هجرة اليمنيين في القرن الـ20.. نصوص الشتات في البر والبحر
تاريخ النشر: 14th, February 2024 GMT
في دراسته الصادرة حديثا في 270 صفحة يقارب الكاتب والباحث اليمني محمد عبد الوهاب الشيباني موضوع "الهجرة والمهاجرون في الأدب اليمني المعاصر"، متوقفا أمام تمثيلات الهجرة وأسبابها في نصوص سردية وشعرية يمنية.
تحاول الدراسة/ الكتاب استقراء وتحليل أبرز النماذج الأدبية -سردية وشعرية- في أدب اليمن المعاصر التي اتخذت من قضية الهجرة خلال القرن الـ20 إلى جنوب شرق آسيا وأفريقيا وأوروبا وأميركا ودول الخليج العربي موضوعات لها.
تنتظم الدراسة في 3 مباحث يحيط الأول بمفهوم "الهجرة" كما تظهر عند دارسي موضوع الهجرة في النصوص الأدبية المختلفة، وكيف تعامل الأدباء المعاصرون مع قضية الهجرة بوصفها مشكلة اجتماعية لها أسبابها ونتائجها.
ويهتم المبحث الثاني بتتبع "الأسباب والتمثيلات" للهجرة والدوافع التي قادت الشخصيات الرئيسية في النصوص المدروسة لترك الوطن إلى مهاجر مختلفة، أما المبحث الثالث فيحلل نصوص الريادة والنصوص اللاحقة من الأدب اليمني المعاصر والمرتبطة بالهجرة.
ووفقا للدراسة، فقد خاض المنتج الأدبي اليمني المعاصر في موضوع الهجرة من منطلق "متلازمة الأدب بأسئلة المجتمع الحيوية"، ومنها أسئلة الهجرة والاغتراب.
ومن هنا، فإن مقاربة الكتابة الأدبية لموضوع الهجرة لم تكن ترفا، بل معاينة لقضية مجتمعية لعبت دورا مهما في تاريخ اليمنيين الطويل.
وتخلص الدراسة إلى أنه من جملة 12 عملا أدبيا مدروسا شكلت الرواية القوام الأهم في ذلك بنسبة تزيد على 65%، لأن الكتابة السردية والروائية على وجه الخصوص هي من أكثر الفنون تطويعا لقراءة الأشياء المنظورة وغير المنظورة، ولها قدرة على الإحاطة بتفاصيل دقيقة في حياة الناس وتموضعاتهم بالأمكنة.
صورة بانورامية للشتات اليمنيوقدمت الأعمال الروائية المدروسة صورة بانورامية لشتات المهاجرين اليمنيين في جنوب شرق آسيا وأفريقيا وأميركا وبريطانيا والسعودية وعن ترحال البعض منهم إلى أستراليا والكاريبي، حيث تتجلى أزمنة الهجرة اليمنية من بداية القرن الـ20 وحتى نهايته.
وتُبرز الدراسة مستويات متعددة من الريادة الجمالية في نموذجين: الأول في النص الروائي "يموتون غرباء" لمحمد عبد الولي، والآخر في النص الشعري "الغريب" لمحمد أنعم غالب، وريادة زمنية في رواية "فتاة قاروت" لأحمد عبد الله السقاف، ويظهر أن لهذه الأعمال تأثيرا على أعمال لحقتها لآخرين.
ويلاحق "الماضي" كل مهاجر في النص الأدبي يضغط عليه في هجرته، فيصير ثقيلا "على ظهور حامليه من المهاجرين الأشقياء" مثل صخرة أسطورية تارة أو مثل طيف يراد استعادته في صورة مثال مدمِّر أو أحلام تتبخر بعد أن تكون في متناول اليد.
البحر تيمة الهجرةلكن الدراسة تشير إلى أن بعض الأعمال السردية اليمنية التي عنيت بالهجرة التفتت إلى "مشكلة العبودية" كمعضلة اجتماعية كانت سائدة حتى الستينيات من القرن الماضي.
