اقتصاد المعرفة.. نحو تنمية مستدامة شاملة (7)
تاريخ النشر: 14th, February 2024 GMT
تحديات الفجوتين المعرفية والرقمية
د. إبراهيم بن عبدالله الرحبي **
المقالات الستة السابقة قدمت استعراضًا لأهم الأدبيات والشواهد التجريبية التي تتناول مفهوم والمرتكزات الأربعة للاقتصاد القائم على المعرفة ودورها في تحقيق التنمية المُستدامة، كما تمَّ بيان مدى جاهزية سلطنة عُمان في هذه المرتكزات والمؤشرات الداعمة لخيار الاقتصاد القائم على المعرفة على ضوء تبني رؤية "عُمان 2040".
وأوضحت نتائج مقارنة مؤشرات أولويات ومستهدفات رؤية عُمان 2040 بمرتكزات ومؤشرات اقتصاد المعرفة إلى وجود فرص حقيقية للأخذ بهذا الخيار. ذلك أن اقتصاد المعرفة لا يساهم فقط في إمكانية زيادة الاستفادة القصوى من العمر الإنتاجي للموارد الطبيعية والاقتصادية المتاحة بشكل كبير من خلال تراكم المعرفة واستخداماتها الفعالة، ولكنه يوفر أيضًا فرصًا جديدة حقيقية وممكنة لتحقيق تنمية اقتصادية سريعة ومستدامة. وهو ما تؤكده الأدبيات والتجارب الدولية حول وجود علاقة إيجابية بين النمو الاقتصادي المستدام وبين الاستثمار في المرتكزات الأساسية لاقتصاد المعرفة.
وعلى الرغم من الفرص التي يوفرها الاقتصاد القائم على المعرفة، فإنه لابد من التنبه إلى بعض المحاذير التي صاحبت تنفيذ خطط هذا الاقتصاد في بعض الدول فيما صار يعرف بـ"الفجوة المعرفية Knowledge Divide" و"الفجوة الرقمية Digital Divide ". ومن هنا يأت استخدام هذين المفهومين للتعبير عن الفجوة الناشئة بين أولئك الذين تتوفر لديهم إمكانية الوصول إلى الفرص للاستفادة من المعرفة و التكنولوجيا الجديدة واكتساب المهارات وزيادة الدخل، وأولئك الذين تفوتهم هذه الفرص لسبب أو لآخر. والتي تنتج عادة جراء التطبيق غير المدروس لبعض السياسات الاقتصادية والتعليمية والرقمية التي لا توفر المساواة والعدالة بين مناطق وقاطني الدولة الواحدة؛ حيث أوجدت الثورة الحديثة للمعلومات والاتصالات فعليا نتائج غير مسبوقة على كل عناصر الاقتصاد والمجتمع.
ويتمثل القلق الرئيس حول ثورة المعرفة والتكنولوجيا اليوم في الخشية من أن تؤدي إلى مزيد من عدم المساواة في الدخل، كما أنها ستفيد بشكل كبير سكان المناطق الحضرية دون سواها من المناطق الأخرى بسبب تكامل وجودة الخدمات بها، مخلفة وراءها أولئك الذين لا يستطيعون مجاراتها للوصول إلى المعلومات والاتصالات الحديثة ليكونوا الأقل حظا من هذه التنمية. وهناك شواهد تدل على أن هذه الفوارق قد نمت عالميا خلال العقود الأربعة الماضية، في ظل الفجوة المتزايدة بين العمال ذوي المهارات العالية و غير المهرة، يدعمها زيادة في الطلب على العمالة ذات المهارات العالية على كافة الأصعدة الاقتصادية؛ حيث باتت التكنولوجيا الجديدة تنحاز لصالح هذه الفئة من العمال.
وإيضاحًا لذلك فعلى المستوى العالمي يظهر تحليل قاعدة البيانات العالمية للتفاوت في الدخل لعينة مكونة من 73 دولة، أن عدم المساواة ارتفع في 48 دولة أي ما يقارب الثلثين. وعلى مستوى الدول ارتفعت أجور العاملين في مجال المهارات المعرفية في الولايات المتحدة مثلا أسرع بكثير من أجور الفئات المهنية الأخرى خلال الأربعة عقود الماضية بنحو 17 في المائة مقارنة بـ5.25 في المائة في المتوسط لباقي العاملين. كما تم تسجيل ارتفاع مماثل في الدخل لذوي المهارات العالية في كل من كندا والاتحاد الأوروبي وأستراليا. وهذا يشير إلى أن الأفراد من ذوي التحصيل العلمي المنخفض يواجهون عواقب التغيرات الهيكلية في أسواق العمل من خلال زيادة خطر البطالة.
