تقارب عسكري مع إيران وعودة للإسلاميين.. نتائج عكسية للتدخل الإماراتي في حرب السودان
تاريخ النشر: 14th, February 2024 GMT
سلط المحلل السياسي، الفاضل إبراهيم، الضوء على التدخل الإماراتي الجاري في الحرب الداخلية بالسودان بين القوات المسلحة، بقيادة عبدالفتاح البرهان، ومليشيات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، مشيرا إلى أن إسناد أبوظبي للدعم السريع يأتي بنتائج عكسية تمثلت في دعم إيران للقوات المسلحة السودانية.
وذكر إبراهيم، في مقال نشره موقع "وورلد بوليتيكس ريفيو" وترجمه "الخليج الجديد"، أن الأسابيع القليلة الماضية شهدت هبوط طائرات شحن إيرانية في بورتسودان، وهي مقر الحكومة السودانية التي يقودها الجيش منذ سقوط العاصمة الخرطوم في يد الدعم السريع، وفي الشهر الماضي أسقطت قوات حميدتي طائرة إيرانية مسيرة كانت تديرها القوات المسلحة السودانية، مشيرا إلى أن كلا التطورين يؤكد الادعاءات بأن إعادة الحكومة السودانية الأخيرة العلاقات الدبلوماسية مع إيران كانت مصحوبة بدعم عسكري بالصراع الذي اندلع في أبريل/نيسان الماضي.
وأضاف أن السودان سبق أن قطع علاقاته مع إيران في عام 2016 بناء على طلب من السعودية، بعد أن هاجم متظاهرون إيرانيون البعثات الدبلوماسية السعودية في إيران، ولذا يمثل قراره بإعادة العلاقات مع طهران تحولا جذريا في إعادة تشكيل التحالفات التي تجريها الحكومة السودانية.
ويرسل هكذا تحول موجات لـ "صدمات جيوسياسية" في جميع أنحاء القرن الأفريقي، حيث كانت الإمارات اللاعب الخليجي الرئيسي على مدى السنوات العديدة الماضية، بحسب إبراهيم، الذي وصف ما يجري بأنه "نتيجة عكسية" لأهداف أبوظبي في السودان.
وتدهورت العلاقات بين السودان والإمارات في الأشهر الأخيرة بشكل كبير نتيجة لدعم أبو ظبي لقوات الدعم السريع، وفي يناير/كانون الثاني الماضي وصف ياسر عطا، الرجل الثاني في قيادة القوات المسلحة السودانية، الإمارات بأنها "دولة مافيا".
وفي تقرير أصدره الشهر الماضي، أكد فريق من خبراء الأمم المتحدة اتهامات الحكومة السودانية للإمارات بتسليح قوات الدعم السريع، ووصفها بأنها "ذات مصداقية"، ورغم أن الإمارات رفضت هذه الاتهامات، إلا أن تورطها في الصراع معترف به حتى من جانب واشنطن.
فقد كتبت مجموعة من أعضاء الكونجرس الأمريكي رسالة إلى وزير الخارجية الإماراتي الشيخ، عبدالله بن زايد آل نهيان، في ديسمبر/كانون الأول، يطلبون فيها من الإمارات "إنهاء دعمها لقوات الدعم السريع".
تغير استراتيجي
وتسلط تلك التوترات الضوء على مدى التغير الذي طرأ منذ عام 2019، عندما لعبت الإمارات دورا رئيسيا في تمهيد الطريق للإطاحة بالرئيس السوداني السابق، عمر البشير، ثم قامت برعاية المرحلة الانتقالية في مرحلة ما بعد البشير بشروط مواتية لتفضيلاتها ومصالحها.
وبعد سقوط البشير، بدأت الحكومة السودانية الانتقالية، التي قادها مدنيون وسارعت أبوظبي بتطوير العلاقات معها، في إعادة تشكيل العلاقات الخارجية للبلاد بطريقة تتفق مع مصالح الإمارات.
