يبدأ وعي الطفل الوليد ونموه العاطفي بالتشكل منذ اللحظات الأولى من تفاعله مع الأم، فيطور مشاعره وأحاسيسه كل يوم، من خلال التواصل وجرعات الحنان التي يتلقاها بشكل مستمر ومنتظم، والتي يكون لها تأثير إيجابي دائم على نموه وصحته العقلية والمزاجية.

ومع ذلك، قد تفرض ظروف معينة وجود مسافة عاطفية بين الأم والطفل، تجعل الأخير يعاني من نقص الدفء والترابط والشعور بالإبعاد العاطفي من قبل الأم، وقد يكون ذلك الشعور حقيقيا بسبب إصابة الأم بما يعرف باسم "متلازمة الأم الباردة".

ما متلازمة "الأم الباردة"

في أربعينيات القرن الماضي، وعندما كان الطبيب النفسي النمساوي ليو كانر، يحاول استكشاف اضطراب "التوحد" لدى الأطفال، قابل أمهات ينتمين إلى الطبقات العليا من المجتمع ممن تعاملن مع أطفالهن بتحفظ وبرود. وعلى الرغم من اعتقاد كانر أن مرض التوحد فطري لدى الطفل، فإنه، ربط بين الجمود العاطفي الذي ظهر من جانب أمهات مرضاه، وافترض أن ذلك النوع من التعامل يفاقم المرض، وقام بصياغة مصطلح "الأم الباردة" وربط بينه وبين التوحد لدى الأطفال.

بقي ذلك الوصم يلاحق الأمهات لسنوات، باعتبار أن "الأم الباردة" التي تظهر مسافة عاطفية، ونقصا في المودة، وقدرة محدودة على الاستجابة لاحتياجات طفلها العاطفية، تسهم في تفاقم مرض التوحد لدى طفلها.

بعد نحو 20 عاما من تشخيص كانر، فكك الطبيب النفسي برنارد ريملاند، مدير معهد أبحاث التوحد في الولايات المتحدة، النظرية السابقة، وغير تلك الفرضية حول جذور مرض التوحد وارتباطه بـ"الأم الباردة". وكان لتشخيص ابنه البكر مارك بالتوحد، الفضل في بحث ريملاند المستمر عن أسباب المرض وماهيته، وتبرئة "الأم الباردة" من الضلوع في إصابة طفلها بالتوحد.

ومع ذلك، قالت الطبيبة النفسية البريطانية ليليا كوارلو، إن رفض الأم -بما يشمل مختلف التصرفات والسلوكيات التي تنقل رسالة اللامبالاة تجاه الطفل، أوعدم التوفر العاطفي والإهمال والنقد القاسي- يمكن أن يكون له تأثير عميق على النمو النفسي للطفل والشعور بالذات، والقدرة على إقامة علاقات صحية.

وأوضحت ليليا في تقرير نشره الموقع الطبي "الخدمات النفسية للمدينة"، أن العديد من العوامل المختلفة والمؤلمة قد تسهم في تطور متلازمة "الأم الباردة".

الأسباب

توصلت ليليا إلى تحديد أسباب مشتركة لدى الأمهات اللاتي يعانين من متلازمة "الأم الباردة"، من تلك الأسباب:

صدمة من الماضي: إذا تعرضت الأم للإساءة أو الإهمال عندما كانت طفلة، فقد يؤثر ذلك على قدرتها على منح أطفالها الدفء العاطفي والدعم. مشاكل في الصحة العقلية: قد يكون من الصعب على الأمهات تطوير روابط عاطفية عميقة مع أطفالهن إذا كن يعانين من الاكتئاب أو القلق أو مشاكل الصحة العقلية الأخرى. الحمل غير المتوقع: في بعض الأحيان قد لا تكون الأم قد خططت لإنجاب طفل أو لم تكن مستعدة للأمومة، مما يمكن أن يؤثر بشكل كبير على صحتها العقلية، مما ينعكس بدوره على العلاقة التي تربطها بطفلها. الاختيار الخاطىء لأسلوب التربية: قد تختار بعض الأمهات أسلوبا أكثر تشددا في التربية، والتركيز على الانضباط بدلا من التواصل العاطفي، على اعتبار أن الشدة تصنع طفلا قويا مستقلا ومعتمدا على ذاته. الإرهاق المستمر: يمكن أن تؤدي الضغوطات وشعور الأم بالإرهاق والانفصال عن احتياجاتها إلى البرود العاطفي مع احتياجات طفلها. الحزن: يمكن أن يتطور الحزن إلى متلازمة الأم الباردة، خاصة إذا كان الحزن طويلا أو معقدا. في بعض الأحيان، يمكن أن يؤدي الحزن إلى جمود الاستجابة العاطفية، مما يولد شعورا بالبرود وعدم الاهتمام والتواجد العاطفي. سمات "الأم الباردة"

على الرغم من أن الأمهات اللاتي يعانين من متلازمة "الأم الباردة" لسن قوالب موحدة، فإن الطبيبة النفسية أفيغيل ليف، ذكرت في تقرير طبي على موقع "النفسية المركزية" عددا من السمات الرئيسية المشتركة بينهن:

النقد المستمر: تشير تلك الأم باستمرار إلى النقص والصفات السلبية لدى الطفل. توقعات غير واقعية: تضع معايير غير معقولة للطفل وتطالبه ببلوغها، وتتوقع منه الكمال. الغياب: قد تكون غير حاضرة جسديا أو عاطفيا، وتبدو دائما مشغولة ومشتتة أثناء التفاعل مع الطفل. الشك: تشكك دائما في نوايا الطفل وأفعاله. التناقض: قد يتأرجح سلوكها بين كونها متاحة بشدة ومحبة وداعمة في أوقات، وبعيدة ومنتقدة في أحيان أخرى. التقويض: السيطرة على خيارات الطفل وقراراته الحياتية أو السخرية منها. التجنب العاطفي: تجد الأم صعوبة في التعبير عن المشاعر الشديدة لطفلها أو تقبلها منه. كيف يتأثر الطفل بالغياب العاطفي؟

تترك الأمومة الباردة آثارا كبيرة على نمو عقل الطفل ونفسيته. من تلك التأثيرات:

انخفاض مستويات الثقة في النفس واحترام الذات. نقص الذكاء العاطفي. عدم القدرة على الراحة أو التحكم في المشاعر. عدم القدرة على تهدئة النفس. مشاكل في العلاقات الإنسانية والعاطفية، وعدم القدرة على بناء علاقات صحية والحفاظ عليها. لوم النفس والخجل. التعلق غير الآمن بالأشخاص. التنمر واستخدام العنف اللفظي أو الجسدي مع الآخرين. هل يمكن علاج "الأم الباردة"؟

يعد علاج متلازمة الأم الباردة أمرا غاية في الصعوبة، لكنه ليس مستحيلا. إذ يمكن لإدراك الأم لمشكلتها، ورغبتها في التغيير من تلقاء نفسها أن يكون الدافع الأول والأقوى للشفاء من تلك المتلازمة.

ومن الضروري الجمع بين الاستشارة الطبية الأساسية والعلاج الأسري وتعلم مهارات التنظيم العاطفي والتعامل مع الآخرين وذلك من خلال عدة خطوات:

تخصيص وقت للنفس للقيام بأشياء تجلب السعادة وتساعد على الاسترخاء، مثل القراءة، أو التنزه في الطبيعة، أو ممارسة هواية ما. إعطاء الأولوية لأنشطة الرعاية الذاتية كالحصول على قسط كاف من النوم، وتناول وجبات مغذية، وممارسة التمارين الرياضية بانتظام. إحاطة النفس بالمؤثرات الإيجابية، كأصدقاء أو أفراد العائلة أو مجموعات دعم، ومشاركة الخبرات معهم. التعاطف مع الذات. ممارسة أنشطة محببة مع الطفل، كاللعب أو القراءة أو السباحة أو الرسم. تقسيم مهام رعاية الطفل والبيت مع الزوج وطلب المساعدة من أفراد العائلة. الحصول على ذكريات لطيفة مع الطفل والتقاط الصور المشتركة معه، ومشاهدتها من حين لآخر. العلاج و الاستشارة، ويعني طلب المساعدة المهنية من المتخصصين للمساعدة في التعامل مع المشاعر وتطوير إستراتيجيات التكيف الصحية، ومعالجة آثار صدمات الماضي. ممارسة التأمل أو تمارين التنفس العميق لتهدئة العقل وتقليل القلق.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: یمکن أن

إقرأ أيضاً:

معدلات عالمية مقلقة تضع التوحد بين أهم مشاكل الطفولة

قالت دراسة جديدة إن 1 من كل 127 فرداً في جميع أنحاء العالم في عام 2021 كان مصاباً بالتوحد، ما يضع طيف التوحد ضمن الأسباب الـ 10 الأولى للعبء الصحي غير المميت للأطفال والمراهقين الذين تقل أعمارهم عن 20 عاماً.

وقدّرت الدراسة التي نشرت في مجلة "لانسيت" أن ما يقرب من 62 مليون شخص في عام 2021 كانوا مصابين باضطراب طيف التوحد.

وتُظهر هذه الأرقام مدى أهمية تشخيص التوحد في وقت مبكر من حياة الطفل، حتى يتمكن من تلقي العلاج الذي سيساعده طوال فترة حياته.

وأشار فريق البحث من معهد جامعة واشنطن لقياسات الصحة إلى ضرورة "معالجة ليس فقط احتياجات الأطفال والمراهقين المصابين بالتوحد، ولكن أيضًا احتياجات البالغين، الذين غالباً ما يظلون ممثلين تمثيلاً ناقصاً في البحث وتقديم الخدمات".

وبحسب "هيلث داي"، جمع الباحثون بيانات من 105 دراسات حول معدلات التوحد في 33 دولة.

ووجد الباحثون أن معدلات التوحد زادت بشكل كبير، إلى 1 من كل 127 شخصاً في عام 2021، مقارنة بـ 1 من كل 271 في عام 2019.

لكنهم قالوا إن هذه الزيادة تعزى بشكل أساسي إلى التغييرات في طريقة اكتشاف التوحد وتقديره.

وأشار الباحثون إلى أن المعدل أعلى بكثير حتى من تقديرات مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها الحالية التي تبلغ 1 من كل 36 طفلاً.

كما لفت الباحثون الانتباه إلى أن التوحد أكثر شيوعاً بنحو 4 مرات بين الصبيان مقارنة بالفتيات.

مقالات مشابهة

  • معدلات عالمية مقلقة تضع التوحد بين أهم مشاكل الطفولة
  • ما هو العمر المثالي لإطعام الرضع؟.. «تجنبا لإصابتهم بأمراض خطيرة»
  • ما أسباب انتشار التوحد بعصرنا الحالي؟ وما أعراضه وكيف يمكن علاجه؟
  • من مسلسل “ساعته وتاريخه”.. 7 علامات تدل على متلازمة الجشع| خفايا الشخصيات
  • «صحة البحيرة» توضح 5 فوائد للولادة الطبيعية للأطفال.. تقي من الإصابة بالربو
  • مصادر لـ"اليوم".. مشروع وطني لوقف انتقال 3 أمراض خطيرة من الأمهات إلى الأطفال
  • غارديان: أطفال غزة عاجزون عن النوم والكلام جراء صدمات الحرب
  • فايز السعيد يطلق جديده العاطفي "على طاري الشتا" في برنامج "إكس فاكتور دبي"
  • حوارية نقدية لرواية ” قطة فوق صفيح ساخن “
  • أم بريطانية تترك طفلها في حديقة مع الحيوانات.. «تحول لونه إلى الأزرق»