وانطلاقًا من منظور المساواة والعدالة عند تبني نموذج اقتصاد المعرفة فيمكننا الإشارة هنا الى أثرين أساسيين للفجوتين المعرفية والرقمية:
هناك خطر يتمثل في أنَّ أولئك الذين يفتقرون إلى المعرفة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات سيتخلفون عن الركب في حين تتطور المعرفة وتتقدم التكنولوجيا، وبالتالي يصبحون أقل قدرة على المشاركة في التنمية الاقتصادية مع بقية فئات المجتمع. وهذا بدوره قد يخلق ضغوطا وبيئة تزيد من عدم المساواة في الدخل على نطاق واسع، مما يسهم في ارتفاع تكاليف الخطط والبرامج الاجتماعية الداعمة.
ويبدو أن القائمين على إعداد وتنفيذ رؤية عُمان 2040 تنبهوا لهاتين الفجوتين. وما الحرص على إعداد الرؤية بتوافق مجتمعي بمشاركة أكثر من 41000 مشارك من مختلف فئات المجتمع والأعمار من خلال 3000 جولة في كافة ربوع سلطنة عُمان إلا دليلا وحرصا على تجنب المحاذير التي قد تنتج من ذلك. كما أن وجود بند الرفاه والحماية الاجتماعية كأحد أولويات ومستهدفات هذه الرؤية والبدء في تطبيقه خلال هذا العام من خلال شبكات الأمان الاجتماعي والتوزيع العادل لمقدرات التنمية بين المحافظات سوف يحد كثيرا من تأثير هاتين الفجوتين أملا أن تكون سلطنة عُمان من بين 40 دولة على مستوى العالم في هذا المجال بحلول عام 2030.
أضف إلى ذلك أن الاستراتيجية الوطنية للتعليم في سلطنة عُمان 2040 التي تأخذ في الاعتبار التعليم للجميع وتستشرف المستجدات التي طرأت على نظم التعليم العالمية وربطها بمستهدفات رؤية عُمان 2040 لبناء موارد بشرية تمتلك القيم والمعارف والمهارات الحديثة، حققت حتى الآن معدلات مرضية في مؤشر التعليم للجميع حيث جاء ترتيب السلطنة 51 من بين 92 دولة. وكذلك الحال بالنسبة لمؤشري التنافسية العالمية في مجالي المهارات والمواهب حيت حلت في المرتبتين 36 من بين 140 دولة و56 من أصل 119 دولة على التوالي على أمل الوصول لتكون السلطنة من بين أفضل 20 دولة على مستوى العالم بحلول عام 2030. كما أن إستراتيجية عُمان الرقمية والمتصلة بتطوير الاقتصاد الرقمي قد وضعت مؤشرات طموحة لتقنية المعلومات والاتصالات لتواكب مستهدفات رؤية عُمان 2040 من قبيل جاهزية الشبكات، وجاهزية محركات الإنتاج، وتطوير الحكومة الإلكترونية والتي تعتبر حاليًا من بين أفضل 40 دولة على مستوى العالم وصولاً لتكون من بين أفضل 20 دولة على مستوى العالم بحلول عام 2030.
إن السعي نحو تحقيق الاقتصاد القائم على المعرفة يوفر لسلطنة عُمان فرصًا هائلة لرفع مستويات الدخل لجميع فئات المجتمع شريطة أن تحظى استراتيجيات التنمية الحالية بالتخطيط والتقييم السليمين، أخذا في الاعتبار التماسك الاجتماعي والعدالة. ولا شك أن الفجوتين المعرفية والرقمية تمثلان تحديًا إلا أننا لا يجب أن ندير ظهرنا لاقتصاد المعرفة بسبب المخاوف من ارتفاع مخاطر عدم المساواة. ذلك أن المستهدفات الطموحة والمتكاملة لرؤية "عُمان 2040" مع وجود مظلة الرفاه الاجتماعي ومبدأ التنمية الشاملة والمتوازنة للمحافظات كفيلة حتى الآن بضمان التحول الناجح لاقتصاد المعرفة. وبالتالي يتوجب إيجاد المؤسسات والهياكل التنظيمية التي تدعم هذا التحول الاقتصادي، وترصد التطورات المستجدة بدقة، وتحل المعوقات الناجمة عبر سلسلة منتظمة من الإحصاءات الموثوقة عن مؤشرات الأداء الاقتصادي ومرتكزاته وعناصره، مما يعزز تطوير الحلول المبتكرة والسريعة والملبية لمتطلبات الاقتصاد الجديد والمجتمع في عُمان.
** متخصص في اقتصاد المعرفة
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
عبدالله بن طوق: سياساتنا الاقتصادية تتوافق مع الأطر العالمية
دبي:«الخليج»
أكد عبدالله بن طوق المري، وزير الاقتصاد، أن السياسات والاستراتيجيات الاقتصادية الحالية لدولة الإمارات تستند إلى جهود متسارعة لتنويع اقتصاد دولة الإمارات من خلال تعزيز القطاعات الاقتصادية الجديدة التي تسهم في تشكيل المرحلة التالية من النمو الاقتصادي، وتشمل التصنيع المتقدم، والتقنيات الخضراء، والتكتلات الاقتصادية الجديدة، والخدمات المالية، والذكاء الاصطناعي، وغيرها.