وتتمحور التمثيلات الرئيسية للهجرة وسماتها في النص الأدبي اليمني المعاصر في "البحر" بوصفه التيمة الأبرز للهجرة، سواء كان ممرا لانتقال المهاجر من مكان إلى آخر، أو مكان عمل حيث أغلب المهاجرين (في النصوص) ركبوا البحر أو عملوا على ظهر السفن كبحارة في الأغلب، ونادرا كصيادين.
وهناك أيضا "الأمية" التي كانت العنوان اللافت في التكوين المعرفي لمعظم المهاجرين في النصوص الأدبية، تظهر كسمة من سمات الهجرة، لكن الأميين استطاعوا اكتساب مهارات ومعارف ودراية بالبلدان وثقافات الشعوب التي هاجروا إليها، فصاروا يعيدون إنتاجها في حكايات يروونها هم أو يرويها غيرهم عنهم.
وثمة "الحلم"، حيث لكل مهاجر حلمه الخاص به، سواء العودة إلى الوطن أو غير ذلك، ناهيك عن محاولات التخلص من "الماضي" الذي يعد سمة رئيسية من سمات الهجرة، إما بالتخلص منه عبر محاولة التموضع خارج نسقه المؤلم أو استدعائه كطيف جميل في الذاكرة.
وفي مقاربته لـ4 نصوص قصصية من أعمال القاص زيد مطيع دماج اتخذت من موضوع الهجرة منطلقات للكتابة والمعالجات الجمالية ينوه الباحث بغنى التجربة القصصية لدى دماج، فهي "تعكس اعتراضاته على السائد من قيم متوارثة جهلا وتقييدا"، في ظل تغييب الوعي داخل المجتمع كمظهر للتخلف الذي بني على أساسه النظام والقوى التي تحكمت في السلطة باليمن قبل قيام الجمهورية.
وثمة موضوع مركزي طَرَق أسباب الهجرة عند شخصيات رواية "قرية البتول" لمحمد عبد الولي بكثير من المباشرة والقوة، مما عده الباحث "واحدة من دعامات دراسته"، حيث تعدد الشخصيات وقربها من بعضها وتماثلها في وضعها، فجميعها شخصيات "أمية" لا تقرأ ولا تكتب، كما أنها فقيرة تنتمي إلى طبقات العمال والفلاحين الريفيين.
وتلحظ الدراسة في تتبعها موضوع "الهجرة الجديدة والعبودية" في رواية "سالمين" لعمار باطويل حالات اندماج الشخصيات الرئيسية في مجتمع "جدة" الجديد رغم ماضي العبودية الذي يثقل كاهل بطل الرواية.
وفي "طيف ولاية" للروائية عزيزة عبد الله تتبع الدراسة ترحال المهاجر "ناجي" في رحلة البحث عمن تسبب بشقاء عائلته، وعودته محملا بخيبات كبرى مسترشدا بطيف حبيبته ولاية، حيث ترميزات النص ومحمولاته تفتح بابا إلى ثنائية الأنا والآخر.
"جحيم أميركا"ولم يكن المجتمع الأميركي بعيدا عن حياة المهاجرين اليمنيين ضمن قراءة "الهجرة الجديدة" كما تناولتها "أشياء خاصة" المجموعة القصصية لعبد الناصر مجلي، وتاليا في روايته "رجال الثلج"، حيث يصير الخارج جحيما مضاعفا.