كما ساعدت أبو ظبي السودان على إعادة تأهيل مكانته مع واشنطن، التي واصلت تصنيف الخرطوم كداعمة للإرهاب، من خلال التوسط في الاتصال بين حكومة ما بعد الثورة السودانية والمسؤولين الأمريكيين بالإمارات في أواخر عام 2020.
اقرأ أيضاً
صحيفة فرنسية: نفوذ الإمارات بالسودان وإثيوبيا يتسبب بكوارث إنسانية
وفي يناير/كانون الثاني 2021، وقع وزير العدل السوداني آنذاك، نصرالدين عبدالباري، إعلان دعم لاتفاقيات إبراهيم نيابة عن الحكومة الانتقالية بحضور وزير الخزانة الأمريكي، ستيفن منوشين، لكن الحرب بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع اندلعت قبل أن يتم التوقيع الرسمي للسودان على اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل.
وكان حشد الدول العربية والإسلامية للتطبيع عنصرا حاسما في جهود الإمارات لاحتواء إيران، وفي إطار هذه الجهود عملت أبو ظبي جاهدة على تجميد نفوذ إيران في منطقتي البحر الأحمر والقرن الأفريقي، وفي المقابل عملت على توسيع نطاق نفوذها الخاص من خلال عقود إدارة الموانئ للشركات الإماراتية وكذلك من خلال القوة العسكرية الصارمة.
وفي السياق، تولت شركة موانئ دبي العالمية تطوير ميناء بربرة في أرض الصومال، وتقوم بإدارته الآن، وعلى الجانب الآخر من البحر الأحمر في اليمن، وبعد نشر قوات على الأرض لمحاربة الحوثيين المدعومين من إيران، "احتلت الإمارات جزيرتي ميون وسقطرى، ما منحها السيطرة على نقاط الاختناق البحرية الاستراتيجية في باب البحر: مضيق المندب وخليج عدن"، بحسب تعبير إبراهيم.
وفي ضوء ذلك، أثبت دعم الإمارات لقوات الدعم السريع أنه يأتي بنتائج عكسية، فمن خلال دفع القوات المسلحة السودانية إلى أحضان طهران، منحت أبوظبي إيران موطئ قدم في البحر الأحمر.
فصائل الإسلاميين
وفي الوقت نفسه، كان اندلاع الحرب بمثابة انتكاسة للحرب ضد الإسلام السياسي في السودان أيضًا، بحسب إبراهيم، مشيرا إلى أن حكومة الانقلاب، الذي نفذه البرهان وحميدتي قبل اختلافهما، أعادت العديد من الإسلاميين الذين تم فصلهم من مناصبهم، وداهمت مكاتب لجنة استرداد الأصول التي كانت تسترد الثروات المختلسة.
وبعد اندلاع القتال بين الشريكين السابقين في أبريل/نيسان، ندم حميدتي على مشاركته في الانقلاب، ووصفه في مقابلة أجريت معه مؤخراً بأنه "فخ" نصبه البرهان لإحياء الإسلاميين.
وفي حين أن تأطيره للحرب الأهلية باعتبارها معركة ضد "الإسلاميين المتطرفين" مبالغ فيه لتحقيق مصالح ذاتية، إلا أن الصراع أدى بالفعل إلى تغذية الاتجاه نحو تمكين الإسلاميين وتقويتهم داخل القوات المسلحة السودانية والحكومة، بحسب إبراهيم.
ففي يونيو/حزيران الماضي، على سبيل المثال، عيّن البرهان محمد أحمد حاج ماجد لقيادة جهود الحشد الشعبي لتعزيز قدرات القوات المسلحة، وفتح باب التجنيد أمام كل من يريد القتال ضد قوات الدعم السريع.
وكان ماجد مشاركاً متحمساً في "الجهاد" ضد المتمردين في جنوب السودان خلال الحرب الأهلية التي استمرت عقوداً في السودان، كما قاد منظمة "الشهيد"، وهي مؤسسة خيرية ترعاها الحكومة وتقوم بتوزيع الأموال على عائلات وأقارب المقاتلين الذين سقطوا في الحرب في الجنوب.
