عربي21:
2024-12-18@09:20:53 GMT

حزب الرفاه الجديد بين طموحات وعوائق

تاريخ النشر: 14th, February 2024 GMT

دخل حزب الرفاه الجديد برئاسة فاتح أربكان، منعطفا جديدا في مسيرته السياسية، بعد أن حسم قراره لصالح خوض الانتخابات المحلية دون التحالف مع حزب العدالة والتنمية. ويعني هذا القرار عمليا أنه ينسحب من تحالف الجمهور الانتخابي، وأنه لن يدعم مرشحي حزب العدالة والتنمية في أي من المدن التركية، على رأسها العاصمة أنقرة وإسطنبول وإزمير.



قرار حزب الرفاه الجديد جاء بعد فشل المفاوضات التي أجراها مع حزب العدالة والتنمية. ووفقا للتسريبات، كان الأول طلب من الثاني أن يدعم مرشحيه في أربع مدن، اثنتان منها من المدن الكبرى، بالإضافة إلى 35 قضاء، إلا أن حزب العدالة والتنمية وجد أن هذا الطلب أكبر بكثير من حجم شعبية حزب الرفاه الجديد، فرفضه.

حزب الرفاه الجديد تحالف في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة مع تحالف الجمهور الذي يشكله حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، ليحصل في الانتخابات البرلمانية على 2.8 في المائة من أصوات الناخبين وخمسة مقاعد في البرلمان التركي. إلا أن ذاك التحالف الذي انضم إليه الحزب على مضض، جاء بعد مفاوضات صعبة، وكان قرار الحزب الأول آنذاك أن يخوض الانتخابات البرلمانية دون التحالف مع أي حزب آخر، وأن يترشح رئيسه فاتح أربكان، لرئاسة الجمهورية، إلا أن قادة الحزب أدركوا أنهم لن يحصلوا على أي مكسب بسبب الحاجز الانتخابي (7 في المائة)، على الرغم من أن فاتح أربكان كان يقول إن شعبية الحزب بلغت 8 في المائة، فتراجعوا عن قرارهم لينضموا إلى تحالف الجمهور. وكان ذاك القرار الثاني لصالح الطرفين.

قادة حزب الرفاه الجديد يرون أن شعبية حزبهم ارتفعت بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وبالتالي يطمحون لتسجيل هذا الارتفاع في الانتخابات المحلية، ليبنوا عليه بعد ذلك دعايتهم، ويظهروا أن شعبية حزب الرفاه الجديد في صعود مستمر، حتى يتمكن الحزب من خوض الانتخابات البرلمانية القادمة منفردا، ويترشح فاتح أربكان لرئاسة الجمهورية في غياب أردوغان
الحزب الذي يدعي بأنه يمثل تيار "مللي غوروش" أي "الرأي الوطني" الذي أسسه الراحل نجم الدين أربكان، يتموضع في الخارطة السياسية كحزب معارض للحكومة، كما أن في صفوفه عدد كبير ممن انشقوا عن حزب العدالة والتنمية. وبالتالي، ينافس حزبُ الرفاه الجديد حزبَ السعادة الذي يدعي هو الآخر بأنه يمثل ذات التيار، من ناحية، وحزب العدالة والتنمية، من ناحية أخرى. كما يمكن اعتبار انضمامه إلى تحالف الجمهور في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة نوعا من البراغماتية والتكتيك الانتخابي.

قادة حزب الرفاه الجديد يرون أن شعبية حزبهم ارتفعت بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وبالتالي يطمحون لتسجيل هذا الارتفاع في الانتخابات المحلية، ليبنوا عليه بعد ذلك دعايتهم، ويظهروا أن شعبية حزب الرفاه الجديد في صعود مستمر، حتى يتمكن الحزب من خوض الانتخابات البرلمانية القادمة منفردا، ويترشح فاتح أربكان لرئاسة الجمهورية في غياب أردوغان، إلا أن هذه الطموحات أمامها عوائق عديدة.

