تحديات الفجوتين المعرفية والرقمية

د. إبراهيم بن عبدالله الرحبي **

المقالات الستة السابقة قدمت استعراضًا لأهم الأدبيات والشواهد التجريبية التي تتناول مفهوم والمرتكزات الأربعة للاقتصاد القائم على المعرفة ودورها في تحقيق التنمية المُستدامة، كما تمَّ بيان مدى جاهزية سلطنة عُمان في هذه المرتكزات والمؤشرات الداعمة لخيار الاقتصاد القائم على المعرفة على ضوء تبني رؤية "عُمان 2040".

وأوضحت نتائج مقارنة مؤشرات أولويات ومستهدفات رؤية عُمان 2040 بمرتكزات ومؤشرات اقتصاد المعرفة إلى وجود فرص حقيقية للأخذ بهذا الخيار. ذلك أن اقتصاد المعرفة لا يساهم فقط في إمكانية زيادة الاستفادة القصوى من العمر الإنتاجي للموارد الطبيعية والاقتصادية المتاحة بشكل كبير من خلال تراكم المعرفة واستخداماتها الفعالة، ولكنه يوفر أيضًا فرصًا جديدة حقيقية وممكنة لتحقيق تنمية اقتصادية سريعة ومستدامة. وهو ما تؤكده الأدبيات والتجارب الدولية حول وجود علاقة إيجابية بين النمو الاقتصادي المستدام وبين الاستثمار في المرتكزات الأساسية لاقتصاد المعرفة.

وعلى الرغم من الفرص التي يوفرها الاقتصاد القائم على المعرفة، فإنه لابد من التنبه إلى بعض المحاذير التي صاحبت تنفيذ خطط هذا الاقتصاد في بعض الدول فيما صار يعرف بـ"الفجوة المعرفية Knowledge Divide" و"الفجوة الرقمية Digital Divide ". ومن هنا يأت استخدام هذين المفهومين للتعبير عن الفجوة الناشئة بين أولئك الذين تتوفر لديهم إمكانية الوصول إلى الفرص للاستفادة من المعرفة و التكنولوجيا الجديدة واكتساب المهارات وزيادة الدخل، وأولئك الذين تفوتهم هذه الفرص لسبب أو لآخر. والتي تنتج عادة جراء التطبيق غير المدروس لبعض السياسات الاقتصادية والتعليمية والرقمية التي لا توفر المساواة والعدالة بين مناطق وقاطني الدولة الواحدة؛ حيث أوجدت الثورة الحديثة للمعلومات والاتصالات فعليا نتائج غير مسبوقة على كل عناصر الاقتصاد والمجتمع.

ويتمثل القلق الرئيس حول ثورة المعرفة والتكنولوجيا اليوم في الخشية من أن تؤدي إلى مزيد من عدم المساواة في الدخل، كما أنها ستفيد بشكل كبير سكان المناطق الحضرية دون سواها من المناطق الأخرى بسبب تكامل وجودة الخدمات بها، مخلفة وراءها أولئك الذين لا يستطيعون مجاراتها للوصول إلى المعلومات والاتصالات الحديثة ليكونوا الأقل حظا من هذه التنمية. وهناك شواهد تدل على أن هذه الفوارق قد نمت عالميا خلال العقود الأربعة الماضية، في ظل الفجوة المتزايدة بين العمال ذوي المهارات العالية و غير المهرة، يدعمها زيادة في الطلب على العمالة ذات المهارات العالية على كافة الأصعدة الاقتصادية؛ حيث باتت التكنولوجيا الجديدة تنحاز لصالح هذه الفئة من العمال.

وإيضاحًا لذلك فعلى المستوى العالمي يظهر تحليل قاعدة البيانات العالمية للتفاوت في الدخل لعينة مكونة من 73 دولة، أن عدم المساواة ارتفع في 48 دولة أي ما يقارب الثلثين. وعلى مستوى الدول ارتفعت أجور العاملين في مجال المهارات المعرفية في الولايات المتحدة مثلا أسرع بكثير من أجور الفئات المهنية الأخرى خلال الأربعة عقود الماضية بنحو 17 في المائة مقارنة بـ5.25 في المائة في المتوسط لباقي العاملين. كما تم تسجيل ارتفاع مماثل في الدخل لذوي المهارات العالية في كل من كندا والاتحاد الأوروبي وأستراليا. وهذا يشير إلى أن الأفراد من ذوي التحصيل العلمي المنخفض يواجهون عواقب التغيرات الهيكلية في أسواق العمل من خلال زيادة خطر البطالة.

وانطلاقًا من منظور المساواة والعدالة عند تبني نموذج اقتصاد المعرفة فيمكننا الإشارة هنا الى أثرين أساسيين للفجوتين المعرفية والرقمية:

هناك خطر يتمثل في أنَّ أولئك الذين يفتقرون إلى المعرفة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات سيتخلفون عن الركب في حين تتطور المعرفة وتتقدم التكنولوجيا، وبالتالي يصبحون أقل قدرة على المشاركة في التنمية الاقتصادية مع بقية فئات المجتمع. وهذا بدوره قد يخلق ضغوطا وبيئة تزيد من عدم المساواة في الدخل على نطاق واسع، مما يسهم في ارتفاع تكاليف الخطط والبرامج الاجتماعية الداعمة.

