الفكر السوداني في جهود حيدر ابراهيم علي وعقلانية ماكس فيبر
تاريخ النشر: 15th, February 2024 GMT
طاهر عمر
ماكس فيبر في فكرة زوال سحر العالم يوضح بأن الدين و الفكر الديني التقليدي لم يعد قادر على لعب دور بنيوي على صعد الإجتماع و الإقتصاد و السياسة و هنا تأتي أهمية العقلانية في فكر ماكس فيبر لكل من يريد مقاربة ساحة الفكر السودانية و قد رأينا تواطؤهم مع فكر وحل الخطاب الديني و يمكننا أن نرصد تواطؤ النخب السودانية مع الخطاب الديني في مساومة الشفيع خضر بين يسار سوداني رث و يمين سوداني غارق في وحل الفكر الديني.
و كذلك محاولة الحاج وراق في طرحه في ندوة في مركز الدراسات السودانية و بصوت متهدج أقرب للبكاء يوصي بمهادنة الطائفية و مهادنة النسخة المتخشبة من الشيوعية السودانية و يمكنك أيها القارئ أن تضيف مؤالفة الدكتور النور حمد بين العلمانية و الدين في لقاء نيروبي و كذلك يمكنك أن تمر أيها القارئ على تواطؤ حيدر ابراهيم علي مع الخطاب الديني و هو يقدم للاهوت التحرير و فيه يؤكد على أن الدين يمكن أن يلعب دور في المجتمع و السياسة و الاقتصاد و هذا معاكس لما بثه ماكس فيبر في فكرة زوال سحر العالم بأن الدين لم يعد قادر على لعب دور بنيوي في السياسة و الإجتماع و الإقتصاد.
من الملاحظات المهمة في تخبّط حيدر ابراهيم علي أنه يتحدث عن لاهوت التحرير و فيه يؤكد على دور للدين في المجتمع و الاقتصاد و السياسة وفقا لتجربة امريكا اللاتنية و في نفس الوقت ينتقد الجمهوريين السودانيين و فكر الأستاذ محمود محمد طه و إصرارهم على دور الدين في الإجتماع و الإقتصاد و السياسة و هنا يظهر حيدر و هو يكيل بمكيالين و هذا هو عيب النخب السودانية في المماحكات.
و هنا أردت أن أوضح فقط رفض حيدر ابراهيم علي لفكر الجمهوريين و قبوله للاهوت التحرير و فيه يؤكد حيدر تواطؤه مع الخطاب الديني و يؤكد بأن للدين دور في الإجتماع و الإقتصاد و السياسة و هذا ما يضحك ماكس فيبر الذي يؤكد على زوال سحر العالم و إنفكاك العالم من أسر الدين و بالتالي نتسأل كيف يستطيع حيدر الحديث عن العقلانية و هو يتحدث عن وثوقيات و حتميات الماركسية التي إنتقدها ماكس فيبر و في نفس الوقت يتحدث عن العقلانية التي ترفض الوضعية أي ماركسية ماركس و أفكار دوركهايم و ترفض أفكار أوجست كونت و كذلك ترفض أفكار سان سايمون؟
و فوق هذا كله ترفض العقلانية أن يكون للدين دور بنيوي في السياسة و الإجتماع و الإقتصاد في الوقت نفسه يقدمه حيدر في لاهوت التحرير أي للدين دور في الإجتماع و السياسة و الإقتصاد. الشئ المضحك أن حيدر ابراهيم علي لم ينتبه لحديث ماكس فيبر و هو عندما تحدث أي ماكس فيبر عن العقلانية ربطها بالرأسمالية مباشرة و ربط صفة العقلانية بالرأسمالية و وضّح أن الرأسمالية نتاج الفكر البروتستانتي و بالخصوص فكر كالفن و معروف أن فكر كالفن قدم فضيلة العمل على الطقوس الدينية و أن الإزدهار المادي الدنيوي هو الأساس و بالتالي قد فارق الإيمان التقليدي لذلك كان ماكس فيبر يقول أن عقلانية الرأسمالية الدليل عليها أنها لم تظهر في المجتمعات التقليدية مثل مجتمعنا السوداني كمجتمع تقليدي للغاية.