حزب الرفاه الجديد وقف في الخارطة السياسية بين حزب العدالة والتنمية وأحزاب تحالف الطاولة السداسية، وأبدى معارضة للحكومة في بعض سياساتها دون الاصطفاف مع حزب الشعب الجمهوري. ومن هنا، حصل على نسبة من أصوات مؤيدي حزب السعادة الغاضبين على تحالف حزبهم مع حزب الشعب الجمهوري، ونسبة أخرى من أصوات الذين يؤيدون رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان ولكن لديهم تحفظات على بعض قادة حزب العدالة والتنمية أو إجراءات الحكومة، مثل إجبار المواطنين على التطعيم ضد فيروس كورونا. كما أن موقف حزب الرفاه الجديد من الملف السوري لا يختلف كثيرا عن موقف حزب السعادة.

ومن المؤكد أن أول تحد أمام الحزب الآن هو الاحتفاظ بتلك الأصوات التي حصل عليها في 14 أيار/ مايو 2023، علما بأن نسبة من هؤلاء الناخبين الذين صوتوا لحزب الرفاه الجديد في تلك الانتخابات قد يرون أن التصويت له الآن في أنقرة وإسطنبول وإزمير وغيرها من المدن التي يتوقع أن تشهد منافسة شرسة بين مرشحي حزب العدالة والتنمية ومرشحي حزب الشعب الجمهوري؛ انحياز لصالح هذا الأخير، وبالتالي، يصوتون لحزب العدالة والتنمية بدلا من حزب الرفاه الجديد، ليغلّبوا كفة الأول أمام حزب الشعب الجمهوري.

فاتح أربكان زعيم شاب، ولكنه لا يتمتع بكاريزما كافية، غير كونه نجل رئيس الوزراء الأسبق نجم الدين أربكان. وأراد عام 2014 أن يتولى رئاسة حزب السعادة، إلا أنه خسر المنافسة أمام مصطفى كامالاك، وأدت تلك الخسارة إلى انشقاقه عن حزب السعادة وتأسيسه حزبا جديدا. طموحات حزب الرفاه الجديد كبيرة، إلا أنه بحاجة إلى تجاوز كثير من العقبات ليصل إلى أهدافه. وإن ارتفعت شعبيته في هذه الانتخابات بشكل ملحوظ فحينئذ سيحصل على فرصة ثمينة للمضي قدما نحو مبتغاه، إلا أنه قد يبقى كأحد الأحزاب الصغيرة الهامشيةكما أن حزب الرفاه الجديد يشبه إلى حد ما "مؤسسة عائلية"، وكان الحديث يدور في وسائل الإعلام عن أن الحزب سيرشح أليف أربكان، شقيقة فاتح أربكان، لرئاسة بلدية إسطنبول، إلا أن زوج أليف، مهمت ألتينوز، هو الذي تم ترشيحه للانتخابات المحلية في إسطنبول.

المرشحون الذين كشف عنهم حزب الرفاه الجديد حتى الآن ليسوا من الأسماء القوية، مقارنة بمرشحي الأحزاب الأخرى، بل كثير منهم ممن انشقوا عن حزب العدالة والتنمية، بعد أن تم إبعادهم عن مناصبهم أو لم يتم ترشيحهم لفترة أخرى بسبب فشلهم أو أخطائهم. ولعل أبرز هؤلاء هو المتحدث باسم حزب الرفاه الجديد ومرشحه لرئاسة بلدية أنقرة، سعاد كيليتش، الذي كان وزير الشباب والرياضة ما بين تموز/ يوليو 2011 وكانون الأول/ ديسمبر 2013، وقام آنذاك بتوبيخ معلمة أمام الكاميرات خلال زيارته لإحدى مراكز تعليم الشباب، وتم إبعاده عن منصبه استجابة لكثرة الانتقادات الموجهة إلى أدائه.

طموحات حزب الرفاه الجديد كبيرة، إلا أنه بحاجة إلى تجاوز كثير من العقبات ليصل إلى أهدافه. وإن ارتفعت شعبيته في هذه الانتخابات بشكل ملحوظ فحينئذ سيحصل على فرصة ثمينة للمضي قدما نحو مبتغاه، إلا أنه قد يبقى كأحد الأحزاب الصغيرة الهامشية، على غرار حزب السعادة وحزب المستقبل، إن لم يخرج من صناديق الاقتراع ما يحلم به قادة الحزب.

twitter.com/ismail_yasa

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الانتخابات أردوغان تركيا أردوغان انتخابات اربكان تحالفات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الانتخابات الرئاسیة والبرلمانیة الانتخابات البرلمانیة حزب العدالة والتنمیة حزب الشعب الجمهوری تحالف الجمهور فی الانتخابات فاتح أربکان حزب السعادة إلا أنه مع حزب إلا أن

