غواية الغرب.. تفكيك أسطورة
تاريخ النشر: 15th, February 2024 GMT
د. عز الدين عناية
قلّة في عالم الجنوب ظلّت في مأمن مما يمكن تسميته «غواية الغرب»، ولو رُمنا توصيف هذه الغواية، لقلنا إنها وصفة محكمة من «الاستلاب الثقافي». وقد تنبّهَ عدد من المفكرين الكبار، ممّن عملوا على تفكيك هذه الظاهرة في حدود الموضوعية العلمية، إلى ضرورة فهمها واحتواء آثارها. ومن هؤلاء المفكر العربي د.
الحداثات المتعدِّدة
أمّا مع نعوم تشومسكي، الذي قضى ردحاً من حياته ولا يزال في مقارعة ما يعتبره سطوة الغرب الثقافية على العالم، فهو يدعو إلى تحرير الوعي الجمعي من أوهامه، ولهذا عدَّ نزع تلك الغشاوة بمثابة العمل العلمي الموازي لاهتماماته ودراساته الألسنية. فكلاهما يسير قدماً لترسيخ منظور موضوعي مجرّد لما يحيط بالإنسان من ظواهر. هذا في حين جاءت النظرة مع عالم الاجتماع شموئيل إيزنستادت من باب مراجعة مفهوم الحداثة الغربية المحوري، بهدف التحرر من ذلك الإغواء الآسر! فلطالما ساد النظر إلى الحداثة على أنها بمثابة «الحاوِية المعبَّأة» ببعض الخصوصيات الثقافية، وأن المجتمعات التوّاقة إلى هذا المغنم، لا مناص لها من القبول بالحمولة كلّها. وهو ادّعاء ساد على مدى عقود طويلة في النظر إلى هذا المنجَز البشري، وخلّفَ أنواعاً شتى من الاستلاب. وقد كشف إيزنستادت زيف هذا الفهم الأحادي للحداثة، وما ينطوي عليه من تجنٍّ بصهْرِ الحضارات في بوتقة الحضارة الغربية، ولذا فقد عمِل على إدراج تحوير جذريٍّ بطرح مقولةِ «الحداثات المتعدِّدة»، في مقابل الحداثة الوحيدة. فعالَم متعدِّدٌ هو أحوج ما يكون إلى فهْمٍ متعدِّدٍ، وهكذا راعى إيزنستادت ديناميات التعدّد، ومن ثَمّ إمكان أن تبنيَ تكتلات حضارية جنوبية حداثتها من داخل أنماطها الخاصة، بعيداً عن الخيارات «الإلزامية» الواحدة.
المعايشة والتجربة
والحال أن الإشكال الذي نعيشه مع «غواية الغرب» وجاذبيته، أن الأمر يتمكّن من شرائح واسعة في مراحل مبكرة، وقد يطمس إحساسها الفطري ويؤثر في مقدّراتها الذهنية، لفقدان «المضادات الحيوية» الثقافية التي تحدّ من انتشار بريقه. فالانبهار داء مستفحل أحياناً، في الشارع والجامعة، وفي اللغة والفرجة، ولدى المثقفين والأمّيين على حد سواء، بشكل يدعو للدهشة.
ومن واقع التجربة، قبل مغادرتي البلاد العربية، أي منذ زهاء ثلاثة عقود، لما كنت أتّقد حماساً للتغيير والتجديد، لا أزعم أنني كنت معافًى من هذه الغواية. فقد كانت البوصلة متجهة صوب الغرب، وكان الآخر -أقصد الغرب- هو «النعيم» بالنسبة إليّ، وكان يصعب أن أرى بعين الشاب الغضّ ما أراه اليوم بعين تطلّ على الستين. والمسألة ليست أن يصير المرء طاعناً في السن حتى يصحو، بل هي المعايشة والتجربة لمن تيسّر له ذلك والعلموية في النظر للأشياء لمن عازه التواصل المباشر. فعملية الصحو، تشبه الدخول إلى مغطس، فيه التداوي بالذي كان هو الداء، أي بالغرب ذاته، بالانغماس فيه بحلوه ومرّه، والعيش في تجاويفه وفهم روحه.
فما معنى أن يزحف ألوف البشر نحو الغرب وهم يمنّون النفس بما يشبه «الجنة» يدفعهم الإغراء والإغواء؟ ليجدوا أنفسهم يتكدّسون في الشوارع والمحطات، وحول الكنائس ودور المساعدات كالسردين. كأنها غواية الفراشات حول النار التي تغدو جزءاً من تكوينها الغريزي.