ويبين الباحث أن الهجرة كمشكلة اجتماعية واقتصادية بتموضعها الزمني خلال القرن الـ20 قد اجتذبت أدباء معاصرين للكتابة عنها، مستلهمين أدوات تعبيرية وتقنيات كتابية جديدة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الهجرة القرن الـ20 فی النصوص فی النص
إقرأ أيضاً:
الدرديري.. كيف أنزلتم «عربان الشتات» من السماء؟
الدرديري.. كيف أنزلتم «عربان الشتات» من السماء؟
صلاح شعيب
هذا المقال لا يحاجي كثيراً حيثيات وزير الخارجية الإنقاذي الأسبق د. الدرديري محمد أحمد في ما سماه مخطط عربان الشتات لجعل السودان وطناً بديلاً لهم بمعاونة فرنسا، وقوى الحرية والتغيير، والإمارات العربية المتحدة، كما قال. وإنما يدور المقال حول الأسباب التي منعت قيام حركته الإسلامية بإيقاف هذا المخطط، وهو بهذه الخطورة التي أبانها الدرديري في كتاباته، وتسجيلاته الأخيرة. فالدكتور يدرك أن برلمان الحركة الإسلامية هو الذي قنن وجود الدعم السريع- لا قوى الحرية والتغيير- وأن البرهان سحب المادة خمسة- لا الدقير- وأن الشيخ عبد الحي يوسف- لا العلامة عبد المحمود أبو- هو الذي شكر الله لكونه أرسل الدعم السريع هديةً من السماء لفض اعتصام القيادة العامة. فضلاً عن ذلك فإن اللائي وصفن جنود الدعم السريع بالأشاوس هن نساء المؤتمر الوطني في احتفالهن بقاعة الصداقة، وليس نساء منظمات المجتمع المدني اللائي شاركن في إسقاط المشروع الحضاري. كل هذه الشواهد، وأخرى كثيرة، تنسف حجج الدرديري، وتجعله مجافٍ لتبيين الحقائق. ذلك حين عمل على تحميل وزر التآمر مع عرب الشتات على قوى الثورة، والتي لم توظف مليارات الدولارات لصنع المليشيات كما فعل المؤتمر الوطني، وما يزال الدرديري بالضرورة يعلم الآن أن هذا النهج الخبيث لزملائه في استنساخ المليشيات سائد إلى يوم الناس هذا. ولكن يسكت الدرديري الآن عن نقد إعادة إنتاج قوى عسكرية تحارب لصالح الجيش ما دام هذا الاتجاه الذي أوصلنا للحرب يخدم تنظيمه. ولعل الأستاذ الجامعي سيخرج يوماً للناس متأخراً ليقول بأن الحركات المسلحة الداعمة للجيش ليست سوى حركات لها أجندات جهوية إن لم تكن قبلية. فوزير الخارجية الأسبق كان مع نظامه يتحالفون مع روسيا للوقوف ضد إدانة الدعم السريع حينما كنا ننتقد انتهاكاته، وكانت أداة الدفاع الأولى للوزير الدرديري في الأمم المتحدة هو السفير دفع الله الحاج علي الذي استمات في تمثيل الدرديري في محاشاة النقد الذي وُجه للنظام السابق، وهو يوظف الدعم السريع لارتكاب جرائم أرادها ضد المدنيين. إن الدرديري بجانب القيام بأعباء هذا المنصب الذي يمثل خط الدفاع الأول إزاء المؤامرات المحاكة ضد تنظيمه كان أيضاً من المتنفذين الكبار القانونيين داخل النظام الذي رعى الدعم السريع بذرة حتى غدا شجرةً ليحقق تطلعات المخدم أولاً، وتجذير المخدمين أنفسهم في المشهدين السياسي والعسكري، ولاحقاً الاقتصادي. وذلك دون التبصر لانتقادات قوى الثورة لهذا النهج الذي رأت أنه يعقد مشكل البلاد. ولكن الدرديري آنذاك كان يرى في الدعم السريع الأداة التي تحمي المشروع الحضاري الخرب من جهة، وتقلم أظافر