إقرأ أيضاً:

الديون الخارجية والتنمية في افريقيا

يعرف الدين الخارجي بأنه المبلغ الإجمالي الذي تقترضه دولة من جهات خارج حدودها، سواءً أكانت حكومات أجنبية، أو مؤسسات مالية دولية، أو مصارف تجارية، أو مستثمرين أجانب. ويشمل هذا الدين القروض التي تستخدمها الدول لتمويل العجز في موازناتها أو لدعم مشاريع تنموية مثل البنية التحتية والتعليم والصحة. وعادةً ما يُسَدَّدُ الدين الخارجي بعملة أجنبية، وهو ما قد يشكل عبئًا إضافيًا على الدول التي تعاني من ضعف إيراداتها بالعملة الأجنبية. وعلى المستوى العالمي، نشأ مفهوم الدين الخارجي مع ظهور الأنظمة المالية الحديثة وزيادة الاعتماد على التمويل الدولي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حيث بدأت الدول الأوروبية في اقتراض الأموال لتمويل الحروب أو لتنفيذ مشاريع التنمية. أما في القارة إفريقية، فقد برزت الديون الخارجية بشكل أكبر بعد الاستقلال في منتصف القرن العشرين، حيث لجأت الدول الإفريقية إلى الاقتراض لتمويل مشاريع التنمية والبنية التحتية. إلا أن ضعف الإدارة الاقتصادية وتقلبات الأسواق العالمية أدت إلى تفاقم أعباء هذه الديون مع مرور الوقت على معظم الدول الافريقية.
وكشف تقرير للبنك الدولي صدر في ديسمبر 2024 بعنوان "تقرير الديون الدولية" عن وصول إنفاق البلدان النامية على خدمة ديونها الخارجية إلى مستوى قياسي بلغ 1.4 تريليون دولار. ويأتي هذا الارتفاع في سياق اقتصادي مضطرب، حيث سجلت أسعار الفائدة في عام 2023م أعلى مستوياتها خلال عقدين، مما زاد من الضغوط المالية على الاقتصادات النامية. وشهدت مدفوعات الفائدة قفزة كبيرة، حيث ارتفعت بنحو الثلث لتصل إلى 406 مليارات دولار. وأدى هذا العبء المتزايد إلى تقييد قدرة العديد من البلدان على تمويل قطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم والبيئة، مما ترك أثرًا عميقًا على الأولويات التنموية. وكانت البلدان الأكثر فقرًا والأشد تعرضًا للمخاطر هي تلك التي تأثرت سلباً أكثر من غيرها بهذه الأوضاع.
وعلى الرغم من أن التقرير المشار إليه يؤكد أهمية مراجعة شاملة لمنظومة التمويل الدولي لتخفيف أعباء الديون وتعزيز قدرة الدول النامية على تحقيق أهدافها التنموية دون الإضرار بالاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، إلا أن التحديات التي تواجهها القارة الإفريقية في إدارة الديون الخارجية تبقى شديدة التعقيد. وهذا ناتج عن أن أعباء الديون في إفريقيا ترتفع بشكل مستمر، نتيجة زيادة الاعتماد على القروض الخارجية لتمويل مشاريع البنية التحتية والتنمية. ورغم أهمية هذه القروض في دعم الاستثمارات الضرورية لتحفيز النمو، فإنها تضع ضغوطًا مالية كبيرة على الحكومات، خاصة مع تصاعد تكاليف خدمة الديون.
وتُعزى هذه الضغوط إلى مجموعة من العوامل الهيكلية والاقتصادية، منها تقلب أسعار السلع الأساسية التي تشكل العمود الفقري للاقتصادات الإفريقية، إذ تعتمد العديد من الدول الأفريقية على صادرات مثل النفط والمعادن والزراعة، التي تتسم أسعارها بعدم الاستقرار. ويؤثر هذا التقلب بشكل مباشر على العائدات الحكومية ويضعف قدرتها على الإيفاء بالتزاماتها المالية. وبالإضافة إلى ذلك، تواجه الكثير من الدول الإفريقية تحديات في تنويع اقتصاداتها وتعزيز الإيرادات المحلية، مما يزيد من اعتمادها على مصادر التمويل الخارجية. ومن أبرز التحديات أيضًا، ارتفاع أسعار الفائدة العالمية، التي تضاعف من تكلفة الاقتراض، وخاصة على القروض التجارية. ومع زيادة التزامات خدمة الديون، تجد الحكومات نفسها مضطرة لتقليص الإنفاق على القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية الأساسية، مما يؤدي إلى تفاقم الأوضاع الاجتماعية ويقوض الأهداف التنموية طويلة الأجل.