و من هنا نسأل حيدر ابراهيم علي و هو يتحدث عن العقلانية هل يقصد الحديث عن الفكر الليبرالي و الديمقراطية الليبرالية أم ما زال متمسك بأدوات الماركسية التقليدية و في نفس الوقت يتجراء و يتحدث عن العقلانية و ينسى أنها صفة ملازمة للرأسمالية؟ ماكس فيبر عندما تحدث عن العقلانية يقول أنه إستنبطها من حقول أدبيات النظريات الإقتصادية و تاريخ الفكر الإقتصادي و هنا وجب الحديث عن دور ماكس فيبر و أفكار ماكس فيبر و هو ينتقد ماركسية ماركس و خطاء ماركس القاتل في إعتقاده أن البنى التحتية هي موتور قاطرة التاريخ في صور المناشط الإقتصادية و في حقيقة الأمر أن البنى الفوقية هي العمود الفقري لحركة المجتمع و إنفتاح مسيرة الإنسانية على اللا نهاية و هي تعتمد على عقلانية الفرد و أخلاقيته و هي تزدهر على إيقاع مجد العقلانية و إبداع العقل البشري كما تحدث عنه ادم اسمث.
و بالطبع يلزمنا توضيح تأثير ديفيد هيوم على ادم اسمث و عمانويل كانط و دوره في فصل الميتا عن الفيزيقيا و بالتالي يسهل فصل الدين عن الدولة عندما يصبح الدين عند كانط شأن فردي و ليس كما يتوهم حيدر ابراهيم علي في لاهوت التحرير أن للدين دور في الإجتماع و الإقتصاد و السياسة. و بالمناسبة عمانويل كانط في تأثره بديفد هيوم و ادم إسمث نجح فيما فشل فيه ماركس في مقاربته لنظرية القيمة لديفيد هيوم و أقصد أن كانط عبر مقاربة الفلسفة المثالية الألمانية بالتجريبية الإنجليزية نجح في أن يفلت بأن تصل به الى غايتها و منتهاها كما فعلت بهيغل و ماركس. و هذا الذي لم ينتبه له حيدر ابراهيم و هو ممسك بأدوات الماركسية التقليدية حيث لم يفلت ماركس من ايمانه بالمطلق و هو يسير نحو نهاية متوهمة للتاريخ.
لذلك يمكننا القول أن ماكس فيبر رفض مثالية افلاطون و مثالية المسيحية و مثالية الفلسفة المثالية الالمانية و مثالية الهيغلية و الماركسية التي يتوسل بها حيدر ابراهيم علي في مقارباته و نحن نسأله أي حيدر كيف بعد تمسكه بأدوات الماركسية التقليدية يستطيع الحديث عن العقلانية؟ و كيف يقدم حيدر لاهوت التحرير في وقت رفض فيه ماكس فيبر في عقلانيته مثالية المسيحية؟ هنا يبدو أن حيدر ابراهيم علي يجيد عمل الحواة و يبدو في تقديمه للاهوت التحرير حاوي ماهر لا يفوقه في هذا المجال إلا حسن حنفي في تواطؤ مع خطاب الإسلام السياسي.
ما أريد قوله أننا نحتاج لخطاب نزعة إنسانية تمجد العقلانية و إبداع العقل البشري و تقف من الخطاب الديني موقف واضح بعيدا عن ترقيع النخب السودانية و تلفيقكم و توفيكم الكاذب بخطاب يشبه فكر حيدر ابراهيم علي في لاهوت التحرير و حديثه عن أن الدين يمكنه أن يلعب دور اقتصادي و إجتماعي و سياسي و هنا يظهر حيدر ابراهيم علي كمجاور و مساكن بل مصادق لخطاب الإسلام السياسي و غير قادر على تجاوزه بشكل واضح كما فعل إدورد سعيد في كتابه الأخير الأنسنة و النقد الديمقراطي بعد أن تحرر من أفكار ميشيل فوكو و دوره في بث أفكار ما بعد الحداثة التي جعلت من ميشيل فوكو يظن أن الخمينية ثورة و بعدها ندم ميشيل فوكو على فعلته بل قال بأن خطاءه يجعله أن لا يحسب نفسه كمفكر إستراتيجي فمتى يفيق حيدر من لاهوت التحرير و يلحق بإدورد سعيد بعد أن تخلص من أفكار فلاسفة ما بعد الحداثة؟
و بعدها تحدث إدورد سعيد عن نزعة إنسانية لا يمكن أن تكشف عن وجهها إلا بعد تحقيق القطيعة مع التراث الديني أي حيث لا ينفع لاهوت التحرير الذي يتحدث عنه حيدر ابراهيم علي. على أي حال يمثل حال النخب السودانية و حيدر ابراهيم علي من بينهم حال فلاسفة أوروبا بين الحربين العالمتين و كانت في حالة إضطراب ناتج عن نهاية فلسفة التاريخ التقليدية و بداية فلسفة التاريخ الحديثة و في ظل الفوضى و الخراب إنتبه كثير من الفلاسفة و علماء الإجتماع و الإقتصاديين و الشعراء بأن هناك تحول هائل في المفاهيم سيعم كل أرجاء أوروبا و من بينهم يمكننا أن نذكر ماكس فيبر و عقلانيته التي إنتصرت للفكر الرأسمالي و الديمقراطية الليبرالية.