بالإضافة إلى ذلك، عادت الجماعات شبه العسكرية الأخرى ذات الميول الإسلامية إلى الظهور للقتال إلى جانب القوات المسلحة السودانية، بما في ذلك "لواء البراء بن مالك"، الذي يتكون من شباب إسلاميين مرتبطين بالحركة الإسلامية السودانية، وكذلك وحدة العمليات الخاصة، وهي جناح مسلح لجهاز المخابرات والأمن الوطني يهيمن عليه الإسلاميون والموالون لرئيس مخابرات البشير، صلاح قوش.
وكنت وحدة العمليات الخاصة قد جرى حلها بدعم من حميدتي بعد سقوط البشير، لكن البرهان أعاد تشكيلها للحرب ضد قوات الدعم السريع.
اقرأ أيضاً
صراعات شرق أفريقيا.. نفوذ الإمارات يشعل الحرائق بالسودان والصومال
وإزاء ذلك، أثبت رهان الإمارات على قوات الدعم السريع أنه كان بمثابة "سوء تقدير خطير"، بحسب تعبير إبراهيم، فعلى الرغم من أن قوات حميدتي هي المهيمنة عسكرياً منذ اندلاع القتال قبل 10 أشهر، إلا أن عدم قدرتها على تعزيز الدولة في المناطق الخاضعة لسيطرتها يمثل حجر عثرة رئيسي أمام قدرتها على البقاء كبديل إماراتي على المدى الطويل.
فرسوم العبور من النفط المنتج في جنوب السودان ويتدفق إلى محطات التصدير على البحر الأحمر في حسابات تسيطر عليها الحكومة العسكرية، كما انتقل البنك المركزي ووزارات الحكومة والبعثات الدبلوماسية الأجنبية إلى بورتسودان بعد سقوط الخرطوم في أيدي قوات الدعم السريع، التي لم تقم بإنشاء أي مؤسسات موازية في المناطق الخاضعة لسيطرتها بعد.
وبغض النظر عن التمويل، فإن قوات الدعم السريع تفتقر إلى المعرفة بمجال الحوكمة وتعاني من "قيادة وسيطرة مشكوك فيهما"، كما أن جنودها شاركوا في عمليات نهب وحشية للمنازل والبنوك والمصانع وجميع البنية التحتية الإنتاجية في المناطق الخاضعة لسيطرتها.
وفي الأيام الأولى للحرب، أطلق جنود قوات الدعم السريع النار على القوافل الدبلوماسية التي كانت تقوم بإخلاء البلاد، وهاجمت سفير الاتحاد الأوروبي لدى السودان، إيدان أوهارا، في منزله، وأينما سيطرت على مكان عانى المدنون من سلوكها فيه، كما يتضح من النزوح الجماعي للسكان الذي يحدث في أي وقت تستولي فيه على أراض جديدة.
وإضافة لذلك، لا يتمتع حميدتي بأي من المزايا التنافسية التي يمتلكها الوكلاء المدعومين من الإمارات في مناطق الصراع الأخرى، إذ يسيطر وكيل الإمارات في ليبيا، خليفة حفتر، على مساحات واسعة من الأراضي المنتجة للنفط في البلاد، ما سمح له ببناء دولة داخل الدولة، وبالمثل، تمكن عيدروس الزبيدي، رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن، من إعادة توجيه الضرائب والرسوم الجمركية التي تم جمعها من الموانئ ومصفاة عدن بعيداً عن الحسابات التي تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دوليا.
وعلى النقيض من ذلك، تهيمن قوات الدعم السريع على منطقة غير ساحلية في السودان حيث أدى القتال بلا هوادة إلى تدمير كل مؤسسة يمكنها دعم الدولة.
ورغم أن حميدتي يتمتع بدعم ناعم من تحالف القادة السياسيين المدنيين في السودان، إلا أن هؤلاء القادة لم تطأ أقدامهم البلاد منذ مغادرتهم بعد بدء الحرب، كما يُنظر إليهم الآن على أنهم أعداء للدولة بسبب تواصلهم مع حميدتي.