الثوار الذين يصوبون على حائط المدينة من الجهة الأخرى. الحقيقة أن مشكلة الإسلاميين كما نقول دائماً تتمثل في افتقادهم للصدق مع الله، وشعبهم، وأنفسهم، ومراهنتهم على إمكانية تغييب عقلية الشعب السوداني، ذلك برغم أن الوسائل التي يتخذونها لتمرير حججهم، وأكاذيبهم، لا يمكن أن تنطلي على ذهن الرأي العام السوداني المؤثر. فمسؤولية الدرديري وفقاً لوقائع الحال قد تقصرت آنذاك في إحاطة حزبه بتآمر عرب الشتات، وعندئذ يبقى لو أنه أخفى حقيقة وعيه بتآمرهم فإنه يغدو من الخائنين للتنظيم، والوطن معاً. وأما لو سكت بحجة أن الدعم السريع قد خلقه رئيسه البشير ليكون أداة باطشة توطن للاستبداد، فهنا تسقط حجج الدرديري الأخلاقية المطروحة الآن لرمي الآخرين بالداء لينسل. ذلك لأن انتهازيته منعته من كشف مخبوء التآمر على البلاد، ففضل الصمت حتى يترقى وزيراً يوماً. ولكل هذا يكون الوزير السابق مفارقاً للأمانة الدينية والعلمية والأخلاقية وهو يلقّي مسؤولية استشراء الدعم السريع في المشهد السوداني على قوى سياسية هي نفسها ضحية لاستبداد إسلاموي مدعوم بمليشياته. إن عقلية الدرديري التي تتكسب بتشويه الحقائق لا تختلف عن عقلية زملائه الذين كانوا أيام الحراك الثوري قد ركبوا الموجة، ولكن بهدف تشتيت أهدافها. إذ حاولوا تحميل أزمات البلاد للرئيس السابق عمر البشير، وليس الحركة الإسلامية. بل أنكر أحد الأكاديميين الإصلاحيين البدريين حقيقة انتماء البشير للحركة الإسلامية أصلاً. ذلك رغم أن الترابي في شهادته لقناة الجزيرة قال إن الجبهة الإسلامية القومية أرسلت للبشير عربة لتقلّه إلى الخرطوم قبل الانقلاب بيومين. سعي الدرديري لتحميل قوى الثورة مسؤولية الفشل الحربي لتنظيمه في القضاء على الدعم السريع لا يمثل إلا نوعاً من الكسل الذهني، والتهرب من نقد زملائه الذين دبروا لهذه الحرب. فتعليق المشجب على قوى الثورة لا يساعده في محو الحقيقة المعروفة، وهي أن من يسميهم عربان الشتات ليسوا كائنات فضائية هبطت من السماء. فهم سودانيون مهمشون موجودون في باديتهم القصية، إذ لا يملكون قبل الإنقاذ سلطة تخول لهم الاستحواذ على السلطة. ولكنه هو إجرام قادة الحركة الإسلامية الذين سعوا إلى تجنيدهم للدفاع عن السلطة الشمولية، بذات الكيفية التي أعاد بها الإسلاميون إنتاج تجنيد موسى هلال أثناء هذه الحرب، بيد أن قادته العسكريين أخذوا سلاح الجيش، ووقفوا مع أبناء عمومتهم. والدرديري كما نعلم كان يتابع هذا المشروع العرباني من أوله إلى آخره، ولم يفتح الله عليه أن ينبس ببنت شفة. والآن فقط اكتشف أن مشروع تقنين المؤتمر الوطني للدعم السريع في التربة السياسية ليس سوى مؤامرة من قوى الثورة بجانب آخرين لتغيير الطبيعة الديمغرافية لأرض الهجرتين، والتي استوعبت الدرديري كما استوعبت غالب السودانيين منذ أزمان سحيقة. إذن فلماذا استخدام خطاب الكراهية ضد أهله الممتدين على مستوى الحزام السوداني، والذين منعت الحكومات المتعاقبة حصولهم على فرص التعليم والتنمية ليتطوروا حتى يندمجوا في بنية المجتمع وتتوفر أمامهم فرص التوظيف، والتي أتيحت للدرديري لكونه