د. نائلة تلس محاجنة جاءت الى العالم مع وصول الكهرباء لقريتها كما أخبرتها والدتها. فاعتبرت انها أتت مع النور فأحبتها في عيون خالقها حيث أسدل ظله في حياتها، برغم عدم فرحة والدها في إنجاب انثى كما كثير من الاباء الذين فضّلوا الذكور ورسخوا في ادراكات الأمهات “التمييز” والذكورية التي يعاني منها جل مجتمعاتنا.

ترعرعت في عائلة وافرة الأبناء وقليلة البنات، والدتها العصامية التي اشتهرت بعطائها، سعت دائما لغرز المسؤولية في روحها فلم تكتف بمساعدتها بالعمل المنزلي انما أيضا في زراعة كل الخضروات البيتية في محيط البيت كجزء مهم يساهم في الاكتفاء الاقتصادي، فترسخ حب الأرض والوطن الذي تمثلت به الانثى الأم، كما افتخرت بتفوقها في مدرستها وهذا ما زاد من حب والدتها لها. ومع انهائها الثانوية العامة بدأ ناقوس خطر تفكير زواجها يشغل والديها حيث لم يسمح لها والدها بإكمال دراستها الجامعية كما سمح لأخوتها من قبلها بسبب أفكاره الذكورية المجحفة.   وشاء القدر أن تتزوج دون اكمالها للدراسة الجامعية، رغم انها لطالما حلمت في صغرها ان تدرس المحاماة لتدافع عن المستضعفين والطبقات المسحوقة كما قرأت في الروايات الادبية، ولكن الواقع مغاير بكل المفاهيم، وقسوة الحياة بأشواك على شكل عرف وتقاليد ومحفوفة باسلاك برؤوس وخزية في وطن غريب. ومع أن الزواج والإنجاب مهمة جليلة إلا أن هاجس الدراسة لم يفارق آثار تفكيرها. لا شك ان المرأة الفلسطينية (الداخل الفلسطيني) في الجامعات الإسرائيلية حالة استثنائية، تواجه تحديات كبيرة بمستويات مختلفة وبأصعدة عديدة. حيث تعتبر هذه الجامعات بيئة تعليمية معقدة ومركبة ومحفوفة بالصعوبات للفلسطينيين عمومًا، والمرأة الفلسطينية خصوصا كونها عربية فلسطينية أولا وامرأة ثانيا وإذا كانت محجبة ثالثا لذلك هي مع تحديات إضافية تنبع من تشابك القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية وبمفهوم اخر اقلية داخل اقلية داخل اقلية اخرى. ولعل أهم هذه التحديات هو الوصول إلى التعليم نفسه. بسبب القيود الاجتماعية الأكثر صرامة في حينه خاصة وأنها متزوجة ولديها أبناء صغار، فهي ملزمة بمسؤولية البيت والعائلة والزوج الذي أيضا لا يتنازل عن أي مركب من المسؤوليات، وان كان أصلا راض عن التعليم!!؟ فقد معه خاضت مسارا شرسا مذلا يغلفه خدش الكرامة وطغي الاستبداد وجنوح التسلط المهين.  بالإضافة لأسباب أخرى عديدة قد نخوض بها في سياق لاحق. لكنها آمنت أن بالعلم يبنى الوطن الراسخ الغائب والذي في حقوله ومن ترابه اشتمت طفولتها رحيق الصمود وعبق الجذور. أما بعد الحصول على فرصة الدراسة في الجامعات تواجه مزيدًا من المصاعب داخل الحرم الجامعي. تبدأ عند أول خطوة لدخول بوابة الجامعة. يقف الحارس الذي يبدو من أصول روسية ولغته العبرية ثقيلة متعجرفا ومتأهبا ومتصيدا ويبدأ بإدخال جميع العابرين دون تفتيش الا هي يوقفها! يطلب بطاقة الهوية ليتحقق منها بنظرات قامعة وغاصبة ولا يكتفي فيفحص كل ما تحمل من أغراض متقززا دون كبح مكنونات مواقفه. هذا التمييز يستهل النظرة الأولى من بعيد وفي الطابور لأنها محجبة يرمقها بنظرات حادة وسليطة. وهنا تجدر الإشارة الى أنها لا تستطيع التعبير عن الاحتجاج لأنه اصلا يضع اعتبارات عديدة للتبرير وقد يدخلها الى مشادات قد لا تحمد عقباها وهي التي تحدّت المعايير الاجتماعية، فلن تجد من يساندها في مواجهات عنصرية كهذه وأول رد فعل قد تتوقعه من ذويها هو “ليش شو جرك تتعلمي!!” هذا المشهد يتكرر مع كل دخول لبوابة الجامعة، فيمزق آنيا كل الطموح والاهداف والشغف نحو المعرفة لتعود وتلملم فتات التمزقات الراهنة داخل المحاضرات التي لها اشكال أخرى من صخب المواجهة.  