من الحسم إلى الطوفان.. هكذا قدمت غزة تجربتها في مقاومة الحصار
تاريخ النشر: 14th, February 2024 GMT
منذ فوز حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بالانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، فرض الاحتلال حصارا سياسيا واقتصاديا على الضفة الغربية وقطاع غزة، ثم تركز هذا الحصار على غزة عقب الحسم العسكري وانفراد حماس بحكم القطاع وخروجها من مشهد الحكم بالضفة المحتلة عام 2007.
وهدف الاحتلال من خلال حصاره لمعاقبة الفلسطينيين على انتخاب حركة ترفع شعار المقاومة و"كيّ وعيهم" بما يمنعهم من تكرار فعل كهذا، إضافة إلى محاولة تغيير فكر وإستراتيجية حماس للقبول بالانخراط في مسار التسوية السلمية والتخلي عن العمل المقاوم.
ولم يكن موضوع الحصار غائبا عن دوافع حماس في القيام بعملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما زال في صلب التدافع بخصوص شروط وقف الحرب التي يدور التفاوض حولها.
وفي ضوء مركزية ملف الحصار سياسيا واقتصاديا وعسكريا، نستطلع فيما يلي مفهوم الحصار وأهدافه وطرق مقاومته تقليديا، وتجربة قطاع غزة بهذا الصدد.
تكتيك الحصار وأهدافهارتبط الحصار تاريخيا بحالة الحرب، إذ كان تكتيكا يهدف إلى إجبار دولة أو مدينة على الاستسلام، من خلال قطع المؤن والإمدادات العسكرية عنها لفترة طويلة.
ومن أقدم التجارب بهذا الشأن حصار الإسبارطيين للأثينيين في القرن الخامس قبل الميلاد. وكان الحصار في حالة السلم، وترتيبات العقوبات الاقتصادية، حاضرين أيضا في اليونان القديمة.
وتناول الفيلسوف الصيني الشهير صن تزو تكتيك الحصار في كتابه "فن الحرب" محذرا من مخاطره على المهاجمين أغلب الأحيان.
واستمر الحصار كتكتيك مركزي منذ العصور الوسطى إلى الوقت الحالي، مع تطور أشكاله، ودعمه بغطاء سياسي دولي من منظمة الأمم المتحدة، كما حدث في حصار العراق وليبيا والسودان.
حصار العراق
ويعد حصار العراق من الأمثلة على استخدام الحصار في وقت السلم لتحقيق أهداف سياسية، إذ فرض القرار الأممي رقم 661، في أغسطس/آب 1990، عقوبات اقتصادية خانقة عليه لتجبره على الانسحاب الفوري من الكويت، لكنّها استمرت عقب ذلك نحو 13 عاماً، ودمرت، هي والحرب، مقومات الدولة المدنية والعسكرية على حد سواء. وهذا ما دفع دينيس هاليداي مساعد الأمين العام الأممي ومنسق الشؤون الإنسانية بالعراق للاستقالة عام 1998.
ووصف هاليداي ما رآه لدى زيارته العراق حينها -في مقابلة أجراها مع موقع "العالم ما بعد الحرب- بقوله: إن العقوبات كانت شاملة وذات نهايات مفتوحة، بمعنى أنها تطلبت قرارًا من مجلس الأمن لإنهائها.
وفي حرب الخليج، قامت الولايات المتحدة وبدعم من بريطانيا وبعض الدول بقصف العراق واستهدفت البنية التحتية المدنية، بما في ذلك أنظمة الاتصالات والطاقة الكهربائية، مما قضى على إنتاج الغذاء والبستنة وجميع ضروريات الحياة الأساسية. كما أغلقوا الصادرات والواردات، وتأكدوا من أن العراق غير قادر على تصدير نفطه الذي كان المصدر الرئيسي لإيراداته في ذلك الوقت.
وقام المحاصرون باستخدام سلاح اليورانيوم المنضب، وأدى التراكم الهائل للمخلفات النووية إلى انتشار سرطان الدم بين الأطفال. وفي الوقت نفسه، حظرت واشنطن ولندن بعض مكونات العلاج، وبدا الأمر مرة أخرى إبادة جماعية إذ حُرم الأطفال العراقيون من حقهم في البقاء على قيد الحياة.
