سودانايل:
2025-04-26@14:17:51 GMT

أمريكا وتقديرات مخالفة للنخب السودانية

تاريخ النشر: 14th, February 2024 GMT

زين العابدين صالح عبد الرحمن
أن المتغيرات في الفكر الإنساني لابد أن تنعكس في طريقة التفكير وسط قطاع واسع من الشباب الداعم للتغيير. لذلك أحاول أن اعرض رؤيتين من مدرستين أيديولجيتين مختلفتين في طريقة التفكير، ربما تقربان عملية التقديرات السياسية بهدف فهم أختلاف في طريقة استيعاب الأحداث و خطاب الغرب من جانب، و فهم ثقافات متعارضة من جانب أخر.

.
في إحدى حواراتي مع الخاتم عدلان في القاهرة في النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين، بعد خروجه من الحزب الشيوعي، كان يعتقد أن القوى التي تنادي بالسودان الجديد هي قوى مختلفة عن القوى التقليدية التي قادت العملية السياسية منذ الاستقلال حتى انقلاب الجبهة الإسلامية القومية في يونيو 1989م، هذا الاختلاف أفرز مشروعين الأول المشروع التقليدي الذي يسعى للمحافظة على الموروث الثقافي السياسي المتعلق بعلاقة القوة و السيطرة.. و مشروع جديد يتشكل من خلال رؤى فكرية تحاول أن تخلق أرضية جديدة لها تنسيق بين القوة و أدوات السيطرة. و ربما يكون رؤية الخاتم لم تكتمل لرحيله السريع دون أن يرى المتغيرات التي حدثت على المستويين.. الأول الوعي الجديد الداعم لمسألة التغيير وسط شباب جديد لهم رؤية مختلفة، رغم أختلاف المدارس الفكرية التي ينطلقون منها، و الثاني التطور الذي حدث في وسائل الاتصال و جعل المعلومة متاحة و الكل قادر على أن يقدم أرائه بقوة. هذا المتغير تم حصاره في الفترة الانتقالية بقوى تتمشسك بالموروث التقليدي.
في حوارات كانت قد أجرتها " قناة الشروق" مع الدكتور التجاني عبد القادر في برنامج "مقاربات فكرية"و حول تطرقه لقضايا الحرية و الديمقراطية قال عبد القادر (كنا نعبر عن قضية الحرية والعدل والديمقراطية حينما كنا في المعارضة, سنوات طويلة كنا نتحدث عن الحريات والعدالة وطيلة فترة نميري كان هذا هو الشعار .لكن بكل أسف في المراحل اللاحقة حينما تحولنا من المعارضة إلى مرحلة الحكم توارت هذه الشعارات وضعفت بعض الشيء وطغت قضايا أخرى وهذه واحدة من سلبيات الحركة الإسلامية ليس هناك اتساق بين مرحلة المعارضة ومرحلة الدولة( الدكتور التجاني يوازن بين مرحلتين في الطرح السياسي " المعارض و الحكم" و الفارق في الممارسة.. و بعد ثورة ديسمبر 2018م و الخلافات التي حدثت و الفشل الذي أصاب الفترة الانتقالية. كتب الدكتور التجاني عبد القادر مقالا بعنوان " الثنائيات المدمرة" يقول فيه (تمنيت في رسالة سابقة بعنوان (بصيص من الأمل) أن يتجاوز الجيل الجديد ثنائية "علماني/اسلامي" المدمرة. وقد استشكل البعض هذه العبارة، واستغرب آخرون صدورها عنى، وطلب آخرون مزيدا من التوضيح. وها أنا أعود لهذه المسألة فأقول إن ثنائية علماني/اسلامي تشير الى قريب مما بات يعرف في عالم الصفقات "بالمعادلة الصفرية"؛ والتي تعنى أن ما يناله هذا الطرف من أرباح سيعنى بالضرورة خسرانا مبينا على الطرف الآخر، وأن ما يحققه هذا الطرف من تقدم سيكون بالضرورة خصما من حظوظ الطرف الآخر، وهكذا تستمر العلاقة الصفرية بين الطرفين: خصومة لا تنقطع و"تدمير متبادل"، علاقة لا يحيا فيها طرف الا بإهلاك الآخر، علاقة لا توجد فيها منطقة "وسطى"، سواء على المستوى النفسي-الفكري أو على المستوى الاجتماعي-السياسي(هاتان رؤيتان رغم إختلاف المدارس الفكرية، فالذي يتمعن في محتوى الرؤيتين، يجد أن الهدف المقصود من كليهما؛ كيف تستطيع النخب السياسية الجديدة أن تتجاوز المراحل السابقة لتخلق واقعا جديدا يتجاوز الموروث. و الهدف من تجاوز الموروث، أن لا يعطيك نتيجة مثل النتائج السابقة.
