واقع الشعب. هذا الخلل في التواصل والتفاعل مع الشارع الثوري مكن القوى التقليدية من استغلال الثغرات لصالحها، حيث استطاعت تقديم نفسها كبديل عملي وأكثر ارتباطًا بواقع الناس.
الانعكاسات المستقبلية
اليوم، تواجه القوى الثورية تحديًا حقيقيًا يتمثل في إعادة صياغة خطابها ليكون أكثر تماسكًا مع تطلعات الشارع السوداني. يجب أن يتجاوز الخطاب الأيديولوجي الجامد ليصبح خطابًا شموليًا يعبر عن حاجات الشعب، ويطرح مشاريع نهضوية ملموسة تسهم في تحسين حياة الناس على الأرض.
النجاح في تحقيق هذا التحول يعتمد على قدرة القوى الثورية على التخلص من لغة الخطاب الخشبي، والانتقال إلى خطاب يجمع بين الفكر والعمل، ويعيد ربط الحراك الثوري بجذوره الشعبية. السودان، بتعقيداته الاجتماعية والسياسية، يحتاج إلى قوى ثورية تمتلك رؤية تستند إلى الشارع الثوري، وتتجاوز الانقسامات الفكرية نحو مشروع وطني جامع وشامل.

zuhair.osman@aol.com  

مقالات مشابهة

  • أستاذ اقتصاد: الدولة المصرية لديها رؤية واضحة لتعزيز وزيادة صادراتها
  • “الخدمات المالية العربية” ومصرف المتوسط يتعاونان لتقديم حلول البطاقات المتطورة في ليبيا
  • رؤية النخب السودانية حول الحراك الثوري والتحولات السياسية
  • قراءة في كتاب: “ممّا على طُرَر المخطوطات”
  • حمدان بن محمد يعتمد تشكيل مجلس إدارة “القيادات العربية الشابة”
  • كوشنر يكشف رؤية ترامب: 10 دول ستنضم إلى “اتفاقيات أبراهام” بعد السعودية
  • استعراض كتاب “المبشرون الأميركيون وفشل تحويل الشرق الأوسط إلى المسيحية”
  • صمود غزة يفتك بـ “اقتصاد الكيان الصهيوني”
  • كتاب “تشريح إعلامي”.. آراء عن صناعة المحتوى وإستراتيجيات وتحديات الإعلام
  • “شلقم” يحذر الدول العربية من “سقوط مأساوي”