بطريقتين مختلفتين تمامًا تلقّى الناس الصورة -التي نشرها الجندي الإسرائيلي يوسي غامزو- لفلسطيني تحت التعذيب. جاءت صورة الرجل -جالسا على كرسي في إحدى مدارس مدينة غزة، وهو مقيد اليدين ومجرد من ثيابه باستثناء ملابسه الداخلية- كتوثيق آخر للانتهاكات المستمرة في القطاع. بشكل خاص لأن الحساب نفسه كان قد نشر قبلها مقطع فيديو للرجل وهو يسير بمرافقة الجند مقيدا لكن سليمًا، مما عنى أن جراحه تسبب بها تعرضه للتعذيب من قِبل آسريه.
أعادت هذه الصورة، وصور أخرى لأسرى فلسطينيين إلى الذاكرة فضيحة أبو غريب. الصور المنشورة للسجناء مثّلت بالطبع أدلة إدانة. الأوضاع المهينة التي ظهروا بها، جعل من يتناقلونها، أو من ينظرون إليها يحسون بالعار وبانقباض القلب. العار قادم من تماهٍ مع الضحية، خصوصا بالنسبة لمن يشتركون مع الضحايا في اللون والملامح، ومن يعتقدون أنه من غير المستبعد أن يكونوا محلهم يوما ما، ما دامت مصائرهم مرتبطة بأهواء أقوياء العالم المتنمرين. لكن العار أيضا قادم من الفرجة. من كون المرء يرى شخصًا ما يُهان، دون أن يدفعه ذلك لأن يتحرك، فيما يُشبه التواطؤ. والمُنكر الذي استعصى تغييره باليد واللسان، يُستنكر بالقلب، ويُصبح أضعف الإيمان أن يعمل جهده لئلا تُدوّر الصور.
حين نُفكر بمنطقية، نعرف أن العار يُفترض أن يلتصق بأولئك الذين يقفون -في الحقيقة- برأس مرفوع، بثقة وفخر في أزيائهم العسكرية الناصعة، حاملين أدوات التعذيب الصقيلة. لكنه لا يفعل. ما يحدث في الواقع هو أن الضحية تُعيّر بالجوع والإنهاك واليتم وقلة الحيلة في المعادلة غير المنصفة للعالم المتهكم. والمراقب المتعاطف، الذي يشعر أن هذه الصور تصرخ في وجهه لأن يفعل شيئا، يبحث عن وسيط يمرر عبره خزيه، هوانه، وانعدام حيلته. فتراه يتبنى مرة خطاب التباكي، من نوع «اعذروا تهاوننا وجبننا»، أو خطاب الأمثلة «يا لكم من أمثلة للبطولة والصمود».
عندما يُشاد بالصمود أو يُشجع على التحلي به من أفراد لا ينتمون للمجموعة التي يقع عليها الظلم -ليس بشكل مباشر على أي حال- ففي هذا إزاحة للمسؤولية من المتفرج إلى الضحية. يطلب المتفرج من الضحية أن تكون صبورة، وأن تتصرف وفق التصور الذي بناه المتفرجون عنها. «الصورة الخالدة للنضال» تتحول بشكل ما عائقًا أمام تغيير ظروف المُنتهكة حقوقهم، إذ إن ردة الفعل (الصمود) متسقة مع الفعل (الاحتلال، القتل، الأسر، التعذيب والإهانة)، ولا يُوجد بعد أي خَرق يستفز المتفرج للتحرك، أو يستلزم تدخله. والتعود على رؤية الضحية في وضع غير إنساني، رؤيتها كجثة، كجسد منتهك، يُرسخ صورة نمطية، تستديم عدم أنسنتها، وتُؤبد معاناتها. فالأم الفلسطينية سوپر-ماما، والطبيبة باسلة، والأسير لا يُمكن تقويضه.
الموت أهون من الإهانة - هذا ما نؤمن به. الجوع شيء يُمكن احتماله - نتخيل، البرد لدرجة ما، أما أن يُنال منك، أما انتهاك حرمة جسدك، فهذا يفوق الاحتمال. خطاب الصمود، خطابٌ يُطالب الآخرين باحتمال ما لا يُحتمل، ويضع عليهم وزرًا جديدا، فهم إن ضعفوا لوهلة، يأكلهم التخييب. ليس أصعب من رؤية طفلة تقول «أنا خايفة»، إلا سماعها تقول «أنا ما أخاف».