وفي تحليلهما للحصار وأهدافه، رأى الباحثان العراقي طارق يوسف إسماعيل والأميركي وليام حداد في كتابهما "العراق.. الضريبة البشريَّة للتاريخ" أن الحصار كان مخالفا للقانون الدولي وأن الدوافع الحقيقية لواشنطن ولندن كانت الهيمنة على الشرق الأوسط الذي يحتوي على أكبر موارد النفط وأغناها، والسعي لتحييد نفوذ العراق.
وبالنظر لهذا السلوك من الولايات المتحدة وبريطانيا والصمت الأممي تجاهه، يمكن فهم تجرؤ دولة الاحتلال على فرض الحصار على الفلسطينيين لأسباب سياسية، وهي تصويتهم بنسبة مرتفعة لصالح حماس بالانتخابات التشريعية، وتشديدها الحصار على القطاع عقب سيطرة حماس عليه، وصولا إلى قطع الماء والكهرباء والوقود عنه عقب "طوفان الأقصى" دون خوف من ملاحقة أو محاسبة دولية.
أنواع الحصار
يطلق مصطلح الحصار عادة على نوعين هما: الحصار الشامل والعقوبات الاقتصادية، وتفرق تعريفات الحصار بين ما هو فعّال أو غير فعّال أو شكليّ، ويرتبط الأمر بمدى القدرة على إنفاذه.
وعلى سبيل المثال، تمكنت إيران من الالتفاف على العقوبات الدولية بطرق منها اتفاقات المقايضة المعززة بتحركات سياسية وعسكرية تسعى لنزع شرعية العقوبات، والتلويح باستخدام القوة الخشنة لحماية صادراتها واستهداف مصالح الدول التي تسعى لتطبيق إجراءات الحصار. وسلوك كهذا يستهدف إبقاء الحصار في حالة غير فعالة.
ولم تنجح 6 عقود من العقوبات الأميركية على كوبا في تغيير سياستها، رغم إسهامها في المعاناة الواسعة النطاق للشعب الكوبي، والأمر شبيه في حالة كوريا الشمالية، حيث عزز النظام تحالفه مع خصوم واشنطن، وطوّر برنامجا نوويا وصناعات عسكرية عزّرت قوته وأضعفت احتمالات تعرضه لهجوم خارجي.
وتمكن البوسنيون من تحييد فعالية حصار الصرب لعاصمتهم سراييفو الأعوام 1992- 1996 من خلال حفر نفق زوّد المدينة بالمقاتلين والاحتياجات المدنية والعسكرية، مما أدّى إلى تغيير مسار الحرب وأسهم في نيلهم الحكم الذاتي.
حصار غزةويعدّ ما يتعرض له قطاع غزة مزيجا من العقوبات الاقتصادية في أوقات الهدوء والحصار الشامل أوقات الحرب، ويوثق المرصد الأورومتوسطي هذا بقوله إن إسرائيل فرضت الحصار على القطاع عقب فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية، ثم شددته بعد سيطرتها عسكريًا على القطاع في يونيو/حزيران 2007، إذ أعلنت هذا القطاع كيانًا معاديا.
كما فرضت إسرائيل عقوبات إضافية مسّت على نحو مباشر بالحقوق الأساسية للسكان، وشمل ذلك فرض قيود مشددة على دخول الوقود والبضائع وحركة الأفراد مـن وإلى القطاع.
وعلى مر السنين، عملـت السـلطات الإسرائيلية علـى ترسيخ سياسة عـزل القطاع، من خلال فصله عـن الأراضي الفلسطينية بالضفة والقدس الشرقية، إلى جانب التحكم في كمية ونوعية البضائع والمواد التي تدخل إلى القطاع وحظر المئات منها، مما تسبب بركود اقتصادي شامل، وارتفاع حاد في معدلات الفقر والبطالة.
وعلاوة على ذلك، أثّر الحصار الإسرائيلي على نحو خاص على القطاع الصحي في غزة، إذ لا تتوفر كثير من الأصناف واللوازم الطبية الأساسية، ويضطر كثير من المرضى للانتظار لأشهر من أجل إجراء العمليات الجراحية.