جاء ذلك خلال أعمال الاجتماعات السنوية لحكومة دولة الإمارات 2024، وضمن جلسة: بعنوان: «الإمارات والقواعد الجديدة للاقتصاد العالمي».
وقال عبدالله بن طوق إن دولة الإمارات تصيغ سياساتها الاقتصادية، بما يتوافق مع الأطر العالمية الجديدة مستثمرة المرونة القوية والقدرة الكبيرة على التكيف مع الاقتصاد العالمي، وهو ما انعكس بشكل واضح في المحافظة على معدلات نمو إيجابية رغم التحديات الدولية.
الاقتصاد الجديد
وأشار إلى أن ثلاثة أرباع الناتج المحلي الإجمالي بدولة الإمارات حالياً يعود إلى القطاع غير النفطي، الذي يواصل توسعه محققاً نمواً سنوياً بنسبة 4% في الربع الأول من 2024، موضحاً أن الاقتصاد الوطني يسير بخطوات ثابتة نحو تحقيق المستهدفات الاقتصادية لرؤية «نحن الإمارات 2031» الرامية إلى مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي للدولة، ليصل إلى 3 تريليونات درهم بحلول العقد المقبل.
وأكد أن لدولة الإمارات دوراً أساسياً في صياغة مستقبل الاقتصاد الجديد عالمياً من خلال تمكين الشراكات المبتكرة، والتركيز على التكنولوجيا والتحول الرقمي والاستدامة، ما يُعزز مكانة الإمارات كمركز عالمي للاقتصاد الجديد، لافتاً إلى أن الناتج المحلي الإجمالي لدولة الإمارات سجل معدل نمو متوسط قدره 5% خلال السنوات الثلاث الماضية.
الخدمات اللوجستية
وأشار إلى أن الأنظمة الجديدة المعتمدة في نظام التأشيرات بالدولة ساهمت في جذب المستثمرين وأصحاب المواهب والمتخصصين والعمالة عالية المهارة، والاحتفاظ بهم في العديد من القطاعات، بما في ذلك الخدمات المالية والتجارية والذكاء الاصطناعي والتصنيع، إضافة إلى رواد الأعمال والشركات الناشئة التي تتطلع إلى الابتكار والإبداع وتوسيع أعمالها في دولة الإمارات، مشيراً إلى أن قطاع سلاسل التوريد، الذي كان أحد تحديات التجارة العالمية في وقت سابق، يتسم بمرونة عالية في دولة الإمارات، حيث يسهم قطاع الخدمات اللوجستية بنسبة تصل إلى 14% في الناتج المحلي الإجمالي للدولة.
وقال إن قطاع الأمن الغذائي، يعد قطاعاً وطنياً واعداً، لا سيما مع إطلاق «استراتيجية منصة الإمارات للأغذية» بهدف الوصول بحجم مساهمة قطاع الأغذية في الناتج المحلي الإجمالي للدولة إلى 10 مليارات دولار أمريكي، وخلق 20 ألف فرصة عمل، حيث تمثل الاستراتيجية مصدراً مهماً للنمو الاقتصادي وخلق فرص واعدة ومستدامة، فضلاً عن ريادة دولة الإمارات في تبني الذكاء الاصطناعي المتقدم والبنية التحتية الرقمية، والأمن السيبراني.
بيئة أعمال تنافسية
وأشار إلى أن البيئة التشريعية الاقتصادية في الدولة شهدت تغييراً جذرياً على مدار السنوات الأربع الماضية، حيث تم إصدار وتحديث أكثر من 30 تشريعاً وقراراً وسياسة، ومنها قوانين جديدة للشركات العائلية والتعاونيات والوكالات التجارية والتجارة من خلال وسائل التقنية الحديثة والتحكيم، وإتاحة التملك الأجنبي للشركات بنسبة 100%، حيث أسهمت هذه التطورات التشريعية في تعزيز تنويع الاقتصاد الوطني، ودعم تنافسية بيئة الأعمال ودفعها إلى مستويات أكثر مرونة،
لا سيما أن الإمارات جاءت في المرتبة الأولى عالمياً كأفضل مكان لممارسة وتأسيس الأنشطة الاقتصادية والتجارية لعام 2024، وفقاً لتقرير المرصد العالمي لريادة الأعمال.
تعزيز الانفتاح
وقال إن دولة الإمارات تبنت رؤى واستراتيجيات استشرافية، لتعزيز الانفتاح الاقتصادي على العالم وبناء الشراكات الاقتصادية مع الأسواق البارزة إقليمياً ودولياً، حيث عقدت الدولة أكثر من 25 لجنة اقتصادية مشتركة مع 25 دولة على الصعيد الإقليمي والعالمي خلال السنوات الأربع الماضية.
كما وقّعت اتفاقيات شراكة اقتصادية شاملة مع 14 دولة حول العالم، حيث تهدف من خلال هذه المبادرات والاتفاقيات إلى تعزيز مكانتها كشريك عالمي ومركز اقتصادي ريادي، له تأثير إيجابي في حركة التجارة والاستثمار في المنطقة والعالم.