ويخلص إبراهيم إلى أنه "من دون اتفاق لتقاسم السلطة مع القوات المسلحة السودانية أو تحقيق انتصار عسكري كاسح، لن تتمكن قوات الدعم السريع من تحويل نفسها إلى دولة عميلة للإمارات مكتفية ذاتيا، كما فعل حلفاء أبوظبي في اليمن وليبيا. ولا يمكنها إلا أن تشن تمردًا طويل الأمد من شأنه أن يزيد من معاناة السكان المدنيين، فضلاً عن إدامة الضرر الذي تتعرض له سمعة الإمارات بالفعل بسبب دورها في الحرب".
اقرأ أيضاً
مندوب السودان الأممي: الإمارات تدعم عدوان الدعم السريع بالأسلحة والمرتزقة
المصدر | الفاضل إبراهيم/وورلد بوليتيكس ريفيو - ترجمة وتحرير الخليج الجديدالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: الإمارات السودان عبدالفتاح البرهان حميدتي القرن الأفريقي الدعم السريع البحر الأحمر القوات المسلحة السودانیة الحکومة السودانیة قوات الدعم السریع البحر الأحمر الإمارات فی فی السودان من خلال إلى أن إلا أن
إقرأ أيضاً:
نداء للتدخل العاجل: سد جبل أولياء، قنبلة موقوتة في السودان
أمجد فريد الطيب
سد جبل أولياء، الواقع على النيل الأبيض في السودان، هو أحد المكونات الحيوية التاريخية للبنية التحتية الوطنية في البلاد. تم إنشاء السد عام 1937 خلال فترة الاستعمار الإنجليزي-المصري بهدف أساسي يتمثل في تنظيم تدفق مياه النيل الأبيض وتوفير المياه للمشاريع الزراعية الواقعة على مجرى النيل. يقع السد على بُعد حوالي 40 كيلومترًا جنوب الخرطوم، ويُعد منشأة متعددة الأغراض تؤدي دورًا محوريًا في أنظمة الري، والتحكم في الفيضانات، وتوليد الطاقة الكهرومائية. كما أصبح السد مع مرور الوقت أداة استراتيجية لإدارة الموارد المائية وتأمين الأمن القومي للسودان. منذ اندلاع الحرب السودانية في أبريل 2023، ظلت منطقة سد جبل أولياء والمناطق المحيطة به تحت سيطرة مليشيا قوات الدعم السريع.
ارتفاع مستويات المياه الموسمية والوضع الحالي
في هذا الوقت من العام (أكتوبر – ديسمبر)، تشهد مياه النيل الأبيض ارتفاعًا ملحوظًا في منسوبها نتيجة هطول الأمطار الموسمية في المناطق العليا من حوض النهر، لا سيما في شرق إفريقيا خلال ما يُعرف بـ "موسم الأمطار القصيرة". تُسهم الأمطار الغزيرة، وبطء وهدوء تدفق مياه النيل الأبيض، في تراكم المياه في مجرى النيل الأبيض. في الظروف الطبيعية السابقة للحرب، كان يتم إدارة هذه التدفقات عبر بوابات السد لتجنب الفيضان في المناطق السفلى. ولكن احداث الحرب الحالية في البلاد قد أدت إلى تعطيل هذه الوظيفة الحيوية.
ولسوء الحظ، ففي هذا العام تحديدًا، سجلت بحيرة فيكتوريا وغيرها من المصادر العليا للنيل الأبيض، بما في ذلك بحيرة ألبرت ومستنقعات بحر الجبل في جنوب السودان، معدلات هطول أمطار غير مسبوقة. بلغت كمية الأمطار في نوفمبر 2024 في بحيرة فيكتوريا أكثر من 200 ملم، وهي مستويات تفوق بشكل كبير المعدلات السنوية المعتادة. كما وصلت مستويات المياه في بحيرة ألبرت إلى أعلى القيم المُسجلة في التاريخ الحديث.