إسلاموياً، وخادماً للنادي السياسي المركزي. أوليس الدرديري يعلم أن وضعية هؤلاء العربان تخلقت ضمن تفاعلات وتعقيدات علاقات الإنتاج التي تحتكرها السلط المهيمنة في البلاد. وهي التي قادت الدرديري لتسنم المنصب الذي لا يمكن أن يحوز عليه حفدة هؤلاء العربان في المستقبل إلا إذا استوت البلاد على هدى شعار حرية، سلام، وعدالة. إن مصطلح عربان الشتات – من جانب آخر – لا يقوم من الناحية العلمية على أساس معرفي غير أنه صادر عن ذهنية جاهلة تجلد ذاتها ثم تحمل مسؤولية أفراد من القبيلة على المجموع من قبائل، وهي كلها تعاني التهميش من نخب كل دول الحزام السوداني. بل ويوظفونها في صراعاتهم للإبقاء على ديكتاتوريات غليظة الطبع على مجمل سكان القطر. الدرديري كعادة الكيزان وظف – وهو القانوني المحاضر – شواهد هي الأخرى محل شك في صدقيتها لكونها منتجة بواسطة استخبارات نظامه الذي يغذي خطاب الكراهية، ويفتت وئام المجتمعات السودانية. وقد شاهدنا الدرديري يرفض تحميل د. عشاري محمد محمود قبيلته مسؤولية انتهاكات الدعم السريع، ويعده منتجاً لخطاب الكراهية بينما يسهل، ويجوز، له تحميل من يسميهم عربان الشتات كامل مسؤوليات انتهاكات الدعم السريع. وذلك هو عوج التعميم المخل الذي يبقي الخلاف مع مجموعة منهم هم من أبناء السودان، ولا يمثلون – عند ضرورة النظر لوضعهم قانونياً – غالبية هذا المكون الإثني في السودان، وخارجه. ولكنه الدرديري هنا يقع تحت ضغط مفاهيم مركزية توطنت بان كل عمل يقف وراءه أبناء غرب السودان ومناطق النزاع إنما هو مؤامرة عنصرية. وقد وقفنا على وصف مركز السلطة الديكتاتوريين لانقلاب حسن حسين ومذبحة قصر الضيافة ويوليو ١٩٧٦ وانقلاب فيليب غبوش والذراع الطويل للعدل والمساواة وربط حراك سبتمبر بالحركات المسلحة. في كل هذه الحركات المطلبية المسلحة يغدو المؤامرة التي تماثل مؤامرة الجنوبيين وأبناء مناطق النزاع الوصمة التي تقابلهم. والدرديري متعلم مطيع لهذه الشفرات العرقية التي تستخدمها الدولة لا بد، ولذلك يضحي بمن يجمعه معهم الرحم حتى يثبت إخلاصه لشروط النادي السياسي. وكذلك يتحايل الدرديري على هذا التناقض في حكمه فيخلص إلى توجيه رسالة للخلص من عربان الشتات ليلتزموا بما يرى. فإذا كان يوقن حقاً أن من بينهم الخُلص فما الذي لا يحمله على الاختلاف معهم كأبناء وطن مثلما يختلف السودانيون مع الرموز والقادة السياسيين للبلد دون أن يحملوا قومياتهم مسؤولية وزرهم، وهم ذات الجماعة الإثنية التي اعترف بها المؤتمر الوطني وجندها لخدمته. لكن يبدو أن الدرديري يقفز بعقله الإسلاموي المغرض فوق أدبيات الخلاف السوداني – السوداني، وبالتالي ينتقم من عربان الشتات بعقلية إسلاموية لكونهم “فقط” ساهموا في إنهاء المشروع الحضاري أكثر من كونهم يسعون لابتلاع كامل البلد، وتوطين أنفسهم فيها، أكثر مما وطنتهم وزارات داخلية الإسلاميين وحمتهم خارجيته، وسمسرت في بعثهم لليمن كسودانيين بأرقام وطنية، وليسوا كعربان شتات. كذلك فإنه من حيث أراد الدرديري الإساءة لهذه الجماعة الإثنية التي يعرف الدرديري وجود إداراتها الأهلية داخل البلاد