القمم الجليدية تذوب.. هل الهندسة الجيولوجية هي الحل؟
تاريخ النشر: 15th, February 2024 GMT
منذ عام 1979، تقلص الجليد في القطب الشمالي بمقدار 1.35 مليون ميل مربع، ووجدت دراسة جديدة لمختبر الدفع النفاث أن فقدان الجليد في جرينلاند أسوأ بكثير مما كان يعتقد سابقًا وأن الجليد في القطب الجنوبي الآن عند أدنى مستوى له منذ بدء السجلات. وكلما زاد ذوبانها، زاد معدل تراجع الجليد الذي يبقى حتى نواجه سلسلة من الكوارث.
لا يمكن التأكيد على خطورة هذا الوضع بما فيه الكفاية. ويقول البروفيسور جون مور من مركز القطب الشمالي بجامعة لابلاند، إننا تجاوزنا منذ فترة طويلة النقطة التي يكون فيها خفض الانبعاثات وحده فعالا. وقال: "إننا نواجه هذا الوضع حيث لا يوجد طريق للوصول إلى 1.5 درجة متاحة من خلال التخفيف". "أشياء مثل [ذوبان] الصفائح الجليدية ونقاط التحول الأخرى ستحدث بغض النظر"، مضيفًا أن الوضع الحالي للأرض يشبه مريضًا ينزف على طاولة العمليات، "نحن في هذا الوضع حيث لا يمكننا التخفيف من أنفسنا للخروج من هذه الأزمة".
مور هو أحد الشخصيات التي تقف وراء تقرير Frozen Arctic، وهو تقرير أصدرته جامعات القطب الشمالي ولابلاند بالتعاون مع مركز الأبحاث GRID-Arendal المدعوم من الأمم المتحدة. إنها عبارة عن ملخص لستين مشروعًا للهندسة الجيولوجية يمكن أن تبطئ أو تعكس ذوبان القطبين. اختار فريق من الباحثين فحص كل فكرة، بدءًا من تلك الموجودة بالفعل وحتى تلك الموجودة على هامش العلم. قال مور: "أردنا أن نكون دقيقين، لأنه حتى أكثر الأفكار جنونًا قد تحتوي على كتلة صلبة من الذهب". وقد تم إعطاء كل نهج تحليلًا موجزًا، وفحص ما إذا كان ممكنًا على أساس علمي أو عملي، وما إذا كان من المحتمل أن يكون مفيدًا وكم سيكلف. بل إن التقرير ذهب إلى أبعد من ذلك لينظر إلى البيكريت، وهي مبادرة غريبة من الحرب العالمية الثانية لإنشاء أنهار جليدية صناعية للاستخدام الاستراتيجي عن طريق خلط نشارة الخشب أو المنتجات الورقية في الجليد.
إذا كنت فضوليًا وليس لديك يوم أو يومين لقراءة التقرير بنفسك، فيمكنك تلخيص الأساليب المتبعة في عدد قليل من الفئات. الأول هو إدارة الإشعاع الشمسي، أي جعل المناطق القطبية أكثر انعكاسًا لترتد المزيد من حرارة الشمس. ثانيًا، هناك توليد الجليد الاصطناعي للتعويض عما فقد بالفعل. ثالثًا، العمل الهندسي الهائل لدعم وعزل وحماية الجليد المتبقي، مثل الجدران الضخمة تحت سطح البحر التي تعمل كحاجز ضد البحار عندما تصبح أكثر دفئًا. وأخيرا، هناك التدابير التي تتناول أطراف المشكلة من حيث التأثير، ولكنها تحقق نجاحاً أكثر قابلية للتطبيق في الأمد البعيد، مثل منع النباتات والحيوانات (والدفء الذي تشعه) من التعدي على المناطق التي كان من المفترض أن تظل مجمدة.