هنا تكمن معضلة التفكير عند النخب السياسية، و هي عدم مقدرتها على تجاوز الموروث الثقافي السياسي، لكي تؤسس طريقة جديدة للتفكير العقلاني. و إذا حاولنا معرفة كيف تفهم النخب السياسية خطاب الغرب المتعلق بالقضية السودانية و كيفية التعامل معه.. تجد إن النخب واقعة في مشكلة فهم الآخر وفقا لثقافته، أنها تطالب الآخرين أن يتعاملوا مع القضية السودانية بذات الطريقة التي تفكر بها.. لكي لا نقع في التنظير.. نقدم أمثلة على ذلك من خلال الخطاب أو رؤية المحللين لتصورات الغرب.. بعد توقيع " الوثيقة الدستورية" و تم تشكيل مجلس السيادة و الوزراء، كان قائد الدعم السريع برتبة فريق " جنرال" و أصبح نائب رئيس مجلس السيادة دون أي اعترض من أي جهة. أي أصبح الرجل الثاني.. كان يستقبل سفراء الدول في القصر الجمهوري بهاتين الصفتين.. و عندما وقعت الحرب كان يشغل الوظيفتين، و عندما يقول الغرب " صراع بين جنرالين و اللقاء بين الجنرالين" هذا بحكم الواقع الذي كانوا يتعاملون معه.. أما إغالة حميدتي و أعتبار قواته ميليشيا متمردة هذه تعتبر قرارات أفرزتها الحرب، و هذه لا تحدث جديدا في الرؤية السابقة.. الذي يتغير هو رؤية الجيش لهذه الميليشيا، و الذين يساندون الجيش، و ليس الغرب مجبرا أن يلتزم بها. و القضية الثانية "الحكومة المدنية" الاعتقاد أيضا أن البلاد كان فيها مجلسين " سيادة و وزراء" بعد التغيير الذي حدث في 25 أكتوبر 2021م، تصبح الدعوة لرجوع لمدنية السلطة. و مدنية السلطة لا تعني رجوع أحزاب بعينها و لكن المطلوب الفكرة أن يكون على سدة الحكم قوى مدنية. هذا فهم الغرب في عملية التوصيف السياسي للمشكل.
هناك العديد من المتغيرات التي حدثت في الموقف الغربي من الحرب.. تشكل في موافقة الغرب على إبعاد البعثة الأممية من المشهد السياسي.. الثاني ذهاب السفير الأمريكي جون جودفري للقاهرة من قبل، و الالتقاء بقوى سياسية و تأكيده توسيع قاعدة المشاركة. كان هذا تحولا جديدا في الرؤية الأمريكية.. الثاني أن أمريكا تريد تغيير سفيرها و تبعث مبعوثا للإدارة هذه تتطلب رؤية جديدة بعيدة عن رؤية وزارة الخارجية التي كانت مناصرة قوى مدنية بعينها.. القرارات الأخيرة لمجلس الشيوخ الأمريكي تؤكد موقفها السالب من ميليشيا الدعم السريع.. هناك من يعتقد أن خطاب الغرب عن الحكومة المدنية مقصود منه إرجاع " قحت المركزي أو تقدم" للسلطة و هذا فهم خاطيء.. و يعود هذا الفهم لحركة هؤلاء الخارجية، و اتصالاتهم مع الغرب في الوقت الذي عجزت فيه القوى الأخرى أن يكون لها نشاطا او اهدافا واضحة.. و هذا ما كان قد عبر عنه مالك عقار عضو مجلس السيادة عندما طالب القوى الأخرى أن تتفق على الحد الأدني و تتحرك كما يتحرك الآخرين. و لذلك إذا أرادت القوى السياسية أن تتعامل مع الغرب يجب أن تفهم ثقافة الغرب.. و لا تبني تحليلاتها وفقا لثقافتها الخاصة التي لا تفهم الأخر.. و نسأل الله حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