وتعاني الدول الإفريقية أيضًا من نقص الشفافية في إدارة الديون؛ إذ أن الشروط المرتبطة بالقروض الخارجية غالبًا ما تكون غير واضحة، أو تحتوي على شروط صعبة، مما يعيق فرص الدول في التفاوض على شروط ميسرة. وتضاعف هذه المشكلات من تعقيد الموقف، خاصة بالنسبة للدول التي تُعتبر فقيرة أو مثقلة بالديون، مثل السودان، الذي ظل يعاني من أزمة ديون مستمرة تُقدر بمليارات الدولارات، وأخرى مثل زامبيا، التي شهدت تعثرًا ماليًا دفعها لإعادة هيكلة ديونها مع المقرضين الدوليين.
وتواجه الدول الإفريقية أيضاً مفارقة لافتة، إذ أنها تحتاج إلى المزيد من التمويل للاستثمار في النمو المستدام، لكنها في الوقت ذاته تكافح للوفاء بالتزامات الديون المتزايدة. وتتطلب معالجة هذه الأوضاع نهجًا متكاملاً، يشمل تعزيز الشفافية في إدارة الديون، وضع سياسات مالية مستدامة، وضمان حصول هذه الدول على تمويل ميسر لدعم مشاريعها التنموية دون التضحية بالاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. كما يتطلب الأمر تعاونًا دوليًا لتحسين آليات تخفيف الديون وزيادة الاستثمارات في القطاعات التي تعزز الإنتاجية والتنويع الاقتصادي على المدى الطويل.
وتعد دولتا غانا ومصر مثالين لدولتين تواجهان تحديات كبيرة في إدارة الديون الخارجية، مع تباين في تأثير هذه الديون على تحقيق التنمية. ففي غانا، التي بلغت ديونها الخارجية حوالي 30 مليار دولار في عام 2023، كان الاعتماد على القروض الخارجية لتمويل مشاريع البنية التحتية ركيزة أساسية لتعزيز النمو. ومع ذلك، تعاني غانا من ضعف عملتها المحلية، مما يفضي لارتفاع تكاليف خدمة الدين بالعملات الأجنبية. يضاف إلى ذلك أن ارتفاع أسعار الفائدة يزيد من أعباء الاقتراض، مما يضع ضغوطًا على الموازنة العامة، ويجعل تمويل القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم تحديًا مستمرًا. وفي المقابل، تواجه مصر وضعًا أكثر تعقيدًا بسبب حجم ديونها الكبير، الذي تجاوز 165 مليار دولار في عام 2023. وعلى الرغم من استثمار القروض في مشاريع بنية تحتية ضخمة مثل العاصمة الإدارية الجديدة وشبكات النقل، إلا أن تأثير هذه المشاريع على التنمية المستدامة ما زال موضع نقاش مستمر. وتتمثل التحديات الرئيسية في ارتفاع فاتورة خدمة الدين، مما يستهلك جزءًا كبيرًا من الموارد العامة. بالإضافة إلى ذلك، تعاني مصر من فجوة تمويلية تتطلب استقطاب المزيد من التمويل الأجنبي، مما يفاقم أزمة الديون على المدى الطويل. وبينما تعتمد غانا بشكل أكبر على تصدير السلع الأساسية، فإن تقلب أسعار السلع يترك اقتصادها عرضةً لصدمات خارجية تؤثر على قدرتها على السداد، تواجه مصر تحديات من نوع مختلف، حيث إن الاعتماد الكبير على الواردات، وخاصة في قطاع الغذاء والطاقة، يزيد من الضغط على العملة المحلية ويؤدي إلى ارتفاع التضخم، مما يُضعف القوة الشرائية عند المواطنين ويحد من تأثير مشروعات التنمية على تحسين حياة الأفراد. وفي كلا البلدين، يبدو أن إدارة الديون بشكل مستدام مع تعزيز الإيرادات المحلية وتنويع الاقتصاد يشكلان المفتاح لتحقيق التنمية دون التضحية بالاستقرار المالي. ومع ذلك، فإن نجاح هذه الجهود يعتمد على الإصلاحات الهيكلية، وتحسين مناخ الاستثمار، وزيادة الشفافية في إدارة الموارد.