إذا كنت عالم مناخ، فإن النهج الأكثر وضوحًا على الأرجح هو الأول، لأننا رأينا التأثيرات الإيجابية له من قبل. البيدو هو مصطلح علوم المناخ الذي يصف كيف يعمل الجليد الأبيض كعاكس هائل، حيث يرتد الكثير من حرارة الشمس. تزيد العصور الجليدية من البياض بشكل كبير، ولكن هناك أمثلة أحدث في الذاكرة الحية: في عام 1991، ثار بركان جبل بيناتوبو في الفلبين، مطلقًا كمية هائلة من الرماد البركاني في الغلاف الجوي. (تسبب الحدث أيضًا في قدر كبير من الضرر، وتشريد 200 ألف شخص وأودى بحياة ما لا يقل عن 722 شخصًا.) وفقًا للإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA)، ساعد الرماد المتدفق في الغلاف الجوي على عكس الكثير من حرارة الشمس بعيدًا عن الأرض، مما تسبب في حدوث كارثة عالمية مؤقتة. تأثير التبريد حوالي 1.5 درجة مئوية. إن الدمار الذي خلفه بركان بيناتوبو ليس أمرًا مرغوبًا فيه، ولا استنفاد الأوزون الذي سببه، لكن تأثير التبريد هذا يمكن أن يكون حيويًا لإبطاء ظاهرة الاحتباس الحراري وذوبان القطبين.
من الممكن القيام بذلك بشكل مصطنع عن طريق زرع الغيوم بمواد كيميائية ترسبها طائرة أو باستخدام مولدات دخان أرضية، والتي يمكن استخدامها أيضًا لتعزيز السحب الممطرة. وهذا تكتيك يستخدم بالفعل في الصين للمساعدة في توفير الأمطار لأغراض الزراعة وتخفيف الظروف الشبيهة بالجفاف. وفي هذا السياق، ستكون السحب بمثابة حاجز بين الشمس والقمم الجليدية، مما يؤدي إلى ارتداد المزيد من الإشعاع الشمسي بعيدًا عن سطح الأرض. لسوء الحظ، هناك مشكلة في هذا النهج، وهي أنه مكلف بشكل لا يصدق وصعب الإرضاء بشكل لا يصدق. ويقول التقرير إن هذا المشروع قابل للتطبيق فقط عندما تكون السحب مناسبة في السماء، وسيتطلب العمل بناء بنية تحتية هائلة في مكان قريب. ناهيك عن أنه على الرغم من أن لدينا بعض الأدلة الصغيرة التي تشير إلى أنه قد يكون مفيدًا أول، لا يوجد شيء مثبت حتى الآن.
ثم هناك تأثيرات الدرجة الثانية عندما تمتد هذه الأساليب إلى بقية النظام البيئي العالمي. "إذا قمت بطرق انعكاس ضوء الشمس ووضعت أي شيء في الغلاف الجوي، فلن يبقى في مكانه الذي وضعته فيه." هذه هي القضية الكبرى التي حددها الدكتور فيل ويليامسون، الأستاذ المشارك الفخري في جامعة إيست أنجليا والمساهم السابق في تقارير اللجنة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ التابعة للأمم المتحدة. وهو يخشى أن الحلول المناخية الإقليمية المستهدفة "لا تحل المشكلة للعالم أجمع"، وأنك إذا لم تعالج تغير المناخ على نطاق عالمي، فإنك "تؤدي فقط إلى إبراز الفرق". مع وجود القطب الشمالي البارد، ولكن ارتفاع درجات الحرارة في أماكن أخرى، فأنت تتسلق على متن "أفعوانية مناخية".
والأمر الثاني في ترتيب المقاربات المناخية هو بناء مُجمد لتبريد الجليد الموجود وإنتاج المزيد منه. ومن المؤسف أن العديد من الأفكار في هذا المجال تنسى أن الصفائح الجليدية ليست مجرد كتل كبيرة من الجليد غير المنقولة، بل هي في الواقع عرضة للتحرك. خذ على سبيل المثال فكرة الحفر لمسافة ميلين أو نحو ذلك في الغطاء الجليدي وضخ الماء الدافئ لتبريده: بفضل الجليد والماء المتغيرين باستمرار، سيلزم حفر موقع جديد بشكل منتظم إلى حد ما.