نحو عالم ما بعد الغرب: الترامبية وإعادة توزيع مناطق النفوذ في العالم

أثناء زيارتي للبرازيل للمشاركة في بعض الأنشطة العلمية، تعرفت على بعض جوانب الفكر السائد هنا والذي يعبر عن تيار معادٍ للمقاربات الكولونيالية الغربية، وذلك من أجل إعادة تشكيل عالم ما بعد الغرب. إنها صيحة من أجل صعود الجنوب العالمي والتي تعبر عنها بعض المؤشرات الجديدة مثل صعود الصين وتوسع مجموعة بريكس وانضمام الاتحاد الأفريقي لمجموعة العشرين وهلم جرا. وفي هذا السياق، جاءت رئاسة دونالد ترامب الثانية للولايات المتحدة، والتي بدأت في عام 2025، لتمثل أحد أعراض التحولات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية العميقة. وربما يمثل هذا العصر الجديد ترسيخاً لإجماع واسع النطاق بين القوى الكبرى والقوى الصاعدة، حيث يعترف الجميع ضمناً أو صراحةً بأن عصر الأحادية القطبية الذي تشكل في أعقاب انهيار الإتحاد السوفيتي قد ولى وراح أوانه.

بيد أن المقلق حقاً أن بعض ملامح الفوضى في النظام الدولي ارتبطت بتراجع نفوذ الولايات المتحدة تحت قيادة ترامب الثانية، وبدعم من كبار رجال الأعمال في شركات التكنولوجيا الكبرى والنظام المالي المهيمن. ينعكس ذلك في شعار “ماجا” أو “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” استناداً إلى الأسس الإمبريالية في القرن التاسع عشر التي طبقها عدد من رؤساء الولايات المتحدة آنذاك. وعليه، من أجل فهم سياسات إدارة ترامب الثانية ينبغي العودة إلى الوراء عند بداية تشكيل السياسات التوسعية الأمريكية.
استلهام العصر الذهبي للتعددية القطبية

من الواضح أن دونالد ترامب استلهم سياسات أربعة رؤساء أمريكيين من القرنين التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حيث دمج إرثهم في استراتيجيته السياسية. كان الأول هو جيمس مونرو (1817–1825)، الذي عُرف بـ”مبدأ مونرو” الرافض للتدخل الأوروبي في الأمريكتين، ولعل تأثيره واضح على سياسة ترامب الخارجية “أمريكا أولاً”، التي ركزت على السيادة الوطنية ومقاومة العولمة (الانعزالية الجديدة). أما الرئيس الثاني فهو أندرو جاكسون (1829–1837)، الزعيم الشعبوي المدافع عن “الرجل العادي”، والذي روّج لواحدة من أكبر عمليات الإبادة الجماعية للشعوب الأصلية بإصداره قانون إبعاد الهنود عام 1830. لقد ألهم جاكسون خطاب ترامب المناهض للنخبة بحسبانه شخصية من خارج المؤسسة، وبسبب جاذبيته للناخبين من الطبقة العاملة.