تدخل المحاضرة الأولى وهي الوحيدة العربية بين جميع الطلبة الاسرائيليين، يرمقونها بنظرات مختلسة، بعضها استعلاء وبعضها استغراب وبعضها خوف وبعضها استخفاف وبعضها اشمئزاز. هي الحالة التي يتجسد بها الاغتراب في الوطن -غربة المكان الذي تغيّر اسمه وشُرّد أهله، وغربة اللغة وغربة الثقافة والهندام والتفكير وووو والقائمة تطول، فتتخبط مشاعرها بين ان تكون او لا تكون. صراع الكيان الذي يستصرخ وجود الأصلانيين، انها حالة من صدمة المواجهة الباردة بين الاغتراب الذاتي وبين الغريب في الوطن الذي تعتريه الغربة. وهي المرة الأولى التي تجتمع مع هؤلاء في سياق أكاديمي في حين نادرا ما كانت طالبة عربية فلسطينية بأروقة الجامعة.  تدخل البروفيسورة وتبدأ موضوع المحاضرة الأولى “الفلسفة في تطور اللغة” وهو الموضوع الذي لطالما أثار في داخلها الكثير من التساؤلات واستهوى مدى تفكيرها في المعرفة حتى انساها الكم الهائل من نظرات التمييز العنصري، والتعامل بصورة عدائية تجاهها بناءً على هويتها الفلسطينية.  هذا الشغف والاصرار نحو المعرفة اجتاح جوارحها كما تجتاح دبابات الاستعمار الأوطان لتخترق وتسيطر على موارد البلاد. جلست في المقعد الأخير، ومع ان لغتها العبرية لم تكن بمستوى الطلاقة الا انها في خضم القتامة الخانقة أطلقت لعنان فكرها ان يلجم الخوف وان تقدِم لطرح مداخلات ميتافيزيقية في الفلسفة التطورية لدى اكتساب اللغة، محاولة في الحوار الفكري والفلسفي للمعرفة وفهم حقيقة في الوجود والصيرورة والكينونة والواقع، هذا أثار اهتمام وإعجاب البروفيسورة التي هي أيضا تحمل افكارها اليهودية النمطية وكلما رأتها ترفع يدها لتشارك، تجاهلتها وهذه احدى أوجه العنصرية المبطنة وعلى شاكلتها ذاقت الكثير. ان أوجه العنصرية بالتعامل تختلف بحيثيات عديدة ومن شخص لآخر، وتتحدد بخلفياتهم وعقائدهم وافكارهم المسبقة ومدى تقبلهم للآخر ومدى معرفتهم به مع التمييز بين الفلسطينية المحجبة والغير محجبة. وهذا أيضا ينتج حالة أكثر ارتباكا في التعامل معهم. تعود الى بيتها منهكة محملة بأثقال من الاستفهامات والتفرقة والتنحية والتهميش والتنكيل ومع كثير من سنابل المعرفة التي تناجي طموحها وتسد قوتها اليومي الذي تحلم به، لتجد وجها آخرا من التمييز من أبناء جلدتها، مجتمعها وعائلتها بسبب انخراطها في التعليم الجامعي، خاصةً أن الثقافة المحلية تنظر إلى الدور التقليدي للمرأة المتزوجة في المجتمع بمثابة رعاية الأسرة والاهتمام بها. فتسمع عبارات تسقيها مرار الاستهزاء وزُعاق التهميش وعلقم التحقير، وأن الان دور تعليم أولادها!! وأكثر العبارات التي لا تنساها من النساء هي ” بعد ما شاب راح الكتاب” ويدخِلن سجال الحرام والحلال والإفتاءات! وهي الصفة البارزة التي يتحلى افراد مجتمعنا بها بإصدار الاحكام وتقمص دور “الحاكم الفيلسوف” بغض النظر عن مستوى المعرفة او الاختصاص. نساؤنا الضحايا لهذا الفكر أحيانا هن الأكثر عداوة لأقرانهن، فيمارسن عليها التنمر والاغتراب الاجتماعي، لتجد نفسها وحيدة في تسلق مسار جبال مليئة بالصخور والمطبات وعليها ان تتزود بالتوازن النفسي والحصانة الداخلية التي تتحلى بقوة دفع جامحة تلاطم الريح وتتجاوز اصطدامات الصخور التي قد تسحقها …. لأنها ستكون برعما اختار النضال من اجل احياء براعم مستقبل واعدة … فالخنوع ان تترك ذاتها صياغة لآخرين لا يفقهون معاني الكرامة… والجهل ان تمنحهم وسام القيادة. تركت الجاثمين على اعتاب الأبواب يسترقون ما يشاؤون من مشاهد، وان يهمسوا ما يشاؤون من أصوات، يوما ما… ستحرقهم ظلال الهامش. ولسان حالها ان حاولوا دفنها ولم يعلموا انها بذرة… فالمعترك هو صراع الإنجاز وملحمة الأهداف وتجاوز الحوائل وتذليل الكوابح ومواجهة الكبوات…. حتى يستنهض المجتمع الى مشارف الوعي والادراك ان العلم والمعرفة لنسائنا هو استرداد واستصلاح واستصواب بوصلة المجتمعات. كاتبة فلسطينية