فقد أساء لأبناء من عربان الشتات أنفسهم الذين يقفون الآن بجانب الدولة، ويقتتلون للزود عن حياضها. فنحن نعرف أن الدرديري نفسه هو منتج جيني لما يسميه عربان الشتات، وإن توفرت له ظروف اجتماعية محددة وصار دكتوراً، فإن درجته العلمية لا تلغي حقيقة أنه ابن الحزام السوداني، وهو ذات الحزام الذي يجمعه إثنياً مع هؤلاء العربان. وهم في الواقع لا يختلفون عن العرب الذين حاول الدرديري تمييزهم عن العربان بشكل لا يستقيم جينياً، أو لغوياً، أو لسانياً. فالعربان هم عرب على كل حال، ففيهم الطالح، وفيهم الصالح، اللهم إلا إذا كان الدرديري بسكه لهذا المصطلح ينوي عدم النظر إليهم كجماعة عرقية أوجدتها حكمة الله على امتداد الحزام السوداني ليندمج في دورة الوطنية من لقي الحظوة التعليمية والخدمية مثل الدرديري، ويلقي حتفه في جبال اليمن. ولو أن من الحكمة القول إن تعرض عرب الحزام السوداني للإهمال الحكومي في كل الدول التي ينتمون إليها مما يجب تعميق درسه، فهم أصلاً ضحايا الاستعمار، فهم كذلك ضحايا المناخ، والطبيعة من ناحية، وسلطات الاستبداد التي تستخدمهم لأداء الدور الارتزاقي في اليمن من ناحية أخرى. ومن ناحية ثالثة فهم بالكاد ضحايا النخبة المثقفة في هذه الأوطان التي لم تسع للاعتناء بهم تنموياً ضمن اعتنائها بمركباتها المجتمعية، وتوفير مناحي الصحة والتعليم في بواديهم حتى ينجحوا كما نجح الدرديري في تجاوز خيار العسكرية المتاح فقط أمام أبناء المسيرية الذين يقتتلون بعضهم بعضاً في جانب، وضد مكونات عرقية في وطنهم كما أرادت الدولة المركزية في الجانب الآخر. لم يكن الدرديري ليملك مسلكاً معرفياً في محاولته فذلكة مصطلح العربان ليربطهم فقهياً بمصطلح الأعراب الذي حمله مدلولات سالبة وفق بعض التفسيرات الدينية. ذلك إلا إذا كان الدرديري يريد بذلك تغذية خطاب الكراهية الذي رمى به عشاري، بحيث أن يحمل أهله عرب السودان، والنيجر، وتشاد، ومالي، مسؤولية أخطاء جسيمة مسؤولة عنها الحركة الإسلامية بدرجة أولى. وهي ذات التنظيم الذي صنع شعبة القبائل في جهاز الأمن لخلق الصراعات القبلية في عموم السودان حتى يستطيع الإسلاميون اختراق هذه القبائل، وتجييرها لصالح مشروعهم السياسي. إن الدرديري نفسه ضحية وعيه، فلا أسباب تحصيله العلمي، ولا القانوني، ولا الإنساني، أسعفته على مخاطبة جذور الأسباب التي مكنت من سماهم عربان الشتات في دعم الكيزان أولاً ثم منازلتهم بشراسة، ولا وجد منهجاً جامعاً يقارب به أزمة الوجود السوداني الذي سببه شبق النخب المركزية التي رأيناها تاريخياً تضرب المكونات المجتمعية للوطن بعضها بعضاً حتى يتيسر لها حيازة السلطة، والثروة، والنفوذ. فالفشل في مقاربة حقيقة عربان الشتات- بكل ذيولها المجتمعية المعقدة المنتجة عبر الظاهرة الاستعمارية للأوطان الأفريقية- يكمن في استمرار العقلية المركزية الانتهازية التي ورثها الإسلاميون، وطوروها لاستدامة عمر الأزمات في الدولة القطرية، عوضاً عن اجتراح منظور سياسي حديث يعالج الإشكالات التاريخية ببصارة العلوم السياسية الحديثة. ولكن أنى للدرديري، وبقية زملائه، التفكير في حل هذه الأزمات من خارج مربع الصندوق الأيديولوجي الذي يجعل من الدرديري نفسه، ونخب الهامش والمركز، أدوات طيعة للأوليغارشيا المركزية المتوطنة بأسباب الاجتماع، والاقتصاد، واستغلال الدين، ضمن تحالفاتها الطفيلية المحلية، والإقليمية، والدولية. اعتقد أن القراءة الجادة والعملية لحالة بروز الدعم السريع والحركات المسلحة والمليشيات المتحالفة معها في سطح الممارسة السياسية للمشروع الحضاري الطفيلي ستجوهر هذه الأجسام العسكرية كأعراض لأزمة وطنية أكثر من كونها مرتبطة بأحداث التاريخ، والذي يغير مجراه جدية الكاريزمات الفكرية والسياسية في مركز السلطة. ولذلك تبقى معالجة هذا المشكل المجتمعي من زاوية إبستيمية تأخذ بأسباب تعقيدات الظروف التاريخية والاجتماعية التي نشأت فيها عرب الحزام السوداني. إذ لا منجاة من استخدام الإطار المعرفي الأوسع الذي يبتعد عن عرقنة الصراع، والنظر إلى قضايانا المعقدة من هذه الزاوية الضيقة. ولكن الثقوب في معرفة الكادر الإسلاموي، وعجزه عن امتلاك أدوات معرفية، تقوده دائما إلى تفجيره الأزمات في الدولة القطرية السودانية، ومناطق أخرى من الكون. ولو فقد السلطة فإنه بكل خفة ذهنية يعمل على التهرب من أفعاله المنكرة ليرمي إخفاقه على الآخر الذي صنعه بعقله الشرير. فالدرديري مثقف القبيلة، والتنظيم، والسودان، المفترض فيه توظيف العلوم الإنسانية لبحث ظاهرة الدعم السريع لا يقوده صدقه إذا أعمله بجدة إلا لمراجعة جرم الذات، وكذلك خبل النظرية الفكرية التي اعتمد عليها تنظيمه في مقاربة القضايا السودانية. وعندئذ ستتمظهر له أن ما فعله الإسلام السياسي في أرض السودان جعله هو الأزمة، وليس الحل. ولكن من أين يتأتى للدرديري، وسائر الإسلاميين، إمكانية نقد ذواتهم بأمانة علمية، وجرأة فكرية، ومساءلة ضمائرهم الشريرة في تعميق مشاكل البلد التي أورثوها حتى طغى الدعم السريع على الجيش ميدانياً. الدرديري مما بدا بهذه المحاجة بحاجة إلى أن يفارق ضعفه الفكري، والأخلاقي، حتى لا يحمل فشل الإسلاميين في السلم والحرب على قوى ثورة ديسمبر ليقول بأنهم متآمرون مع عربان الشتات لتوطينهم في البلاد. ذلك لأن أحزاب قوى الثورة جميعها كانت تنتقد اعتماد نظام المؤتمر الوطني على الدعم السريع لترسيخ الشمولية، فيما كان الدرديري القانوني يصمت أثناء زهو الإسلاميين بسلطان الاستبداد، وتمرير برلمان حزبه الذي قنن وجود الدعم السريع، ووفر له الغطاء الاقتصادي، المحلي – جبل عامر، والإقليمي – حرب اليمن، ودولياً سمسروا به لدى الاتحاد الأوروبي لإيقاف الهجرة لأوروبا، وأكثر من ذلك بأن جعل مرؤوسو الدرديري الدعم السريع قادراً على حماية توزير الدرديري قبل أن تطيح الثورة الظافرة بكامل الوضع السياسي الذي فيه برز كقانوني، ودبلوماسي، وسياسي، خالٍ من القدرة على امتلاك العرفان الإنساني، والصدق الأخلاقي، لمراجعة تجربة سياسية قميئة أنتجت مليشياتها لصالح استبداد قاتل لا يماثله سوى فعل النازية.
suanajok@gmail.com
الوسومالإمارات الإنقاذ الدرديري محمد أحمد الدعم السريع السودان المؤتمر الوطني صلاح شعيب عربان الشتات فرنسا