قطع طريق التواصل
في كتاب مهمّ للأنثروبولوجي الفرنسي جان-لو آمسال بعنوان «إسلام الأفارقة.. الخيار الصوفي» (2018)، يرصد فيه مساعي حازمة من قِبل أطراف أكاديمية غربية لإبعاد شعوب جنوب الصحراء عن حاضنتهم المغاربية، وفك أواصر الصلة بين تومبكتو وفاس والقيروان والزيتونة. ومحاولة قطع طريق التواصل الضارب في عمق التاريخ بين تلك الحواضر، وذلك بالعمل على اختلاق ما يُشْبه الهوية «الإفريقية الزنجية» في مقابل الهوية «الإفريقية المغاربية».
وكما يشرح جان-لو آمسال عادة ما يُعرَض «المخزون الحضاري الأسود» في مقابل «المخزون المغاربي» و«المخزون الشرق أوسطي» و«المخزون الخليجي»، وهي محاولة لفصل المخزون الإفريقي عن مجاله الطبيعي. ويبيّن آمسال أن مدرسة مرسال غريول الأنثروبولوجية قد لعبت دوراً حاسماً في هذا الشرخ، إلى حدّ أنها سعت لتحويل اللّغةَ العربية في غرب أفريقيا إلى «بلوى حضارية»، أضحى معها الحرف العربي، في لغات بعض بلدان ما وراء الصحراء، حرفاً لكتابة التمائم والطلاسم والتعاويذ، في مسعى للإيحاء ضمناً بأن العربية عنوان «التخلّف» و«الجمود».
الهشيم الثقافي
لماذا أوردنا هذا الحديث بشأن محاولات زعزعة المكون الحضاري الأفريقي؟ نقول ذلك لأن غواية الغرب قد بدأت مع تفكيك إيمان الأفارقة بذواتهم وأن لهم رصيداً جامعاً، يستظلون بظلّه في الأيام العصيبة. في حين مع غياب ذلك الرصيد، أو في حال طمسه، قد يصبح من السهل تمرير الأساطير والأخاييل في الوعي الجمعي والثقافة الهشة، فتمسي المعيارية الغربية الأكثر حضوراً في الهشيم الثقافي.
والسؤال المطروح هو: ما العمل أمام غواية الغرب؟ الملاحظ أن جملة من الأوهام تسري أحياناً في عالم الجنوب، بأن الغرب حاضن المثقفين والدارسين والمبدعين الوافدين من عالم الجنوب! فكم من فلاسفة جاءوا إلى الغرب من شرق أوروبا، مع انهيار جدار برلين، صاروا عمال حظائر وصنّاع بيتزا؟ وكم من شعراء وفدوا من المشرق قضوا حياتهم حراساً في العمارات السكنية، لتُقبَر معهم أحلام الفكر والثقافة إلى الأبد؟ ليس لأن الغرب يسدّ الأبواب أمامهم، ولكن لأن هناك بنية ثقافية حضارية تعليمية ينبغي على الوافد امتلاكها وهي ليست بالأمر الهيّن.
«سيرة الامتنان»!
الشاعر الإريتري الإيطالي حميد بارولي عبدو في كتاب بعنوان «سيرة الامتنان» (2023)، وهو عبارة عن سيرة ذاتية، أو لنقل خلاصة تجربة في العمل في مجال الهجرة والمهاجرين في إيطاليا، اعتبر أن المتاجرة بالمهاجرين في بلد الرحيل وبلد النزول هي ظاهرة استرقاق جديدة. ومن ضمن ما يورده في الكتاب حديث حول ما يعرف اليوم بـ«النسوية الإسلامية» والتحمس المفرط لها في إيطاليا -وكأن المرأة الإيطالية التي نالت حق الطلاق (1970) وحق الإجهاض (1978) سباقة في هذا المجال! ويكشف أن الجمعيات النسوية «المدافعة» عن المرأة العربية، ضحية «الذكورية المفرطة»، كما تصوَّر، تجني من كل حالة تفكيك أسري (طلاق) 2000 يورو، وفي الوجه الآخر من الميدالية -على ما يورد بارولي عبدو- تجد المرأة العربية المهاجرة الأكثر تهميشاً في سوق الشغل ومعاناة من البطالة القسرية.