 

ويبدو أن القائمين على إعداد وتنفيذ رؤية عُمان 2040 تنبهوا لهاتين الفجوتين. وما الحرص على إعداد الرؤية بتوافق مجتمعي بمشاركة أكثر من 41000 مشارك من مختلف فئات المجتمع والأعمار من خلال 3000 جولة في كافة ربوع سلطنة عُمان إلا دليلا وحرصا على تجنب المحاذير التي قد تنتج من ذلك. كما أن وجود بند الرفاه والحماية الاجتماعية كأحد أولويات ومستهدفات هذه الرؤية والبدء في تطبيقه خلال هذا العام من خلال شبكات الأمان الاجتماعي والتوزيع العادل لمقدرات التنمية بين المحافظات سوف يحد كثيرا من تأثير هاتين الفجوتين أملا أن تكون سلطنة عُمان من بين 40 دولة على مستوى العالم في هذا المجال بحلول عام 2030.

أضف إلى ذلك أن الاستراتيجية الوطنية للتعليم في سلطنة عُمان 2040 التي تأخذ في الاعتبار التعليم للجميع وتستشرف المستجدات التي طرأت على نظم التعليم العالمية وربطها بمستهدفات رؤية عُمان 2040 لبناء موارد بشرية تمتلك القيم والمعارف والمهارات الحديثة، حققت حتى الآن معدلات مرضية في مؤشر التعليم للجميع حيث جاء ترتيب السلطنة 51 من بين 92 دولة. وكذلك الحال بالنسبة لمؤشري التنافسية العالمية في مجالي المهارات والمواهب حيت حلت في المرتبتين 36 من بين 140 دولة و56 من أصل 119 دولة على التوالي على أمل الوصول لتكون السلطنة من بين أفضل 20 دولة على مستوى العالم بحلول عام 2030. كما أن إستراتيجية عُمان الرقمية والمتصلة بتطوير الاقتصاد الرقمي قد وضعت مؤشرات طموحة لتقنية المعلومات والاتصالات لتواكب مستهدفات رؤية عُمان 2040 من قبيل جاهزية الشبكات، وجاهزية محركات الإنتاج، وتطوير الحكومة الإلكترونية والتي تعتبر حاليًا من بين أفضل 40 دولة على مستوى العالم وصولاً لتكون من بين أفضل 20 دولة على مستوى العالم بحلول عام 2030.

إن السعي نحو تحقيق الاقتصاد القائم على المعرفة يوفر لسلطنة عُمان فرصًا هائلة لرفع مستويات الدخل لجميع فئات المجتمع شريطة أن تحظى استراتيجيات التنمية الحالية بالتخطيط والتقييم السليمين، أخذا في الاعتبار التماسك الاجتماعي والعدالة. ولا شك أن الفجوتين المعرفية والرقمية تمثلان تحديًا إلا أننا لا يجب أن ندير ظهرنا لاقتصاد المعرفة بسبب المخاوف من ارتفاع مخاطر عدم المساواة. ذلك أن المستهدفات الطموحة والمتكاملة لرؤية "عُمان 2040" مع وجود مظلة الرفاه الاجتماعي ومبدأ التنمية الشاملة والمتوازنة للمحافظات كفيلة حتى الآن بضمان التحول الناجح لاقتصاد المعرفة. وبالتالي يتوجب إيجاد المؤسسات والهياكل التنظيمية التي تدعم هذا التحول الاقتصادي، وترصد التطورات المستجدة بدقة، وتحل المعوقات الناجمة عبر سلسلة منتظمة من الإحصاءات الموثوقة عن مؤشرات الأداء الاقتصادي ومرتكزاته وعناصره، مما يعزز تطوير الحلول المبتكرة والسريعة والملبية لمتطلبات الاقتصاد الجديد والمجتمع في عُمان.

** متخصص في اقتصاد المعرفة

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

“إنفستوبيا” تعقد نسختها الخامسة 31 مارس 2026 بأبوظبي

 