و هي ليست كنظم حكم فحسب بل فلسفة لترسيخ فكرة العيش المشترك و بشرط إنساني أي السياسة التي بموجبها قد أصبحت الديمقراطية الليبرالية بديلا للفكر الديني و بالتالي يصبح الدين كشأن فردي و يمثل أفق الرجاء بالنسبة للفرد في مواجهة مصيره بعيدا عن وساطة رجال الدين و لا يتم الوصول لهذا الهدف إلا عندما يجرّد الدين من أي قوة سياسية و أي قوة إقتصادية و هنا تظهر خطورة لاهوت التحرير عندما يقحم الدين في السياسة و يجعل للكنيسة قوة اقتصادية و قوة سياسية و هذا نتاج إلتباس في مفهومي ممارسة السلطة في مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية و إلتباس في مفهوم الدولة الحديثة نجده عند أتباع أفكار فلاسفة ما بعد الحداثة كما رأيناه في إعتقاد ميشيل فوكو أن الخمينية ثورة و أنظر اليوم ماذا فعلت الخمينية بالإيرانيين.
تمسك حيدر ابراهيم علي بأدوات الماركسية التقليدية و عنده ما زال ماركس طليق بعكس ماركس الذي يرزح في الأغلال في نظر أتباع الشيوعية في المجتمعات الغربية المتقدمة التي لم يصل شيوعيي العالم الثالث لمستواهم من حيث الوعي جعلت من حيدر محبوس في حيز معالجة مشاكل ما بعد الكلونيالية و قد حرم نفسه من أن يرى المشهد الكلي أي دولة ما بعد الثورة الصناعية كدولة حديثة و كيفية ممارسة السلطة.
و نختم المقال أن أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية فارقت أدب الليبرالية التقليدية التي أضنت ماركس و ماركسيته التي لا تجذب غير المثقف المنخدع كما يقول ريموند أرون و نشرت أفكار الليبرالية الحديثة التي لم يستطع المثقف التقليدي في السودان من إلتقاط موجاتها و لهذا ما زال المثقف التقليدي السوداني يتهيب الحديث عن الديمقراطية الليبرالية و في نفس الوقت بلا خجل يتحدث عن العقلانية و لا يدري بأنها صفة ملازمة للرأسمالية كما وصفها ماكس فيبر بعقلانية الرأسمالية.
و شتان ما بين عقلانية ماكس فيبر و عقلانية من يمتلك أدوات الماركسية التقليدية التي لا تؤمن بفكرة الدولة من الأساس بل ترى أن الدولة أداة في يد الطبقة الحاكمة و عندما إنتصرت الشيوعية في الإتحاد السوفيتي و لأنها لا تؤمن بفكرة الدولة من الأساس نجدها إستخدمت قوة الدولة و حطّمت بها المجتمع الى لحظة تنامي الوعي بخطر الشيوعية و وضوح الرؤية و نضوج الهدف للإنفلات و الإنعتاق من الشيوعية كأبغض نظام شمولي و بعدها إنهارت المنظمومة الإشتراكية في أوروبا الشرقية كأن شئ لم يكن.