ومن جهة ثالثة أصبح ويليام ماكينلي (1897–1901)، المُلقب بـ”رجل التعريفات” بسبب سياساته التجارية الحمائية نموذجاً لاستخدام ترامب العدواني للتعريفات الجمركية لحماية الصناعات الأمريكية. لقد صعد كل من ويليام ماكينلي ودونالد ترامب إلى الصدارة من خلال الدعوة إلى سياسات تجارية حمائية، حيث اشتهر ماكينلي بقوله أنه “رجل التعريفة الجمركية”. رأى كلا الرئيسين أن التعريفات الجمركية أداة لحماية الصناعات والوظائف الأمريكية من المنافسة الأجنبية. لقد فضل ماكينلي، مثل ترامب، في البداية تعريفات عالية على السلع، كما يتضح من قانون تعريفة ماكينلي في 1 أكتوبر 1890، الذي رفع متوسط الرسوم على الواردات إلى 49.5٪. ومع ذلك، تطور نهج ماكينلي عندما أدرك إمكانية المعاملة بالمثل التجارية وحاجة أمريكا إلى أن تصبح دولة تجارية. بحلول الوقت الذي أصبح فيه رئيساً في 1897، دافع ماكينلي عن خفض الحواجز التجارية من خلال اتفاقيات متبادلة، وفي خطابه الأخير في 5 سبتمبر 1901، أكد أن “الحروب التجارية غير مربحة”. من ناحية أخرى، تبنى ترامب موقفاً أكثر صدامية، عندما قرر في وقت سابق من هذا العام تطوير التعريفات الجمركية المتبادلة على الواردات إلى الولايات المتحدة، وذلك في إطار الوفاء بوعده الانتخابي “العين بالعين” بشأن مسائل التجارة العالمية. في حين أن كلا الرئيسين قد اشتركا في تركيز أوّلي على الحمائية، فإن تحول ماكينلي في النهاية نحو المعاملة بالمثل التجارية يقدم درساً مفيداً لترامب، لا سيما في مسالة المرونة والقدرة على التكيف في العلاقات المعقدة مع القوى الاقتصادية مثل الصين. ويقترح روبرت ميري، كاتب سيرة ماكينلي، أن ترامب يجب أن يفكر في تطور سياسات ماكينلي، مع الاعتراف بأنه في حين أن التعريفات يمكن أن تحمي العمال الأمريكيين في البداية، فإن اتباع مقاربة أكثر دقة في التجارة أمر ضروري لتحقيق النمو الاقتصادي المستدام والتعاون الدولي.

أخيراً، أثر الرئيس ثيودور روزفلت (1901–1909)، الذي ركز على القوة الوطنية والقيادة العالمية الحازمة، على خطاب ترامب حول استعادة الهيمنة الأمريكية، وإن كان ترامب قد ابتعد عن الإصلاحات التقدمية لروزفلت. ولاشك أن هذه الشخصيات التاريخية أسهمت في تشكيل التركيبة الشخصية المعقدة للرئيس ترامب والتي تجمع بين الشعبوية والحماية الاقتصادية والنزعة الوطنية، وذلك بما يتناسب مع التحديات السياسية والاقتصادية الحديثة.
نحو تعددية قطبية مغايرة

لقد برزت الولايات المتحدة كقوة عظمى صاعدة خلال القرن التاسع عشر، حيث عززت هيمنتها الإقليمية في الأمريكتين عبر سردية “مبدأ مونرو”، بينما شرعت في الانغماس المتزايد بالشئون العالمية، متحديةً بذلك التقسيمات التقليدية لمناطق النفوذ في الصين التي رسمتها القوى الأوروبية. وفي هذا السياق، أعلنت واشنطن عن ضرورة منح جميع الدول حقوقاً متساوية في التجارة مع الصين، وهو الموقف الذي عُرف لاحقاً باسم سياسة “الباب المفتوح” أواخر القرن ذاته، بهدف إعادة توزيع مناطق النفوذ القائمة والحفاظ على امتيازات متكافئة للقوى الاستعمارية الغربية. وعلى الصعيد الأمريكي، ارتكز “مبدأ مونرو” على فكرة “مناطق النفوذ”، بالادعاء بأحقية الولايات المتحدة في اعتبار القارة الأمريكية بأكملها بمثابة “حديقة خلفية” لها، مع إصرارها على إبعاد القوى الأوروبية وغيرها خارج النصف الغربي من الكرة الأرضية، حيث مثلت أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي النطاق الجغرافي الطبيعي لهذه الهيمنة الصاعدة في إطار التشكيل الاجتماعي الرأسمالي الأمريكي.