أعلنت “إنفستوبيا”، أن نسختها الخامسة ستقام في أبوظبي العام المقبل، على مدار ثلاثة أيام متتالية للمرة الأولى، وذلك خلال الفترة من 31 مارس حتى 2 أبريل 2026.
ويهدف الحدث إلى خلق منصة حوارية استثمارية عالمية تجمع القادة والوزراء وكبار المسؤولين وصناع القرار ورجال الأعمال والمستثمرين ورواد الأعمال وخبراء الاقتصاد من جميع أنحاء العالم، تحت مظلة واحدة في دولة الإمارات.
وقال معالي عبدالله بن طوق المري، وزير الاقتصاد رئيس “إنفستوبيا”، إن مخرجات النسخة الرابعة لـ “إنفستوبيا” حققت نجاحاً متميزاً في فتح آفاق جديدة للاستثمار العالمي في قطاعات الاقتصاد الجديد ومنها التكنولوجيا المالية والذكاء الاصطناعي والاقتصاد الدائري والتجارة الإلكترونية والفضاء والرعاية الصحية، ووضع الآليات والرؤى التي من شأنها تشجيع القطاع الخاص على التوسع في هذه القطاعات الحيوية، والتحوّل نحو النماذج الاقتصادية الدائرية والمستدامة، فضلاً عن بناء شراكات إستراتيجية مع شركات ومؤسسات محلية وعالمية، لا سيما وأنها جذبت أكثر من 132 متحدثاً و19 وزيراً من 20 دولة، وحضر فعالياتها أكثر من 3000 مشارك من جميع أنحاء العالم.
وأضاف أن نسخة العام القادم لـ”إنفستوبيا” تسعى إلى إقامة حدث اقتصادي مميز وفريد يعزز من حضورها العالمي لدى مجتمعات الأعمال، ويؤكد مكانة دولة الإمارات باعتبارها مركزاً اقتصادياً واستثمارياً وتجارياً يربط شرق العالم بغربه وشماله بجنوبه، وحلقة الوصل بين الأسواق الاقتصادية المتقدمة والنامية والناشئة، بما يدعم الجهود الوطنية في ترسيخ مكانة الإمارات كوجهة عالمية رائدة لمشاريع الاقتصاد الجديد.
وتتضمن نسخة “إنفستوبيا 2026” عدداً من الفعاليات المثمرة التي سيتم تنظيمها بالتعاون مع الشركاء الإستراتيجيين على المستويات المحلي والإقليمي والعالمي، ومنها عقد مجموعة كبيرة من الجلسات النقاشية واجتماعات الطاولة المستديرة، لتعزيز النقاش الدولي حول مستقبل الاستثمار في قطاعات الاقتصاد الجديد، واستشراف أحدث التوجهات العالمية للتمويل، وإيجاد الحلول الملائمة للتحديات الاقتصادية التي يشهدها الاقتصاد العالمي، وكذلك تسليط الضوء على فرص الاستثمار الواعدة في الأسواق الإماراتية وكيفية استغلالها من قبل المستثمرين ورجال الأعمال، ودور الصناديق السيادية وصناديق الاستثمار الضخمة في تمويل المشاريع التنموية.
وتشهد النسخة الخامسة لـ “إنفستوبيا” تخصيص يوم كامل لإقامة منتدى عالمي حول ريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة والمتوسطة، بمشاركة إقليمية ودولية واسعة إلى جانب مجموعة كبيرة من الجهات الحكومية المعنية بريادة الأعمال في الدولة ومسرعات وحاضنات الأعمال وصناديق رأسمال المخاطر ورواد الأعمال.
وسيركز المنتدى على تحفيز أصحاب المشاريع الناشئة على التوسع في القطاعات الاقتصادية المستقبلية، ودعم وصولهم إلى فرص التمويل والاستثمار والشراكات خلال هذا الحدث.
وستعمل “إنفستوبيا” على تعزيز الاستفادة من الحضور العالمي لسلسلة فعاليات وحوارات “إنفستوبيا العالمية” التي ستنطلق خلال العام الحالي في أكثر من 10 مدن في أوروبا وآسيا وإفريقيا وأمريكا، وذلك بهدف جذب أكبر قاعدة من المستثمرين ورجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال والثروات ورواد الأعمال إلى نسختها الخامسة.
وستحظى “إنفستوبيا 2026” بشبكة واسعة من الشركاء ستضم عدداً من الجهات الحكومية والخاصة والشركات الوطنية والعالمية المرموقة والبنوك الدولية.وام

 

 


مقالات مشابهة

  • “إنفستوبيا” تعقد نسختها الخامسة 31 مارس 2026 بأبوظبي
  • إنفستوبيا تعقد نسختها الخامسة 31 مارس 2026 بأبوظبي
  • "إنفستوبيا" تعلن موعد نسختها الخامسة في أبوظبي
  • مكتبة الإسكندرية تنظم محاضرة عن خدمات جهاز تنمية المشروعات
  • النقل وتنمية المشروعات يوقعان مذكرة تفاهم لتوفير فرص عمل مستدامة للشباب
  • النقل وجهاز تنمية المشروعات يوقعان مذكرة تفاهم لتوفير فرص عمل مستدامة للشباب
  • 2% نمو اقتصاد كوريا خلال 2024
  • السعودية ثاني أسرع اقتصاد في العالم
  • «الاقتصاد» تستشرف مستقبل الوظائف ذات التأثير العالي
  • الفرقة الرابعة.. الإمبراطورية التي نهبت اقتصاد سوريا