هناك مشكلة أخرى: يقول التقرير إن أحد المشاريع لحفر حفرة بعمق 2.5 كيلومتر (1.5 ميل) أدى إلى حرق 450 ألف لتر من الوقود. ناهيك عن مقدار الطاقة التي سيستهلكها تشغيل المبادلات الحرارية أو المجمدات لإنتاج ثلج طازج بهذا الحجم. هذه كمية كبيرة من تلوث الغازات الدفيئة لمشروع يهدف إلى التراجع عن هذا النوع من الضرر بالضبط. قد يكون إلقاء طبقة من الثلج الاصطناعي على الجبل أمرًا جيدًا بالنسبة لمنتجعات التزلج عندما يكون المسحوق رقيقًا بعض الشيء، ولكن ليس الكوكب بأكمله.
وبقدر ما ستكون المعارك العلمية والهندسية صعبة، هناك أيضًا المعركة السياسية التي ستحتاج إلى معالجة. قال البروفيسور جون مور: "ينزعج الكثير من الناس بشكل شبه ديني بشأن وضع أشياء في طبقة الستراتوسفير، وقد تعتقد أنهم سينزعجون بالمثل بشأن الغازات الدفيئة". إحدى الاستراتيجيات قيد النظر هي حقن الكبريت في الغلاف الجوي لتكرار تأثيرات التبريد التي لوحظت بعد الانفجارات البركانية الكبرى. سيشكل الكبريت ثاني أكسيد الكبريت، مما يخلق طبقات سميكة من السحب الكثيفة لمنع المزيد من الحرارة من الوصول إلى الجليد. ولكن إذا كنت، مثلي، لديك معرفة بالعلوم على مستوى المدرسة الثانوية، فهذا احتمال مخيف نظرًا لأن ثاني أكسيد الكبريت سوف يتحلل إلى حمض الكبريتيك. ونظرًا للكميات المجهرية المعنية، سيكون هناك تأثير ضئيل أو معدوم على العالم الطبيعي. لكن صورة المطر الحمضي المتدفق من السحب تعني أنه سيكون من الصعب بيعها لسكان غير مطلعين.
ولكن إذا كان هناك سبب للقلق، فهو أن أي عواقب غير مقصودة يمكن أن تشكل مشكلة في الفضاء السياسي العالمي. يقول فيل ويليامسون: "إن الأمر يشبه إعلان الحرب على بقية العالم إذا قامت دولة ما بمفردها، لأن أي ضرر أو تغيير في نظام المناخ العالمي، فإن الدولة التي فعلت ذلك هي المسؤولة عن جميع الكوارث المناخية المستقبلية". لأن الطقس ليس هو نفسه."
وبطبيعة الحال، يعلم مور أن استنتاجات تقرير القطب الشمالي المتجمد ليست متفائلة للغاية بشأن الحل السريع. إنه يشعر أن استنتاجاته يجب أن تكون بمثابة دعوة للاستيقاظ لكوكب الأرض. وقال: "لن يقوم أحد بتوسيع نطاق شيء ما للمحيط القطبي الشمالي بأكمله بين عشية وضحاها"، ولكن هذا هو الوقت المناسب "للعثور على أفكار قد تكون ذات قيمة [...] ثم تخصيص الموارد لمعرفة ما إذا كانت [تلك الأفكار] إنها مفيدة حقاً." وأضاف أن الفترة الزمنية القصيرة قبل وقوع كارثة مناخية كاملة لا تمثل مشكلة كبيرة، قائلاً: "يمكن للمهندسين أن يفعلوا أي شيء تطلبه منهم إلى حد كبير إذا خصصت ما يكفي من الموارد له". لأن البديل هو عدم القيام بأي شيء، و"في كل يوم نختار فيه عدم القيام بأي شيء، فإننا نتقبل المزيد من الأضرار القادمة".