taheromer86@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الدیمقراطیة اللیبرالیة النخب السودانیة فی نفس الوقت الخطاب الدینی فی الإجتماع فی المجتمع الحدیث عن أن الدین ما بعد دور فی
إقرأ أيضاً:
ما الواجب المباشر تجاه الفكر الحر في ظل استمرار السردية التكفيرية؟
قراءة في كتاب (عبد الله الفكي البشير، محمود محمد طه: من أجل فهم جديد للإسلام)، دار محمد علي للنشر، صفاقس، تونس/ ومؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، 2024 (9-13)
بقلم: سمية أمين صديق
إهداء المؤلف لكتابه:إلى شعوب السودان والإسلام والإنسانية جمعاء، وهي تتوق إلى التحرير والتغيير، فإني أهديكم هذا الكتاب، مستدعياً مقولة المفكر التونسي الدكتور يوسف الصديق: (محمود محمد طه هو المنقذ)”. المؤلف
ما بعد النقد الشكلي للإخوان المسلمين وجماعات الهوس الدينيالجمهوريون دعاة التغيير الجذري
نلتقي اليوم مع الحلقة التاسعة من كتاب الدكتور عبدالله الفكي البشير، محمود محمد طه: من أجل فهم جديد للإسلام. ونستكمل من خلال هذه الحلقة الحديث عن الفصل الموسوم بــ: “إنطلاقاً من دعوة محمود محمد طه للتغيير ووفقاً لرؤيته كيف ومتى ستهب رياح التغيير؟”. كنت في الحلقة السابقة قد تناولت بعض محاور الفصل، وهي: متى وكيف تهب رياح التغيير؟ الوصية المشرفة: كثفوا العمل.. يا عمر [القراي] لا تتوقف عن العمل- تكثيف العمل هو السبيل لمقاومة سردية رجال الدين: سردية كسل العقول وتناسل الجهل- هل يعقل أن ينام الجمهوري والجمهورية ملء جفونه/ جفونها، والناس من حوله/ حولها تردد في سردية رجال الدين القائلة: إن محمود محمد طه كافر ومرتد عن الإسلام؟ القيام بالواجب المباشر خروج عن مأزق الموقف السلبي- ما الذي يحتاجه الواجب المباشر- العبادة في الخلوة مدرسة الإعداد النظري، فما هو ميدان التطبيق العملي؟
وتتمحور حلقة اليوم حول المحاور الآتية: عن مفهوم رفع واقع الناس للفكرة وإنزال الفكرة لواقع الناس- الجمهوريون دعاة التغيير الجذري- مفهوم التغيير الجذري عند محمود محمد طه- ما بعد النقد الشكلي للإخوان المسلمين وجماعات الهوس الديني.
يقول المؤلف:( عنى محمود محمد طه، برفع واقع الناس للفكرة،أن يُبين الجمهوريون للناس واقعهم..) وعن ذلك الواقع يقول، و قد أصبح واقع اليوم واقعاً معقداً في ظل معطيات البيئة الإنسانية الجديدة، حيث الثورة التكنولوجية و المعلوماتية، والحياة الرقمية. ويرى أنه لابد من التشخيص لهذا الواقع، و النزول للميدان لمعاينة الوقائع، وفقاً للأسس العلمية، و بإدخال الفكر في العمل، كما وصف حال الناس بالغفلة عن المشاكل الكثيرة التي يعيشونها، و التي من حولهم. ” وتعود الغفلة و عدم الشعور بالواقع و مشاكله إلى الجهل وعدم الوعي.” ويوضح عبد الله ؛ ما قُصد بإنزال الفكرة لواقع الناس، فالمقصود به “جعل الفكرة واضحة وجلية للناس” و بإنزالها لواقع الناس تنطلق الثورة الفكرية. ويلفت عبد الله الإنتباه إلي حضور الإجابة على السؤال المهم الذي ورد آنفاً: متى تهب رياح التغيير ؟ “والذي يمكن التعبير عنه بالآتي:متى تنطلق الثورة الفكرية؟ ” والإجابة في الحالتين هي ، كما قال محمود محمد طه، عندما تكون الفكرة الجمهورية واضحة و جلية للناس، فقط و اضحة وجلية، و ليس شرطاً اعتناقها، و ليس شرطاً الإيمان بها أو تطبيقها. وقد حدد الأستاذ محمود محمد طه الأمور التي يجب توضيحها للناس، وقد بُينت في هذا الفصل. ويواصل المؤلف قائلاً:( و لَّما كانت الثورة الثقافية هي نتيجة الثورة الفكرية، و تستهدف، كما يرى محمود محمد طه، إحداث التغيير الجذري. و لما كان الجمهوريون من دعاة التغيير الجذري، فما هو مفهوم التغير الجذري عند محمود محمد طه؟) .