ومن جهة ثانية، شكلت حقبة الحرب الباردة النموذج الأكثر وضوحاً لتقسيم العالم إلى مناطق نفوذ بين الكتلة الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة والكتلة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفييتي، حيث تجسد هذا التقسيم عبر تحالفات عسكرية مثل حلف الناتو وحلف وارسو، مع تهديد دائم بالرعب النووي والدمار المتبادل. وقد خلّف هذا النظام الثنائي القطبية إرثاً من “الحروب بالوكالة” في العالم الثالث، التي تحولت إلى ساحات لتصفية حسابات القوى العظمى، فيما قاومت دول الجنوب هذا الترسيم عبر مبادرات مثل مؤتمر باندونج الأفروآسيوي (1955) وحركة عدم الانحياز، بالإضافة إلى مؤتمر بانكوك لحقوق الإنسان (1993) الذي دافع عن رؤية ثقافية نسبية لحقوق الإنسان مع التركيز على التنمية الاقتصادية والاجتماعية كشرط أساسي لها، مؤكداً على مبادئ السيادة الوطنية وعدم التدخل.

أما في الوقت الراهن وفي مرحلة ما بعد الحرب الباردة، يواجه دونالد ترامب في ولايته الثانية- سيناريو تعددية قطبية مختلفة جذرياً عن نموذج القرن التاسع عشر الإمبريالي، حيث تُعبّر التعددية الحالية عن “تعددية بعيدة عن المركزية الأوروبية” تبرز فيها مراكز قوى جديدة، خاصة في آسيا بقيادة الصين، كواقع تاريخي في ظل الفوضى النظامية العالمية. ولا يخفى أن الغرب يعيش في هذا الإطار أزمات اجتماعية وسياسية متصاعدة، بينما تتصاعد قوة الصين كتحدٍّ للنظام الرأسمالي الاستقطابي، في مشهد يعيد ترتيب التوقعات الجيوسياسية ويسلط الضوء على استحالة استعادة الهيمنة الأمريكية عبر النيوليبرالية. وعلى الرغم من أن إدارة ترامب تسعى إلى إحياء نموذج القرن التاسع عشر في تحديد مناطق النفوذ عبر اتفاقيات صريحة وضمنية مع القوى الكبرى، يظل التساؤل المركزي حول استعداد قوى مثل الصين وروسيا لتقاسم هذه الرؤية القائمة على التقسيم الإمبريالي الجديد.
مرحلة الفوضى أو النظام الذي لم يولد بعد؟