تشير البيانات المناخية إلى أن معدل هطول الأمطار في حوض بحيرة فيكتوريا كان أعلى بنسبة 20% من المتوسط التاريخي، وذلك نتيجة لأنماط الطقس المتبدلة الناتجة عن تغير المناخ وتأثيرات الاحتباس الحراري. أدى هذا الارتفاع في كميات الأمطار إلى زيادة تدفق مياه النيل الأبيض، مما شكل ضغطًا إضافيًا على سعته مع تدفقه نحو المناطق السفلى. وبسبب توقف العمليات الروتينية في سد جبل أولياء، أصبحت كميات المياه المرتفعة تفوق طاقة النظام الطبيعي للتدفق، مما فاقم من خطر حدوث فيضانات واسعة النطاق في المناطق الواقعة شمال وجنوب السد.
تداعيات سيطرة قوات الدعم السريع على السد
منذ اندلاع النزاع في أبريل 2023، سيطرت مليشيا قوات الدعم السريع على سد جبل أولياء واستخدمته كقاعدة عسكرية وجسر لعبور النيل الأبيض، كونه يوفر لها وسيلة لربط مواقعها على الضفتين وتأمين خطوط الإمداد إلى المناطق التي تسيطر عليها في ولاية الجزيرة. أدى إغلاق بوابات السد من قِبَل قوات الدعم السريع إلى تفاقم ارتفاع منسوب المياه، وهو ما تسبب حالياً في غمر مساحات شاسعة في ولاية النيل الأبيض الواقعة جنوب السد. شملت الفيضانات الجزيرة أبا، بما تسبب في نزوح آلاف السكان، بالإضافة إلى إغراق أكثر من 80% من الأراضي المزروعة وتدهور الظروف البيئية والصحية. هذه الخطوة من قبل المليشيا، سواء كانت مقصودة بشكل استراتيجي أو نتيجة إهمال، أدت إلى تراكم المياه في المناطق العليا، مما زاد من احتمالية حدوث فيضانات كارثية.
تأثير الغارات الجوية للجيش السوداني على سلامة السد
شنت القوات الجوية السودانية سلسلة من الغارات الجوية على مواقع سيطرة مليشيا قوات الدعم السريع في محيط السد منذ اندلاع النزاع. وعلى الرغم من أن هذه الهجمات تهدف إلى إضعاف سيطرة الميليشيا، إلا أنها تُشكل تهديدًا كبيرًا للسلامة الهيكلية للسد، الذي يُعد منشأة قديمة. أي ضرر يلحق بالسد قد يؤدي إلى إطلاق كميات هائلة من المياه بشكل غير مُتحكم به، مما يتسبب في فيضانات مدمرة تُهدد حياة الآلاف وممتلكاتهم. حتى انهيار جزئي للسد قد يُنتج موجة من المياه تُحدث دمارًا يمتد إلى أم درمان، والخرطوم، والمناطق الشمالية من السودان.
المخاطر الإنسانية الناجمة عن الوضع الحالي
التدهور المتزايد في سلامة السد، نتيجة زيادة الضغط الهيدروستاتيكي بالإضافة الي تضرر بنيته الإنشائية، قد يؤدي شروخ او انهيارات تفضي إلى إطلاق كميات كبيرة من المياه نحو المناطق السفلى. كما أن ارتفاع مستوى الخزان قد يؤدي إلى تجاوز المياه لذروة السد، مما يُسفر عن تدفقات مائية ضخمة غير مُتحكم بها.
يفرض هذا الوضع مخاطر شديدة ذات تأثير كارثي:
1. فيضانات واسعة النطاق: المناطق الواقعة شمال السد، بما في ذلك أم درمان والخرطوم وولاية نهر النيل والعديد من الجزر في النيل، معرضة لخطر الفيضان بشكل كبير. وسيؤدي غمر الأراضي السكنية والزراعية إلى نزوح الآلاف.