الجمهوريون دعاة التغيير الجذريمفهوم التغير الجذري عند محمود محمد طه
يقول عبد الله: عقب إندلاع ثورة ديسمبر المجيدة في 19 ديسمبر 2018، و بعد الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021 على حكومة الثورة الانتقالية،شاع مصطلح التغيير الجذري في الفضاء السياسي السوداني. ظهر المصطلح مع الإعلان عن “تحالف قوى التغيير الجذري: نحو تغيير وطني جذري بقيادة الجماهير” في 25 يوليو 2022. ضم التحالف الحزب الشيوعي السوداني، وتجمع المهنيين السودانيين، و تحالف مزارعي الجزيرة و المناقل، و الإتحاد النسائي، و هيئة محامي دارفور، و ميثاق الشهداء. و قال السكرتير السياسي للحزب الشيوعي السوداني محمد مختار الخطيب، في مؤتمر صحافي بالخرطوم، إن التحالف سيضم كل القوى السياسية و النقابيّة و لجان المقاومة و التنظيمات المدنية التي حملت السلاح دفاعاً عن قضايا مناطقها، وكلّ القوي السياسية و النقابيّة و لجان المقاومة و التنظيمات المدنية التي حملت السلاح دفاعاً عن قضايا مناطقها، و كل القوى المؤمنة بالتغيير الجذري، و رافضة لأفكار التسوية مع الانقلاب. كما تم التأكيد على أن قوى الحرية والتغيير لن تكون جزءاً من التحالف. ونشر التحالف بيانه التأسيسي، فعرف نفسه، قائلاً: إن التحالف هو إجتماع لأبناء و بنات و تنظيمات الشعب تتعهد فيه و تلتزم بمواصلة النضال المشترك لتحقيق أهداف التغيير الثوري الجذري، الذي لا يساوم في التصدي لقضايا البناء والاستقلال الوطني و السياسي و الاقتصادي”.
يوضح عبد الله بقوله أنه: لم تكن هذه هي المرة الأولى التي شهد فيها الفضاء السياسي السوداني حضور مصطلح التغيير الجذري، فالمصطلح كان حاضراً منذ أكثر من نصف قرن في الفضاء السوداني. إختار المؤلف التركيز على “حضور المصطلح في كتابات محمود محمد طه و أحاديثه، مع تناول موجز لتاريخ المصطلح و مفهومه عنده، إلى جانب سبل وآليات تحقيقه” يقول عبد الله:( لقد أوضح محمود محمد طه في 21 سبتمبر 1968 بأن أقرب الطرق لتحقيق التغيير الجذري هو طريق الفكرة الجمهورية/ الفهم الجديد للإسلام، و تحدث قائلاً:” طريق الفكرة هو أقرب لتحقيق التغيير الجذري و إحداث الهزة الاجتماعية العظيمة”. و في ديسمبر 1968 تطرق بالحديث إلى التغيير الجذري ضمن محاضرة عامة كانت بعنوان :” الاستقلال و قضايا الشعب” حيث تحدث، قائلاً : “نحن نحب في هذه الليلة أن يكون كلامنا عن الاحتفال بعيد الاستقلال و قضايا الشعب، مرفوع لقمة القضية الأساسية التي هي، أنه لابد أن يكون في تغيير أساسي. ما أفتكر أنه يمكن نحن أن نغير تغيرات جزئية، زي ما قال الشاعر: (لا يستقيم الظل و العود أعوج). إذا كنت تريد تغيير لمصلحة الشعب، لابد من أن تغير الأساس تغيير جذري.
ويواصل عبد الله :( واتبع محمود محمد طه حديثه، وهو يقف عند التغيير الجذري قضايا الحكم و الإصلاح.فتناول خطاب السيد إسماعيل الأزهري، رئيس مجلس السيادة، الذي ألقاه عقب صلاة عيد الفطر في 21 ديسمبر 1968، باعتباره نموذجاً للقمة الجاهلة التي توجه مصير البلد، فقال :
” أنا أفتكر خطاب السيد إسماعيل الأزهري، هو نقطة الجدل و النقاش و الأزمة، في التعليقات المختلفة في الصحف، في المنابر المختلفة، منذ عيد رمضان، تصلح لتمثل القمة الجاهلة التي توجه مصير بلدنا، و لا يمكنك أنت أن تنتظر من الجهل أن يصلح. الإصلاح موش مجرد حسن نية، مع أنه حسن النية أصبحنا لا نراه. لكن حتي الحاكم الجاهل الحسن النية لا يمكن أن يصلح. الحاكم الذي يصلح هو الحاكم الحسن النية العارف، لأن الإصلاح يقتضي عمل إيجابي في الفهم”. يقول المؤلف: كان الأزهري قد أعلن في خطابه المذكور آنفاً، و الذي جاء بعد شهر من صدور حكم المحكمة الشرعية على محمود محمد طه بالردة عن الإسلام في 18 نوفمبر 1967”ستكون الكلمة العليا للقضاة الشرعيين في هذا البلد”فأصدر محمود محمد طه أوانئذ بياناً قال فيه “إن هذا الخطاب تحتوشه الأخطاء من جميع أقطاره. و تجري في جميع عباراته و هو خير دليل على مبلغ الجهل الذي يتمتع به من يجهلون مصير هذا البلد المنكوب” ثم تحدث عن روح ثورة أكتوبر على الصعيد الفكري، و ضرورة أن توجه بالفكر الحر و الإدراك الدقيق “إرادة التغيير ليتخلص الشعب السوداني من هذا الجهل الذي ظل يوجّه مصيره منذ فجر الحكم الوطني”. و أوضح بأن خطاب أزهري سيكون خير عون للمثقفين الذين سيتولون ضرب ناقوس الخطر لتنبيه الشعب السوداني ليجمع صفوفه ليعمل لاستنقاذ مستقبله” و أضاف قائلاً:” إن الجهل الذي يعلنه خطاب الرئيس الأزهري ليس جديداً و إنما الجديد أن هذا الجهل يسرع الخطى اليوم ليدخل حظيرة الدين ليحمي نفسه بقداسة كاذبة يضلل بها الناس عن حقيقة أمره”. و قضايا الحكم و إصلاح المجتمعات و الأفراد تحتاج لتغيير جذري.