غالباً ما يتم تحليل مشهد النظام الدولي المتحول من خلال أطر مختلفة، مع وجود نموذجين بارزين هما النظام العالمي “جي -صفر” أو (G- 0) ومجلس القوى الجديد. ويتميز النظام العالمي “جي-صفر” الذي اقترحه ايان بريمر بغياب القيادة العالمية، مما يؤدي إلى زيادة عدم الاستقرار وتوفير مزايا لجهات فاعلة معينة. ولاشك أن هذه البيئة تدعم صعود القوى الإقليمية وتشكل تحديات للتعاون الدولي، كما يتضح في الحالات التي تسعى فيها دول أو تكتلات منفردة إلى مصالحها دون وجود استراتيجية عالمية متماسكة. على سبيل المثال، توضح الاختلافات في مقاربات التخفيف من تغير المناخ بين الدول الكبرى هذا النقص في القيادة الموحدة. في المقابل، يتصور مجلس القوى الجديد مجموعة توجيهية تتكون من ستة فاعلين عالميين: ربما يمكن الحديث عن الولايات المتحدة والصين والهند وروسيا واليابان والاتحاد الأوروبي. وتهدف هذه المجموعة إلى التخفيف من حدة التنافس بين القوى الكبرى ومعالجة التهديدات العابرة للحدود الوطنية مع الحفاظ على القيم الأساسية مثل السيادة والسلامة الإقليمية. مثال على ذلك يمكن أن تكون الجهود المشتركة التي تبذلها هذه القوى لمكافحة الأوبئة العالمية أو لوضع معايير للأمن السيبراني، مما يعكس اتباع مقاربة موحدة بشان التنسيق لمواجهة التحديات المشتركة. وربما يعكس هذا النموذج مفهوم مجلس أوروبا في القرن التاسع عشر.

ختاماً، فإن صعود الجنوب العالمي في عصر الترامبية يعكس تحولاً جوهرياً في النظام العالمي، حيث تسعى الدول النامية إلى تعزيز استقلالها السياسي والاقتصادي وسط تراجع الهيمنة الغربية التقليدية. ولعل قيام البرازيل بإعادة فرض التأشيرات على مواطني الولايات المتحدة وكندا وأستراليا يقدم في دلالته الرمزية تعبيراً عن القدرة على الرد. وفي مواجهة السياسات الإمبريالية متعددة الأقطاب التي تتبناها إدارة ترامب، يقدم الجنوب العالمي نموذجاً بديلاً للتعاون الدولي يرتكز على مبادئ باندونج وعدم التدخل واحترام السيادة. وعليه، يصبح الجنوب العالمي مع تصاعد المنافسة بين القوى الكبرى محوراً أساسياً في تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب، حيث تلعب مبادرات مثل مجموعة بريكس ومبادرة الحزام والطريق دوراً محورياً في تعزيز التعاون بين دول الجنوب. ومع ذلك، فإن هذا التحول لا يخلو من التحديات، إذ يتطلب ذلك تحقيق توازن دقيق بين القوى العالمية المتنافسة وتعزيز التعاون الإقليمي لضمان التنمية المستدامة والحوكمة العادلة.

أ. د. حمدي عبد الرحمن حسن – بوابة الأهرام اليوم
أستاذ العلوم السياسية في جامعتي زايد والقاهرة

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • تحرير 141 مخالفة للمحلات التي لم تلتزم بقرار مجلس الوزراء بالغلق لترشيد الكهرباء
  • الأمير عبدالعزيز بن سعود بن نايف يرفع التهنئة للقيادة بمناسبة النجاحات والمنجزات التي حققتها رؤية المملكة 2030 في عامها التاسع
  • شاهد بالفيديو.. سيدة الأعمال السودانية هبة كايرو تدخل في وصلة رقص مثيرة مع الفنانة إيمان أم روابة داخل “الكافيه” الذي تملكه بالقاهرة
  • تحرير 173 مخالفة للمحلات التي لم تلتزم بقرار الغلق
  • حزنت جدا للمصيبة التي حلت بمتحف السودان القومي بسبب النهب الذي تعرض له بواسطة عصابات الدعم السريع
  • نحو عالم ما بعد الغرب: الترامبية وإعادة توزيع مناطق النفوذ في العالم
  • ترامب يعلنها ويجدد المخوف.. العد التنازلي بدأ للدول التي لم تتوصل لاتفاق تعرفة مع أمريكا
  • وزير الري: محاضر مخالفة للأراضي الرملية التي تستخدم الري بالغمر
  • الإمارات.. رؤية شاملة لإنهاء الأزمة السودانية
  • شاهد بالفيديو.. سيدة الأعمال السودانية هبة كايرو تتحول لمطربة وتغني داخل أحد “الكافيهات” التي تملكها بالقاهرة