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: فی الغلاف الجوی القطب الشمالی المزید من إذا کان أی شیء فی هذا
إقرأ أيضاً:
الإسلاميون في مواجهة الحل الليبرالي
لسنا بصدد إعادة تعريف الليبرالية، فقد استقر المفهوم في الأذهان وفي التداول اليومي بمعانيه السياسية والاقتصادية، لكن في سياق وضع تصورات ممكنة/ احتمالات/ اجتهادات لانتقال أحزاب وجماعات الإسلام السياسي العربي من خطابها الإسلامي إلى الليبرالية؛ نلتقط اختصارات معادية لليبرالية تركز بالخصوص على المسائل الأخلاقية الوافدة من المجتمعات الليبرالية الغربية في العقود الأخيرة، وتركز على قضايا التعامل البنكي والربا الذي بنيت عليه التجارب الليبرالية الغربية. لذلك نستعيد أسئلة جوهرية في محاولة فهم وإعادة بناء التصور الليبرالي الممكن في تجارب عربية مستقبلية، منطلقين من التشوهات الحادثة على التصور الليبرالي عامة، وتشوهات التجارب السياسية العربية التي لا يمكن بحال تصنيفها ضمن سياقات الليبرالية ولا سياقات الدولة الاجتماعية/الكينزية. وقد يظهر هذا الكلام كفتح أبواب مفتوحة، ولكن حق الاجتهاد والتفكير مكفولان فيما نظن.
هل الليبرالية بيئة غير أخلاقية؟
لم تنتج الليبرالية في التجارب الغربية لحظة ميلادها سلوكيات التحرر الجنسي ولا حرضت على الإباحية، بل تحملت توصيفات المحافظة التي سلطت عليها من تيارات اليسار الأوروبي الذي لم تكن قضايا التحرر الجنسي على أجنداته، بل كان مشغولا بقضايا العدالة في العالم. لقد كان التقسيم الكلاسيكي إلى يمين ويسار يحمل كل ليبرالي نعت المحافظ أو الرجعي، فصار اليمين عنوان المحافظة.
عرفت تيارات اليسار وأحزابه بما في ذلك الحزب الديمقراطي الأمريكي بداية من النصف الثاني من القرن العشرين تحولات عميقة، فتخلت عن قضايا العمال وتخلت عن مطالب العدالة الاجتماعية، وطرحت قضايا الحريات الفردية وقضايا الجندر، ودفعت إلى أقصى أشكال التحرر الفردي وفي المقدمة تحرير الجسد من كل قيد أخلاقي محافظ.
ولدت حركات الإسلام السياسي وترعرعت في ظل هذه التشوهات فلم تر في الليبرالية إلا جانبها الأخلاقي الفاسد وجانبها السياسي القمعي، فاتخذت منها مواقف معادية ولم تعمل على إعادة بناء مفاهيم الليبرالية بمفردات محلية كما لم تستوعب نماذج الدول الاجتماعية الكافلة فحملت في فكرها تشوهات مزدوجة
لذلك ومن داخل بؤر اليسار الجديد وليس من الأحزاب الليبرالية، ظهرت قضايا المثلية وتحولت إلى مطالب انتخابية وبرامج حكم في كل بلد وصل فيه اليسار إلى السلطة. والمثير للاهتمام أن هذه القضايا صارت ملتصقة فكريا بالليبرالية، حيث يقع خلط متعمد بين ما هو ليبرالي وما هو تحلل أخلاقي. وقد كان اليسار الأوروبي يرى الشركة الليبرالية تنتج البرنوغرافيا بكل ما تحمله من امتهان للجسد، فيوفر لها الغطاء الأيديولوجي باسم حرية الجسد. ووصلت هذه الصورة المشوهة إلى البيئة الفكرية والسياسية العربية والإسلامية منها بالخصوص، فحصل نفور كامل من كل توصيف ليبرالي.