المصدر: رأي اليوم

إقرأ أيضاً:

السفيرة نائلة جبر تفتتح ورشه عمل لتعزيز قدرات لجان الحماية

في إطار التعاون بين اللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر والمنظمة الدولية للهجرة في مصر، افتتحت السفيرة نائلة جبر ورشة عمل لتعزيز قدرات لجان الحماية.

أكدت السفيرة نائلة في كلمتها على أهمية الشراكة مع المجلس القومي للطفولة والأمومة والتزام الدولة المصرية بتطوير مهارات العاملين في هذا المجال.

كما  تناولت السفيرة محاور متعددة منها التعريف بدور اللجنة الوطنية، ومساهمتها في إعداد التشريعات الخاصة بمكافحة تهريب المهاجرين والاتجار بالبشر، إلى جانب الزيارات الميدانية للمحافظات الأكثر تصديرًا للهجرة غير الشرعية. 

كما تم تسليط الضوء على أهمية التعليم الفني ومجالات العمل المستقبلية، ودور لجان الحماية في التعامل مع البلاغات والشكاوى، خاصة فيما يتعلق بأشكال الاتجار بالبشر مثل استغلال الأطفال بلا مأوى، والعمل القسري، وزواج الصفقة.

مقالات مشابهة

  • في شحيم... الجماعة الإسلامية نفت وجود أسلحة للحزب في مركزها
  • شاهد.. فيديو من داخل الطائرات الإسرائيلية التي أغارت على مدينة الحديدة
  • ‏عــاجــل - مصادر لـ الحدث العربية: الشخص الثاني الذي قتل مع نضال عبد الخالق هو عماد عودة
  • ‏عــاجــل - العربية.. المستهدف بغارة الكولا نضال عبد الخالق المسؤول بالجبهة الشعبية الفلسطينية
  • الأسباب الخلفية لمعركة طاعة المرأة زوجها.. صراع على السلطة؟
  • كلمة مديرة منظمة المرأة العربية في القمة الليبية
  • السفيرة نائلة جبر تفتتح ورشه عمل لتعزيز قدرات لجان الحماية
  • لشكر: خطاب القضية الفلسطينية يجب أن يكون عقلانيا وكفى من مخاطبة النخاع الشوكي بالحماس وباللاءات التي تسقط!
  • 12 طعناً بنتائج الانتخابات النيابية أمام محكمة التمييز
  • هشام الدكيك.. مهندس الطفرة التي تشهدها كرة القدم داخل القاعة في المغرب