ما بعد "طوفان الأقصى"
أما عقب السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فقد أعلنت إسرائيل الحصار الشامل على غزة بعده بـ48 ساعة من قبل وزير الدفاع يوآف غالانت، كما أمر وزير الطاقة يسرائيل كاتس بقطع إمدادات المياه عن غزة.
ووصف تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد" -في يناير/كانون الثاني 2024- أثر الحصار المترافق مع الضربات العسكرية الإسرائيلية على القطاع بقوله "إن الظروف المعيشية في غزة في أدنى مستوياتها منذ بدء الاحتلال عام 1967".
بينما أشار تقرير "التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي" المدعوم أمميا، والصادر في 21 ديسمبر/كانون الأول 2023 إلى أن "أكثر من 25% من الأسر في القطاع تعاني من الجوع الشديد". كما أكد أن جميع سكان غزة "يعانون من أزمة أو مستويات أسوأ من الانعدام الحاد للأمن الغذائي".
وأظهر أيضا أن 26% من السكان (نحو 577 ألف شخص) قد استنفدوا إمداداتهم الغذائية وقدراتهم على التكيف، ويواجهون جوعا كارثيا (المرحلة الخامسة من التصنيف المرحلي المتكامل) ومن الجوع الحاد.
وقال التقرير إن هناك خطرا لحدوث المجاعة في غزة خلال الأشهر الستة اللاحقة لصدوره "إذا استمر الصراع العنيف وتقييد وصول المساعدات الإنسانية".
ووفقا للأمم المتحدة تُعرف المجاعة بأنها "الجوع الذي تواجه فيه ما لا يقل عن 20% من الأسر نقصا شديدا في الغذاء، ويعاني 30% من الأطفال على الأقل من سوء التغذية الحاد، وتحدث في ظله أكثر من حالتي وفاة يوميا من بين كل 10 آلاف شخص بسبب الجوع الشديد أو نتيجة لسوء التغذية والمرض معا".
مقاومة حصار غزةمنذ فوز حماس بالانتخابات التشريعية وظهور بوادر الرفض الدولي لخيار الشعب الفلسطيني، سعت لتشكيل حكومة تجمع مختلف أنواع الطيف السياسي الفلسطيني بما يضعف شرعية أي إجراءات عقابية دولية على الفلسطينيين، إلا أن الضغوط الدولية والمراهنة على إفشال أي حكومة تقودها المقاومة منع تشكّل حكومة كهذه آنذاك.
كما سعت حماس إلى تصدير خطاب سياسي يخفف الضغوط الدولية وتداعياتها المعيشية على الشعب بالضفة والقطاع، فاعتمدت "وثيقة الوفاق الوطني" أساسا لبرنامج حكومة الوحدة الوطنية برئاسة اسماعيل هنية ومشاركة وزراء من حركة فتح والجبهة الديمقراطية وغيرها من القوى الفلسطينية. إلا أن ذلك لم يمنع من استمرار الحصار.
وعام 2007، انحصرت سلطة الحكومة التي ترأسها حماس في القطاع، وشدّد الاحتلال حصاره على القطاع، وتعاونت مصر مع اشتراطات الاحتلال، وسلّمت له بالحق في تقرير ما يدخل وما يخرج منه عبر معبر رفح.