وأضاف المؤلف في رصده لمصطلح التغيير الجذري، قائلاً: ( أيضاً تحدث محمود محمد طه في العام 1972، عن التغيير الجذري ضمن كتابه : الثورة الثقافية. و أوضح بأن إحداث التغيير الجذري هو هدف الثورة الثقافية، التي هي نتيجة للثورة الفكرية، كما وردت الإشارة آنفاً. ويقول عبدالله يرى الأستاذ محمود بأن إحداث التغيير الجذري، في حياة الأفراد والجماعات، يكون عن طريق إعادة التعليم، إعادة تعليم المتعلمين، و غير المتعلمين. و أضاف قائلاً: و التغيير الذي نعنيه هو تغيير لم يسبق له مثيل منذ بدء النشأة البشرية .. هو تغيير تدخل به البشرية المعاصرة مرتبة الإنسانية.. و تلك مرتبة يتطلب دخولها قفزة أكبر من تلك التي حدثت لدى دخول الحيوان مرتبة البشرية.. هو تغيير تدخل فيه البشرية المعاصرة مرتبة الإنسانية.. و تلك مرتبة يتطلب دخولها قفزة أكبر من تلك التي حدثت لدى دخول الحيوان مرتبة البشرية. ويضيف المؤلف: ( والتغيير الجذري عند محمود محمد طه، و الإخوان الجمهوريين يحدث عبر الثورة الثقافية التي هي أساس ترفيع قواعد الأخلاق، وهم دعاتها. وقد وصف الإخوان الجمهوريون، أنفسهم بأنهم: “دعاة تغيير جذري و أساسي للأفراد و المجتمعات.) و أورد عبد الله ما كتبوه في أغسطس 1977 في بيان لهم قائلين:”إن أزمتنا الحقيقية إنما هي أزمة أخلاق و لا يؤمن أخلاق هذا الشعب إلا الثورة الفكرية التي تعيد البناء الداخلي و تحدث التغيير الجذري..هذا التغيير ستكون خلاصته الإنسان السوداني ” المُنمى” و هذه هي التنمية الحقيقية، و ما التنمية الإقتصادية إلا وسيلة اليها”.
وعن الثورة الفكرية، يقول المؤلف :( و الثورة الفكرية عند محمود محمد طه تتحقق ببعث : “لا إله إلا الله” من جديد، دافئة، قوية، خلاقة، تغير العقول و القلوب. و الطريق إلى بعث ” لا إله إلا الله” من جديد، كما يرى، هو تجويد تقليد “قدوة التقليد”، النبي الكريم عليه أفضل الصلاة و أتم التسليم،” حتى يفضي بنا تجويد التقليد إلى الاستقلال عن التقليد-إلى الأصالة” و الثورة الفكرية، عند محمود محمد طه، هي قوة و استقامة، و مضاء، و سرعة انطلاق الفكر القوي.