2. الأزمة الإنسانية: تشير التقديرات الأولية إلى أن أكثر من مليون شخص قد يتأثرون بشكل مباشر بالفيضان في حالة انهيار السد، وسيمتد التأثير ليشمل عشرات الآلاف بشكل غير مباشر بسبب تدمير البنية التحتية والمنازل وسبل العيش الزراعية. غالبية هؤلاء الضحايا هم بالفعل من مجتمعات النازحين بسبب الحرب الذين يعيشون بالفعل في ظروف معيشية هشة.
3. الوضع في ولاية النيل الأبيض: تعاني مناطق مثل جزيرة أبا وغيرها من المناطق في ولاية النيل الأبيض بالفعل من الفيضانات. وقد أجبر هذا العديد من السكان على النزوح، مما أضاف إلى العدد المتزايد من النازحين داخليًا في السودان، المثقلين بالفعل بعواقب الحرب.
4. أزمة الصحة العامة: ستؤدي مياه الفيضانات المتوقعة إلى تلويث إمدادات المياه، ونشر الأمراض المنقولة بالمياه مثل الكوليرا والإسهالات بالإضافة الي الملاريا، والتي تنتشر بالفعل في السودان حاليًا، مما يؤدي إلى تفاقم الضغوط على نظام الرعاية الصحية المتعثر في السودان، والذي أعاقت الحرب أكثر من 70٪ من قدرته التشغيلية. وعلاوة على ذلك، فإن الركود المطول للمياه يخلق ظروفًا مواتية لانتشار المزيد من الأمراض المنقولة بالنواقل.
5. التأثير على المدى الطويل: ستؤدي القوة الهائلة لاندفاع المياه أيضًا إلى تآكل التربة وتدهور الأراضي على المدى الطويل. سيكون لتدمير المحاصيل وأنظمة الري ومصائد الأسماك تأثير طويل، وكذلك تدمير طرق نقل رئيسية والبنية الأساسية للاتصالات. كما ان دمار السد نفسه، والذي هو أحد أصول البنية الأساسية للاقتصاد الوطني السوداني منذ ما قبل الاستقلال، سيكون في حد ذاته خسارة فادحة.
ما العمل: نداء عاجل لمعالجة الوضع
في ظل هذه الظروف الحرجة، تبرز الحاجة الملحة لأن تُولي الأطراف المتنازعة، القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، أولوية للسلامة الوطنية على مخططاتها العسكرية. ونظرًا لخطورة الوضع، فإن من الضروري توفير وصول فوري ومن دون عوائق لفرق تقنية هندسية محايدة للوصول الي السد، بحيث تقوم بتقييم السلامة الهيكلية للسد، وإدارة مستويات المياه، ومعالجة أي نقاط ضعف محتملة قد تؤدي إلى عواقب كارثية. ويجب منح هذه الفرق الضمانات الكافية لسلامتها لإجراء تقييمات شاملة، وتنفيذ الإصلاحات الضرورية، والأهم من ذلك إعادة فتح بوابات السد لتنظيم تدفق المياه.
اللجنة الدولية للصليب الأحمر هي الجهة الأنسب لتنسيق هذا الجهد والقيام بهذه المبادرة. بصفتها الراعية لاتفاقيات جنيف، ينبغي على اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن تضطلع بدور محوري في تسهيل الدخول الآمن للفرق التقنية والهندسية والإشراف على عمليات الصيانة اللازمة. توفر اتفاقيات جنيف الإطار القانوني لهذا التدخل، حيث تنص المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول وكذلك المادة 70 على حماية السدود باعتبارها بنية تحتية مدنية أساسية، إضافة إلى ضمان الوصول إلى هذه المنشآت لإجراء التقييمات والإصلاحات الضرورية كجزء من الإغاثة الإنسانية. كما ينص البروتوكول الإضافي الثاني من معاهدات جنيف، والمعني بالنزاعات المسلحة غير الدولية، في المادة 14 على حماية المنشآت الحيوية اللازمة لبقاء السكان، بما في ذلك السدود، ويحظر تدميرها إلا في حالات الضرورة العسكرية القصوى. هذه الأحكام القانونية تُعطي اللجنة الدولية للصليب الأحمر الأساس الشرعي للتدخل عند تعرُّض البنية التحتية المدنية للخطر بسبب النزاع.