من جانب آخر، يعاني السودان من أزمة ديون مزمنة، تعدّ من بين أكبر التحديات الاقتصادية التي تواجه البلاد. ويعود تاريخ تراكم الديون الخارجية في السودان إلى فترة ما قبل الاستقلال، حيث استُخدمت القروض الدولية لتمويل مشروعات البنية التحتية وبرامج التنمية. وخلال العقود التي تلت الاستقلال، ساهمت التقلبات السياسية والاقتصادية، والحروب الأهلية، والعقوبات الدولية، وسوء الإدارة المالية، في تضخم حجم الديون لتصل إلى حوالي 56 مليار دولار، مما جعل السودان من بين الدول المثقلة بالديون على مستوى العالم.
وانعكست هذه الأزمة بشكل واضح على التنمية الاقتصادية. فعوضاً عن أن تُستخدم الموارد المتاحة لتطوير القطاعات الحيوية مثل الزراعة والصناعة والتعليم والصحة، اضطُر السودان إلى تخصيص جزء كبير من عائداته لخدمة القروض التي كان قد تلقاها. كما أدت الضغوط الاقتصادية إلى تقليص الإنفاق الحكومي على الخدمات الأساسية، مما ساهم في تراجع مؤشرات التنمية البشرية. ورغم الجهود المبذولة للانضمام إلى مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون (HIPC)، التي تهدف إلى تخفيف عبء الديون، يواجه السودان تحديات كبيرة في الوفاء بشروط هذه المبادرة، مثل تحسين إدارة المالية العامة، وتعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي. فمثلاً حصل السودان على عدد من القروض من البنك الدولي لدعم مشروعات تنموية مختلفة بين عامي 1960م و1980م، كان الهدف منها تعزيز البنية التحتية وتحقيق نمو اقتصادي مستدام. وشملت تلك القروض استثمارات كبيرة في قطاعات حيوية مثل النقل والزراعة والتعليم والصناعة. فعلى سبيل المثال لا الحصر حصل السودان في عام 1965م، على قرض بقيمة 31 مليون دولار لتطوير السكك الحديدية، وهو ما يعكس أهمية تحسين وسائل النقل كركيزة للتنمية الاقتصادية. وأعقب ذلك القرض عدد من القروض في فترة السبعينيات، مثل قرض في عام 1974 بقيمة 24 مليون دولار لاستكمال تطوير شبكة السكك الحديدية، مما يعكس الاستمرار في الاستثمار في هذا القطاع الحيوي. كذلك هناك مثال آخر لقروض في عام 1978م، وُجهت لدعم القطاع الزراعي الذي كان يُعد أحد الأعمدة الرئيسية للاقتصاد السوداني. وفي عام 1975م تحصل السودان على قرضين، أحدهما بقيمة 10 ملايين دولار لتحسين قطاع التعليم، والآخر بقيمة 7 ملايين دولار لدعم المشروعات الصناعية بهدف تعزيز القدرات الإنتاجية. ورغم أهمية تلك القروض في دعم مشروعات البنية التحتية الحيوية، إلا أن النتائج لم تكن كما كان يُتوقَّع. فقد تأثرت المشروعات بعدة عوامل أدت إلى إخفاقها في تحقيق الأهداف المرجوة. وكان من أبرز هذه العوامل ضعف الإدارة والتخطيط، أو ربما سوء اختيار المشروع نفسه. فعلى سبيل المثال، أُقِيمَ في عهد الحكم العسكري الأول مصنع لتجفيف الألبان في منطقة رعي موسمي تفتقر إلى وسائل النقل السريع للألبان أو توفر ثلاجات لحفظ الألبان من مناطق الإنتاج المختلفة حتى ترحيلها إلى المصنع. كذلك هناك مثال آخر هو مصنع نسيج "قدو" في منطقة نهر النيل الذي كان أحد المشاريع التي تم إطلاقها خلال فترة الحكم العسكري الثاني في منتصف السبعينيات. وأُقِيمَ ذلك المصنع بتمويل إيطالي، في إطار جهود الدولة لتعزيز قطاع الصناعة والغزل والنسيج في السودان. ولم يكتمل بناء ذلك المصنع لأسباب مختلفة. وقد كانت تلك الحقبة قد ركزت على جذب الدعم الخارجي والمساعدات التقنية لتطوير الصناعات الوطنية؛ وجاء التمويل الإيطالي ضمن اتفاقيات التعاون الاقتصادي مع عدة دول لتعزيز القطاعات الإنتاجية، بما في ذلك صناعة الغزل والنسيج، بهدف تلبية الطلب المحلي ودعم الاقتصاد الوطني. ورغم الطموحات الكبيرة، لم يكتمل تشغيل المصنع بسبب توقف المشروع قبل دخوله حيز الإنتاج. كان المشروع يهدف إلى تحسين جودة المنتجات وتوفير فرص العمل للسكان المحليين، لكنه واجه تحديات كبيرة في التخطيط والتنفيذ، ما أدى إلى تعطيل تحقيق هذه الأهداف؛ أو ربما لم تُنفذ المشروعات بطريقة استراتيجية تتماشى مع احتياجات الاقتصاد السوداني في ذلك الوقت، حيث تفتقر نظم التخطيط الاستراتيجي في السودان إلى التوثيق لأسباب فشل المشروعات لمعالجتها مستقبلًا. كما أن التقلبات السياسية وعدم الاستقرار في البلاد أديا دورًا كبيرًا في إعاقة تنفيذ المشروعات بشكل فعال، أو حتى كانت سببًا في عدم استمرارها. وجعلت تلك الظروف وغيرها من العسير جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية، مما أضعف قدرة البلاد على الاستفادة من القروض المستلمة.
بالإضافة إلى ذلك، لم تكن الإيرادات الوطنية قادرة على دعم المشاريع بشكل كافٍ، وهو ما أدى إلى تراكم الديون. وأفضى تراجع الإنتاجية الزراعية والصناعية في ظل ضعف البنية التحتية إلى تفاقم الوضع المالي للدولة، مما زاد من أعباء خدمة الديون. وعوضا ًعن أن تحرك القروض النمو الاقتصادي بالبلاد، ساهمت تلك القروض في تحميل السودان عبئًا ماليًا إضافيًا، في وقت كان فيه الاقتصاد يعاني أصلاً من الضعف. وعلى الرغم من الجهود التي بذلها السودان لتخفيف أعباء الديون من خلال المبادرات الدولية، إلا أن تراكم الديون وتدني مستوى النمو الاقتصادي نتيجة للظروف السياسية والاقتصادية الصعبة، جعلا من الصعب تحقيق التوازن بين سداد الديون وتحقيق أهداف التنمية المستدامة.
واستمر السودان بعد عام 1980 في الحصول على قروض من مختلف الجهات المانحة لتلبية احتياجات التنمية في البلاد. وعلى الرغم من التحديات الاقتصادية والسياسية التي واجهها السودان، كانت القروض تُستخدم لتمويل مشروعات كبيرة تهدف إلى تعزيز البنية التحتية والتنمية الاقتصادية. من أبرز الجهات المانحة التي قدَّمت قروضًا للسودان بعد عام 1980 البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى الدول الدائنة الكبرى مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة ودول أخرى من خلال آليات متعددة مثل مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون (HIPC). وكان الغرض من هذه القروض يتمحور حول تمويل مشروعات التنمية في قطاعات متعددة، مثل تطوير البنية التحتية، الزراعة، التعليم، والصحة. كما تم استخدام بعض القروض لدعم الاستقرار المالي وتنفيذ برامج إصلاح اقتصادي لتحفيز النمو في الاقتصاد السوداني. ومع مرور الوقت، تم استخدام بعض القروض أيضًا لدعم قطاع الطاقة، وتطوير مشاريع الري والبنية الأساسية في المناطق الريفية. غير أن هذه القروض لم تُسهم في تحقيق النمو الاقتصادي المستدام بسبب العديد من العوامل التي أتينا على ذكر بعضها من قبل، مثل تقلبات الاقتصاد العالمي، والعقوبات الدولية، والصراعات الداخلية التي أضعفت قدرة الحكومة على استخدام القروض بشكل فعال في تعزيز التنمية المستدامة.