“نحن لن نصدر الإسلام كعقيدة، و إنما نخرج من الإسلام القيمة الإنسانية المشتركة، و هي كرامة الإنسان من حيث هو إنسان، هذه هي القيمة الي سنصدرها:الحرية و الاشتراكية و المساواة الاجتماعية فدعوتنا إنسانية عالمية بهذا المعنى”. محمود محمد طه 1972
يقول عبد الله بعدم جدوى اتباع الطرق السابقة في نقد الإخوان المسلمين ، ذلك النقد الذي وصفه بالنقد الشكلي؛ فقد كتب عبدالله، قائلاً: ( لم يعد تدبيج المقالات في النقد الشكلي للإخوان المسلمين، و جماعات الهوس الديني، خاصة في السودان، بأنهم أسوأ الجماعات مع استدعاء الأدلة و البراهين على تأكيد سوئهم، عملاً كافياً، بل هو مضيعة للوقت. كون النقد الشكلي، و صف شكلي وتعاطي مع المظاهر، ليس فيه إعمال للفكر، و لا يخاطب جذور المشكل عندهم، و لا يعالج منابع خطرهم كما أنه من نوع الخدمات التنويرية التي تجاوزها وعي الشعب، فأصبحت خدمات منتهية الصلاحية. ويرى عبد الله أن تجربة حكم الأخوان المسلمين للسودان والتي دامت على مدي ثلاثين عاماً، كانت كافية لكشف مدى زيف شعاراتهم، و سوء أخلاقهم، و مفارقتهم للدين، و فساد فكرهم، فأصبح الشعب الذي أذاقوه الأمرين، أكثر قدرة على وصف سوئهم من أي كاتب أو كاتبة. كما أن من كان ميداناً للتجارب، لا يحتاج لوصف المجِرب و المجرَب. و لَّما كان النقد الشكلي للإخوان المسلمين، غير كافي،و ليس مطلوباً، فما هو المطلوب إذن؟ ويجيب بقوله: يمكن تلخيص المطلوب، و هو ما بعد النقد الشكلي للإخوان المسلمين و جماعات الهوس الديني، في الآتي:
أولاً: المطلوب إعمال الفكر من أجل الكشف عن خطرها في قدرتها على حرمان الشعوب المسلمة و الإنسانية جمعاء، من المبادرات الخلاقة و الإسهامات التجديدية في الفكر الإسلامي، بحجبها عنهم، و تآمرها في قتل أصحابها، و نسجها لسرديات تكفيرية، أرهبت المثقفين، و أخافت الشعوب، و سجنت الأفكار. و المطلوب العمل على تحرير الفضاء الإسلامي وتحرير العقول من هذا العمل الشنيع و التركة البشعة للإخوان المسلمين، و من السرديات الراكدة الباطلة التي نسجوها، فضلاً عن تحرير تلك الأفكار من سجنها. و لما كانت أكبر المبادرات الخلاقة في الفكر الإسلامي، التي شهدت تآمر الإخوان المسلمين المستمر في تقديري ، هي الفهم الجديد للإسلام و السيرة الفكرية لصاحبه و معتنقيه، فإن ميدان العمل، سواء عبر الكتابة أو الحديث، من أجل كشف خطر جماعة الإخوان المسلمين، يكون في الفهم الجديد للإسلام و السيرة الفكريّة لصاحبه، عبر التعريف و التوضيح للأمور التي حددها محمود محمد طه، كما ورد في فصول هذا الكتاب.
ثانياً : لما كان فكر الأخوان المسلمين و جماعات الهوس الديني، يسوق إلى العُنف و الهوس الديني، و قد مارسوا العنف بشتى أنواعه في مختلف الدول و المجتمعات. لقد مارسوه و هم خارج السلطة، و هم حكام، و من النماذج، على سبيل المثال، لا الحصر، أن الإخوان المسلمين عندما حكموا السودان(1986-2019)، اتخذوا من جنوب السودان ميداناً للجهاد الإسلامي، بسبب أن شعوب جنوب السودان لا تدين بالإسلام. ولهذا فإن المطلوب، في ظل هذه التركة و إرث العنف، هو إعمال الفكر لمعرفة مرد العُنف في فكر الإخوان المسلمين. و لَّما كان محمود محمد طه قد أخبرنا بأن مرد العنف ، سواء عند الأخوان المسلمين، أو لدى مختلف الجماعات التي تدعو للإسلام، بما في ذلك الحركات التي نشأت مؤخراً، مثل طالبان، و داعش، و بوكو حرام، و غيرها، يعود إلى أمرين ،الأول: هو ضعف التوحيد و عدم المعرفة به، و الأمر الثاني: هو الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية بكل صورها التي كانت في القرن السابع، كما ورد آنفاً، فإن العمل، سواء بالكتابة أو الحديث، في دراسة العُنف في فكر الإخوان المسلمين و جماعات الهوس الديني، هو عمل في الفهم الجديد للإسلام و السيرة الفكرية لصاحبه.