إن اتخاذ هذه الخطوة أمر بالغ الأهمية لمنع مزيد من الفيضانات وتجنب الانهيار المحتمل للسد، مما قد يُسفر عن كارثة إنسانية ذات أبعاد مدمرة أكثر شناعة.
دعوة لمنع الكارثة: الحاجة إلى تدخل دولي راشد
إن الاهتمام الدولي بالوضع الكارثي حول سد جبل أولياء ليس مجرد ضرورة، بل هو اولوية ملحة يجب أن تُترجم إلى إجراءات ملموسة بدلاً من الاكتفاء بتصريحات جوفاء. هذه الأزمة ليست فقط نتاج النزاع الداخلي المستمر، لكنها أيضًا نتيجة للتأثيرات المدمرة للاحتباس الحراري وهي ظاهرة لا يتحمل السودان وشعبه إلا نسبة 0.06% من مسبباتها العالمية. إنه لمن الظلم البالغ وغير المقبول أن تتحمل دولة ذات مساهمة ضئيلة إلى هذا الحد في تغير المناخ عواقب شديدة وغير متناسبة بهذا الشكل في ظل ظروف تعوق قدرتها الوطنية على التصدي لها.
يجب على المجتمع الدولي أن يتحرك فورًا، مستندًا إلى مبدأ "مسؤولية الحماية" (R2P) بصورته الأكثر نقاءً وأخلاقية، لتفويض تدخل عاجل يهدف إلى حماية الوضع في سد جبل أولياء ومنعه من التفاقم. لقد تم صياغة هذا المبدأ لتكون حماية الإنسانية فوق المصالح السياسية، وليُمثل التزامًا عالميًا لمنع المعاناة الإنسانية والتخفيف منها. ولكن مع ذلك، وفي حالة السودان، أدى التسييس المتزايد لجهود الإغاثة والتدخلات الانسانية إلى تأخير التدخل الفعّال وزاد من تفاقم الظروف الكارثية على أرض الواقع. إن الوقت الحالي أكثر أهمية من أي وقت مضى لتتخلى الأطراف الدولية عن أجنداتها السياسية وتُركز على الواجب الأخلاقي والقانوني لمنع كارثة إنسانية، وهي كارثة ساهموا جزئيًا في تفاقمها من خلال تقاعسهم وتأثيرهم البيئي.
إن تدهور الأوضاع المتعلقة بسد جبل أولياء يشكل نقطة توتر حاسمة تهدد أرواح العديد من الابرياء، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. إن الإخفاق العالمي في مخاطبة هذه الكارثة بشكل وقائي يعرض الوضع الكارثي الحالي للتفاقم، وهو ما سيترتب عليه آثار سلبية ممتدة. ومن الضروري أن تكون هذه التدخلات إنسانية ومحايدة وملتزمة بالمبادئ، تستند إلى القانون الدولي، بهدف العمل على استقرار حالة السد، وحماية الأرواح البشرية، والحد من المخاطر المتزايدة التي تسببت فيها النزاعات المستمرة والتدهور البيئي.
إن هذه الكتابة ليست مجرد مناشدة للمساعدة؛ بل هي مطلب للعدالة والمحاسبة. يجب على المجتمع الدولي أن يعترف بمسؤوليته المشتركة في الأسباب الجذرية لهذه الازمة ومشاركته في التسبب في عواقبها. يجب أن تكون التحركات لإنقاذ هذا الوضع سريعة وحاسمة، وأن تسترشد بالقيم الإنسانية والعدالة. وأي تقاعس عن ذلك سيكون خيانة للمبادئ التي بُني عليها القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان.
يجب على الأطراف المتحاربة والمجتمع الدولي أن يتصرفوا بسرعة لمنع سد جبل أولياء من أن يصبح رمزًا للإهمال في وطن مزقته الحروب.
amjedfarid@gmail.com