لنحتفظ بالفكرة المجردة «الموت أهون من الإهانة» الآن في بالنا، ولنُفكر بالواقعين تحت التعذيب والتهديد والإنهاك. إنهم يُفكرون على الأغلب: حسنًا سأموت وينتهي كل هذا. أو إذا كانت الفكرة أكثر تفاؤلا: سينتهي هذا، سأنجو، ويكون كأنه لم يحصل أبدا (لا أظن -بعد كل ما رأيناه ونراه يحدث ويشتد شراسة- أن فكرة القصاص تخطر ببالهم حتى). أقول إن المتعرضين للإهانة يُفكرون بهذا، دون أن يُدركوا على الأغلب أن ثمة متفرجا على تجربته، أن ثمة تذكارا وحشيا سيبقى حيّا إلى الأبد (أعني الصورة الملتقطة)، أن أمهاتهم -إن كان قد بقي لهم أمهات وأُخوة- سيتعرفن عليهم، فقط لتُفطر قلوبهن.
مع هذا، ثمة فارق في الصورة التي نتحدث عنها اليوم، مقارنة بصور أبو غريب مثلا. إذ لا ملمح لهذا العار (الذي قُلنا أنه لا يخضع للمنطق). إن ملامحه -على العكس- مرتاحة، وفي حين أن تأملات المتفرجين على صور أبو غريب لا تذهب أبعد من «أرجو ألا أكون مكان الضحايا»، تفتح هذه الصورة أُفقًا جديدا «لا أُريد أن أكون محلّه، لكني إذا ما حدث وكنت، فأُريد أن أكون مثله»، فتُغيّب الخيالات الجديدة الانفعال التلقائي، فلا يرى المتفرجون فيه بعد جسدًا مُهانًا، ويمضون متغنين بالصمود الذي لم يروا مثله.
لنا بالطبع أن نتأمل في أخلاقيات ذلك، لكن هذا يقع خارج إطار اهتمام هذا المقال. ما حاولتُ رصده هو فرادة هذه الصورة، والاستثناء الذي تصنعه بالرغم من تشككي الدائم -بشكل عام- حول خطاب الصمود.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
قوى تحالف المقاومة الفلسطينية ترفض خطاب عباس واعتداءه اللفظي عليها
الثورة نت/
رفضت قوى تحالف المقاومة الفلسطينية اليوم الأربعاء ، بشدة خطاب رئيس السلطة محمود عباس في المجلس المركزي واعتداءه اللفظي على المقاومة.
ووفق لوكالة فلسطين اليوم أعربت القوى في بيان صحفي، عن ادانتها واستنكارها الشديدين للخطاب الأخير الذي ألقاه محمود عباس خلال جلسات المجلس المركزي، والذي تضمن إساءات مباشرة وخطيرة لقوى المقاومة الفلسطينية، وترويجًا لخطابٍ يُعزز الانقسام ويزرع الكراهية بين أبناء شعبنا الواحد.
وأكدت القوى، أن المجلس المركزي، بصيغته الحالية، لا يُمثّل الإرادة الشعبية الفلسطينية، ولا يعكس تطلعات قوى شعبنا الحية، بل جاء انعقاده في سياقٍ واضح لتكريس حالة التوريث السياسي وإعادة إنتاج قيادة فقدت شرعيتها من خلال سياسات فاشلة أوصلت قضيتنا الوطنية إلى حافة الهاوية.
كما شددت القوى، أن الخطاب الذي قُدِّم في المجلس لا يمت بصلة إلى جراح شعبنا في غزة، والضفة، والمخيمات، ولا إلى نبض الأمة وقضاياها، بل يعبر عن فصل تام بين القيادة الفاقدة للشرعية والواقع النضالي المتجذر لشعبنا المقاوم.
ورأت القوى، في هجوم عباس على قوى المقاومة الفلسطينية محاولة يائسة لإضعاف الموقف الوطني الجامع، وتقسيم الساحة الفلسطينية لمصلحة العدو، وهو خطاب يتنافى مع روح الوحدة الوطنية ومع تاريخ شعبنا في مقاومة الاحتلال والاستعمار.
ووجهت حديثها لعباس: إن كنت حقًا حريصًا على مستقبل هذا الشعب، فعليك أن تختم مسيرتك بموقف وطني مشرّف يُعيد الاعتبار لوحدة شعبنا ومؤسساته، بعد أن كنت جزءًا من مسار الانقسام وتفتيت المؤسسات الوطنية، ونؤكد أن شعبنا سيبقى وفيًّا لخيار المقاومة ولن تغتاله الكلمات ولا المجالس المفروضة