ثالثاً: العمل بإعمال الفكر على تحرير الإسلام من النكبة التي الحقها به الإخوان المسلمين و جماعات الهوس الديني. لقد قال عنهم محمود محمد طه: إن هذه الجماعات تمثل خطراً على البلاد، فإذا ما حكمت، و طبقت ما تؤمن به، فإنها ستكون نكبة على السودان، و على الإسلام.. لقد قدموا فهماً متخلفاً للإسلام، نسف هذا الفهم قيم التعايش، و هدد السلام العالمي، فشهد العالم تطبيقاً منفراً عن الإسلام، و مناقضاً للواقع، و مصادماً للفطرة الإنسانية. و لهذا فإن المطلوب هو العمل على مواجهة التحدي الذي خلفه فكر الإخوان المسلمين في العالم. إلى جانب تبشير الناس في الفضاء الإسلامي و في العالم، بفهم إنساني للإسلام يدعو إلى القيم الإنسانية المشتركة، و يقوم على الأصول الإنسانية، و الإحتفاء بالتعدد، و البناء للسلام على الأرض و فى النفوس. هنا يكون المطلوب، ليس النقد الشكلي للإخوان المسلمين، و إنما العمل على التوضيح و الشرح للفهم الجديد للإسلام، الذي طرحه محمود محمد طه. فهو حسب علمي وتقديري، أكبر طرح فكري قادر على مواجهة الإخوان المسلمين، و تصحيح صورة الإسلام في العالم، و لا يتضح هذا للناس، إلا بالعمل و العمل و العمل.
رابعاً : إن المطلوب المواجهة الفكرية للأخوان المسلمين و لجميع جماعات الهوس الديني مثل :طالبان وبوكو حرام، و غيرها، فهي السلاح الأمثل و الأنجع و الأضمن لموت فكرهم. و المواجهة لهم تكون كذلك بالقانون حينما يمارسون العنف. و المواجهة لهم ايضاً تكون بكشف تاريخهم و فضح ممارستهم اللا أخلاقية، كون الممارسة و السلوك تعبير عن الفكر. و أي مواجهة لهم تتبنى العنف أو تأخذ بمبدأ القوة العسكرية، مصيرها الفشل، بل ستمنحهم عمراً جديداً، حتى و لو تمت هزيمتهم هزيمة لحظية، فإنهم سيعودون في ثوب جديد، لماذا ؟ لأنهم على قناعة تامة بأن فكرهم ينطلق من الفهم الصحيح للإسلام، بينما هو الفهم المُتخلف و الخاطئ للإسلام. كما أنهم يعتمدون على نصوص قرآنية و أحاديث نبوية، تدعم طرحهم و رؤيتهم و تبرر ممارستهم للعنف، و تجعلهم مصبوبين في قوالب جامدة. لقد أخذ الإخوان المسلمون الإسلام عن جهل، فارتدوا بالناس إلى صور من التخلف البشع “الذي يحارب باسم الله كل مظهر من مظاهر التقدم و الفهم” كما ورد التفصيل، ولهذا فإن المواجهة الفكرية للإخوان المسلمين و لكل جماعات الهوس الديني، هو عمل في التعريف بفكر محمود محمد طه، و التوضيح لأساسيات دعوته، و لأمور حددها بنفسه، و متي ما وضحت تلك الأمور، تكون رياح التغيير قد هبت. و متي ما هبت رياح التغيير فإن فكر الإخوان المسلمين و جماعات الهوس الديني، سيتبخر ناحية السماء. ذلك لأن الناس سيكونون قد و ضحت لهم معالم الفهم الجديد للإسلام، و هو الفهم والفكر القادر على تعرية تلك الجماعات، و كشف خطرها، و مواجهتها فكرياً من داخل الإسلام، و كشف زيفها، و مفارقتها للدين.
ويختم عبد الله، قائلاً: و لما كان الفهم الجديد للإسلام قد أسقط العنف من معادلة التغيير، كما ورد التفصيل انفاً، فإن الحماسة لممارسة القوة العسكرية و العنف، بدلاً عن المواجهة الفكرية، ما هو إلا تعبير عن العجز الفكري، و إعلان بالتقصير عن القيام بالواجب المباشر الذي يتطلب العلمية، و هو، كما ورد آنفاً، التطبيق العملي لحصيلة مدرسة الإعداد النظري عبر العبادة في الخلوة. نلتقي في الحلقة العاشرة.
الوسومسمية أمين صديق