وعلى المدى القريب، يُتوقع أن تستمر أزمة الديون في فرض ضغوط مالية كبيرة على السودان، مما يعيق تنفيذ برامج الإنعاش الاقتصادي ومواجهة التحديات المتزايدة مثل التضخم وانخفاض قيمة العملة المحلية. أما على المدى البعيد، فإن استمرار هذه الأزمة دون إيجاد حلول جذرية قد يؤدي إلى تعميق الفجوة التنموية ويضعف قدرة السودان على تحقيق نمو اقتصادي مستدام. ولتجاوز هذه التداعيات، يحتاج السودان إلى إصلاحات هيكلية واسعة تشمل تحسين إدارة الموارد، تعزيز الشفافية المالية، وتطوير القطاعات الإنتاجية لزيادة الإيرادات المحلية، إلى جانب دعم دولي قوي لتخفيف أعباء الديون وتمويل برامج التنمية المستدامة.
يتطلب إصلاح أوضاع الديون في السودان خطوات استراتيجية شاملة تهدف إلى تحسين الوضع المالي للدولة وتمكينها من الوفاء بالتزاماتها الاقتصادية دون التأثير السلبي على النمو والتنمية. ومن بين الإجراءات التي يمكن أن تساعد في إصلاح الديون: تحسين إدارة الديون وتعزيز الشفافية المالية. ويتطلب ذلك تبني سياسات دقيقة وواضحة لرصد وإدارة الديون الداخلية والخارجية بشكل أكثر فعالية. ويجب أن يكون هناك نظام متكامل لتقييم القدرة على سداد الديون وتحليل المخاطر المالية المحتملة. كذلك، من المهم التفاوض مع الدائنين لتخفيض قيمة الديون أو إعادة جدولتها. يمكن أن يساعد هذا في تخفيف الضغط المالي على الحكومة ويسمح لها بتحويل المزيد من الموارد إلى الاستثمارات التنموية بدلاً من دفع مدفوعات الديون.
كما يُعد تعزيز الإيرادات المحلية من خلال تحسين التحصيل الضريبي وتنويع مصادر الدخل خطوة أساسية. ويمكن للسودان الاستفادة من موارده الطبيعية وغير المستغلة بشكل كافٍ، مثل المعادن والطاقة، لتوليد إيرادات إضافية تساهم في تقليل الاعتماد على القروض الخارجية. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي على السودان تحسين بيئة الأعمال وجذب الاستثمارات الأجنبية. ويمكن أن تساهم الإصلاحات الاقتصادية التي تشجع على التنمية المستدامة والابتكار في قطاعات مثل الزراعة والصناعة والخدمات في تحفيز النمو الاقتصادي وزيادة الإيرادات.
أخيرًا، فإن تعزيز الاستقرار السياسي والاجتماعي يمكن أن يسهم بشكل كبير في تحسين الوضع المالي. فبدون بيئة سياسية مستقرة، سيكون من الصعب جذب الاستثمارات وتحقيق الإصلاحات المطلوبة في قطاعات متعددة، مما يؤثر سلبًا على قدرة الدولة في إدارة ديونها.

nazikelhashmi@hotmail.com

   

مقالات مشابهة

  • خليجي 26: بين كرم البصرة وقيود الكويت.. أين العدالة؟
  • الديون الخارجية والتنمية في افريقيا
  • ريال مدريد يتحدى طموحات باتشوكا غدًا في نهائي كأس إنتركونتيننتال
  • طنجة: سباق من أجل العدالة... محامون يتسابقون في الذكرى المئوية لتأسيس هيئة المحامين
  • وزير المالية: قانون الاستثمار الجديد سينقل اليمن نقلة نوعية في البناء والتنمية
  • داود أوغلو يعلق على شائعات عودته إلى حزب العدالة والتنمية
  • بوتين: طموحات الناتو تتجاوز حدود منطقة مسؤولية الحلف التاريخية
  • العدالة والتنمية: مصالح المواطنين ومشاكلهم لم تعد ضمن جدول أعمال الحكومة
  • إلى معسكر الثورة المضادة: رسالة لن تُنسى
  • السيسي: مستمرون في التنمية الشاملة لتلبية طموحات المصريين