في ذات الوقت، تحولت الأنظمة العربية التي نشأت بعد معارك التحرير من مشاريع دول اجتماعية كافلة تهتم بشعوب مريضة وجاهلة وفقيرة؛ إلى أنظمة لا يمكن تصنيفها في الليبرالية الاقتصادية ولا يمكن حشرها ضمن مشاريع الدول الكافلة. فهي أنظمة هجينة ومشوهة، لكنها أفلحت في المزج بين دكتاتورية التجارب السياسية السوفييتية وبين التحريض على سلوكيات فردية ليبرالية دون أن تتحمل المسؤولية الأخلاقية عن ذلك، إذ أنها تواصل التخفي وراء خطاب محافظ لا يتورع عن استعمال الدين في تغطية فشلها في كل مجال.
ولدت حركات الإسلام السياسي وترعرعت في ظل هذه التشوهات فلم تر في الليبرالية إلا جانبها الأخلاقي الفاسد وجانبها السياسي القمعي، فاتخذت منها مواقف معادية ولم تعمل على إعادة بناء مفاهيم الليبرالية بمفردات محلية كما لم تستوعب نماذج الدول الاجتماعية الكافلة فحملت في فكرها تشوهات مزدوجة. غني عن القول أن جماعات اليسار العربي وأحزابه تعيش هذه التشوهات بدرجة أعمق فلا هي اشتراكية ولا هي ليبرالية، ومن نافلة القول إن جماعات اليسار على ضآلة حجمها جرت وراءها جماعات الإسلام السياسي فعمقت تشوهاتها. وقد تجلت هذه التشوهات في صراعات الربيع العربي، حيث لم تتقدم أية تجربة في أي اتجاه ففشلت هذه الجماعات في إنقاذ الثورة من براثن منظومات الحكم السابقة.
عقدة الاقتصاد الربوي
تحتكم الأحزاب الإسلامية إلى نص صريح وقطعي في تحريم الربا، وقد ابتدعت مشاريع الاقتصاد اللاربوي منذ السبعينيات وأسست البنوك الإسلامية على أساس المرابحة، ولكن التجربة كشفت أن المرابحة أعلى كلفة من الربا فلم تُحدث تحولا في أية تجربة اقتصادية عربية. وإلى ذلك لم تنشأ كتل سياسية عربية على غرار السوق الأوروبية المشتركة قادرة على بناء أسواق وأنظمة تبادل بينية تحرر اقتصاد العرب من الإلحاق بنظام المصارف الربوية الغربية، فظلت تابعة الحكومات تتعامل مع المقرضين الدوليين بالربا، وظلت الأحزاب الإسلامية تحرمه على الأفراد.
وقد شكل هذا عقدة في منشار الأحزاب الإسلامية التي رأت التحريم ولم تر سبل الخروج من اقتصاد عالمي ربوي بالأساس، وقد واجهت المعضلة بمجرد وصولها إلى السلطة على قصر التجربة في تونس والمغرب ومصر. وحتى حماس البعض لمشروع بريكس الساعي إلى التشكل يغفل أنه مشروع اقتصاد ربوي آخر، وليس تجربة مختلفة وإن زعم التبادل بالمقايضة. إنه حماس عاطفي للتحرر من الهيمنة الأمريكية والأوروبية لكنه يقع في نفس المطب الربوي.
في ذات الوقت، فإن الأحزاب الإسلامية واقعة في مشكل آخر هو خيار الدولة الاجتماعية الذي يقدم الاجتماعي على النجاعة الاقتصادية، وهذا النموذج مهما حظي بالدعاية اليسارية هو نموذج ليبرالي مخفف يقوم على قواعد ربوية منذ نشأته.
هل يمكن للإسلامي تجاوز التحريم والقبول بالاندماج في اقتصاد ربوي؟ هذا سؤال جوهري لا تمكن معالجته بالشطح على النصوص القطعية أو بفتاوى (نص كم)، فإما قبول واندماج إلى حين أو الخروج من العمل السياسي بلا تردد، رغم أن كل خروج سيجعل الفرد الإسلامي مجبرا على التعامل الربوي أو البقاء خارج كل دورة اقتصادية محلية، ولا يمكنه بحال إنشاء منظومة غير ربوية صغرى داخل منظومة ربوية شاملة.