وهكذا يتبين جلياً أننا كثيراً ما نصنع أساطير ثقافية حول الغرب ونقع ضحية لها، والحل يكمن في تفكيك الأساطير والنظر للأمور بواقعية.
المصدر: صحيفة الاتحاد
إقرأ أيضاً:
الغرب يخطئ مرتين في سوريا
كل الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، يخطئون في سوريا، وللمرة الثانية. الأولى عندما تقاعسوا عن مساعدة السوريين بإسقاط بشار الأسد، الذي كان على وشك السقوط قبل التدخل الإيراني والروسي قبل 13 عاماً.
أخطاء الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، بدأت فترة الرئيس الأسبق باراك أوباما عندما لم يحترم الخطوط الحمراء التي رسمها بنفسه لبشار الأسد، وهي عدم استخدام الأسلحة الكيماوية ضد العزل السوريين.واستخدم الأسد الأسلحة غير مبالٍ، واعتقد الجميع حينها أن رئيس القوى العظمى سيتحرك، إلا أن أوباما تغاضى عن ذلك، وعدّ الأزمة السورية واحدة من الأزمات التي يواجهها كل رئيس أميركي.
وقال وقتها، بحسب «النيويورك تايمز»، إن الثوار السوريين عبارة عن مزارعين وأطباء ومدرسين ليس بمقدورهم فعل شيء، ورفض فكرة الجنرال باتريوس بدعم الثوار. وأوباما نفسه من وصف جرائم الأسد ضد الثورة السورية بـ«حرب أهلية».
وأخطأت الولايات المتحدة، والغرب، بتجاهل معاناة السوريين، ولم يفعلوا شيئاً يذكر إلا قانون قيصر، الذي قطع طريق إعادة تأهيل الأسد، لكن من دون شروط تفتيش على السجون، أو إطلاق سراح المعتقلين، واليوم العالم كله يرى حجم الكارثة بسوريا.
كانت واشنطن حريصة على أمن إسرائيل أكثر من رفع المعاناة عن السوريين بعد ثورة 2011، وهو ما سمعته من مسؤولين عرب وأجانب عدة، وأكده وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في مقابلته التلفزيونية الأربعاء الماضي مع قناة «الحدث».
يقول الوزير فيدان إنه قبل سبع سنوات، وحين كان جو بايدن نائباً للرئيس وجاء إلى تركيا والتقى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، قال: «نحن لا نريد أن يرحل الأسد». ويضيف: «نعلم أن هذا كان رأي إسرائيل وليس رأيه، لأن إسرائيل لم ترد ولم ترغب في أن يرحل الأسد إطلاقاً».
مردفاً: «نعم، إسرائيل ربما لم تكن راضية عن تصرف الأسد بإتاحة الأرضية والوجود الإيراني على الأراضي السورية، ولكن إسرائيل كانت راضية عن الأسد نفسه، ومن ثم، أبلغتنا أميركا أن إسرائيل لا تريد سقوطه».
كان هاجس واشنطن أمن إسرائيل، وليس حجم المأساة بسوريا، أو الخطر الجيوسياسي، ويوافق ذلك حينها، رغبة واشنطن في إتمام صفقة الملف النووي مع طهران، ولو على حساب المنطقة.
اليوم تكرر واشنطن، والغرب، الخطأ نفسه مرة ثانية، حيث إن جل الجهود هي لضمان أمن إسرائيل، رغم اعتدائها المستمر وغير المبرر على سوريا الجديدة. صحيح أن الغرب يضع شروطاً للإدارة الجديدة بسوريا، وهذا مستحق، لكن التركيز دائماً على إسرائيل.
كل وسيلة إعلامية غربية حاورت أحمد الشرع كان سؤالها الأبرز عن أمن إسرائيل، وموقف سوريا الجديدة من ذلك، والأمر نفسه في تصريحات المسؤولين الغربيين، وفي استفزاز صارخ للشعب السوري الذي يريد تضميد جراحه.
كما يطالب الغرب سوريا بتنفيذ ما لم ينفذه الأسد في 24 عاماً، وبأسبوع واحد، مع التركيز على أمن إسرائيل، ومن دون اكتراث لتقديم المساعدات الفورية للسوريين، وإجبار إسرائيل على وقف عدوانها على سوريا مع جهد دولي حقيقي لجلب الأسد للعدالة من جراء ما اقترفه من جرائم.
ولذلك أقول إن الغرب يخطئ في سوريا مرتين.