يمكنه أن يدعو وينظم فعليا حياة اجتماعية محافظة معتمدا على توجيهات دينية تعلى من شأن الأسرة، حيث تحفظ الأخلاق والجسد لكن الجانب السلوكي الشخصي لا يكفي لتنظيم حياة اجتماعية شاملة.
فإذا أصر على التفكير والعمل خارج منظومة الربا الكونية فإنه ملزم بالبدء من نقطة أخرى؛ هي وضع مشروع التحرر السياسي والاقتصادي الشامل، أي أن يعود إلى وضع حركة تحرر أصلية وبوسائل التحرر السياسي بما في ذلك الكفاح المسلح (أو نموذج حماس)، وهو أمر لم يعد متاحا في دول قائمة ولها أنصار لا يتفقون مع هذه الرؤية التحريرية، بل يطيب لهم الاندماج بشكله الجاري الآن. فضلا عن ذلك، فإن وضع التشتت القُطري الحالي لا ينتج حلا شاملا، فتحرير قُطر وحيد لا ينتج سوقا فوق قُطرية غير ربوية، بما يعسر مهمة كل الأحزاب الإسلامية في كل قُطر.
مشروع تربوي فقط
لم يبق للأحزاب الإسلامية الا مشروع تربوي يخفف من غلواء الليبرالية الزاحفة والتي وصلت إلى العرب مشوهة بيسارية مزيفة، فإما البقاء في هذا المستوى من العمل التربوي الفردي أو التحلل من كل التزام سياسي لا يتجاوز نص التحريم ويسقط في مشروع اقتصادي ليبرالي
من هذه الزاوية لم يبق للأحزاب الإسلامية الا مشروع تربوي يخفف من غلواء الليبرالية الزاحفة والتي وصلت إلى العرب مشوهة بيسارية مزيفة، فإما البقاء في هذا المستوى من العمل التربوي الفردي أو التحلل من كل التزام سياسي لا يتجاوز نص التحريم ويسقط في مشروع اقتصادي ليبرالي أي ربوي بالقوة.
نظن يقينا أن الأحزاب الإسلامية لو قدر لها أن تحكم (وهي مطاردة دوما) ستجد نفسها في نفس الوضع التي وجدت فيه الأنظمة العربية نفسها لحظة الاستقلال. لقد طاوعت تلك الدول الناشئة التيار السائد، مقدمة النجاعة الاقتصادية على سلامة الأسس النظرية أو الفقهية لبناء اقتصادياتها. لم تكن تلك الأنظمة ليبرالية بمحض اختيارها، فقد نشأت أضعف من أن تواجه الاقتصاد العالمي فاندست فيه بما تيسر لها.
ونختم بصورة ذات دلالة على المأزق الذي وجدت في الأحزاب الإسلامية نفسها عندما استلمت جزءا من السلطة، لقد تم جر نائبة متحجبة من حزب النهضة في تونس إلى زيارة معصرة خمور، وكان أقصى ما استطاعت فعله لتجنب الحرج أن بقيت خارج المعصرة تنتظر بقية الفريق التفقدي. لم يمكن لإسلامي حكم أن يذكر بتحريم الخمر إنتاجا وترويجا، وقد كان هذا على أجندته النظرية.
مفردات الواقع المبنية قبله جعلت مهمته السياسية القائمة على نصوص قطيعة الورود قطيعة الدلالة عائقا في طريق نجاحه السياسي. لم يكن الحرج ظاهرا وهو يعارض الأنظمة، لكنه لما واجه المعضلات الواقعية وواجه النص المؤسس أيضا وهو في وضع ملتبس؛ فإما الحكم بشروط الواقع القائم أو البقاء في سلامة نصه خارج كل مشاركة. إذا فتح فشل الربيع العربي على مشاريع تفكير من هذا القبيل فإنه يكون قد مهد لمرحلة فكرية متطورة تؤدي إلى مستقبل مختلف تقوده أحزاب ليبرالية. ليت النقاشات تتركز هنا.