تخفيف الحصار
وفي مواجهة هذا الواقع سعت حماس لتخفيف هذا الحصار بوسائل عديدة:
على المستوى السياسي أدارت مفاوضات طويلة للمصالحة مع فتح، وكان من أهم أهدافها تخفيف الحصار على القطاع، وتولي السلطة مسؤولية توفير المستلزمات المعيشية لأهل القطاع، إلا أن ربط السلطة المعلن للمصالحة باشتراط موافقة حماس على اتفاقيات أوسلو كان سببا رئيسيا في عدم نجاح هذا المسار. على صعيد العلاقات مع مصر، تجنّبت حماس التصعيد الإعلامي والسياسي حرصا على تخفيف ظروف الحصار، وتعاونت معها في ضبط الحالة الأمنية الحدودية، وهو ما أسهم في وجود ظروف مخففة من الحصار فترات عديدة. كان رفع الحصار هدفا أساسيا في جولات التصعيد العسكري والحروب التي خاضتها المقاومة مع الاحتلال الأعوام: 2008 و2012 و2014 و2021 و2023، إضافة إلى مسيرات العودة التي استمرت منذ مارس/آذار 2018 وحتى سبتمبر/أيلول 2019.وفي حين أسهمت هذه الإستراتيجية في تخفيف الحصار مرحليا، إلا أن الاحتلال كان يعمد إلى تعميق جراح الشعب من خلال الدمار الواسع الذي يخلّفه عدوانه على القطاع، وإعاقته إعادة الإعمار بالتفاهم مع السلطات المصرية، وبغطاء أميركي وأوروبي. ولتوفير اللوازم المدنية والعسكرية ومواجهة الحصار، لجأ أهل القطاع إلى حفر الأنفاق والتهريب عبر البحر والبر، وهو ما أسهم في بناء المنظومة القتالية للمقاومة على مدار قرابة عقدين من الزمن. غير أن النظام المصري شن منذ أكتوبر/تشرين الأول 2013 حملة واسعة لتدمير الأنفاق وإقامة منطقة عازلة داخل الحدود المصرية، مما قلّل من قدرة الأنفاق على توفير احتياجات القطاع. وفي رد فعل آخر على الحصار، لجأ أهل القطاع إلى اختراق الحدود مع مصر بأعداد كبيرة للتزوّد باحتياجاتهم الضرورية مرتين، أولاهما في سبتمبر/أيلول 2005، وثانيهما في يناير/كانون الثاني 2008. إلا أن السلطات المصرية أقامت جدارا عازلا عقب ذلك وعززت انتشارها الأمني لمنع تكرار الحدث. وكان هناك تحرّك دولي تضامني سارت فيه قوافل برية وأساطيل بحرية تحمل مساعدات إنسانية لأهل القطاع، وتسعى إلى الضغط على دولة الاحتلال والسلطات المصرية لرفع الحصار. ومن أبرزها قوافل "أميال من الابتسامات" البرية، وأساطيل الحرية أعوام 2010 و2011 و2015 و2016، والتي منعت قوات الاحتلال وصولها. وأدّى الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية الأول عام 2010 إلى استشهاد 9 من الناشطين الأتراك، وإلى أزمة دبلوماسية لسنوات مع أنقرة. ومنذ بدء الحصار زاد اهتمام أهل القطاع بمشاريع الإنتاج النباتي والحيواني، بما يشمل أنواع الزراعة المختلفة وتربية المواشي والدواجن والأسماك، إضافة لصيد السمك، وظل هذا محل تدافع مع الاحتلال الذي كان يدمر هذه المشاريع في الحروب ويضيّق عليها بإغلاق المعابر وإعاقة إدخال مستلزماتها وإعاقة تصديرها، ويسهم في مساعي الاحتلال هذه إبقاء السلطات المصرية تخصيص معبر رفح لعبور الأفراد دون البضائع.
وختاما، يظهر استعراض مسيرة الحصار ومقاومته أنه أحد أهم مجالات حرب التحرر من الاحتلال، وأن مصيره مرتبط بمصير هذه الحرب، إذ تتوقف نهايته على أحد أمرين: توقف مقاومة الفلسطينيين للاحتلال وهو غير متوقع، أو انكسار إرادة الاحتلال ونشوء ظرف دولي أو إقليمي يمنع استمرار هذه الجريمة المتواصلة منذ 17 عاما، وهو ما تدفع باتجاهه أمور منها تراجع الشرعية الدولية لدولة الاحتلال، وارتفاع كلفة تأييد سياساتها بالنسبة لرعاتها الغربيين، واتضاح إصرار الفلسطينيين على تجديد ثورتهم على الاحتلال ومقاومتهم إياه بشتى الوسائل.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: بالانتخابات التشریعیة الحصار على على القطاع الحصار فی من خلال إلا أن
إقرأ أيضاً:
خصوصية الطوفان.. لماذا تصدعت السردية الإسرائيلية عقب 7 أكتوبر؟
قبيل فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لم يكن المشهد الدولي عموما، والفلسطيني خصوصا، يشي بالحقيقة. بطريقة ما، اجتمعت كل "حقائق" العالم المخادعة لتُنتج كذبة واحدة ضخمة، وكان شرط أن تبقى تلك الكذبة الضخمة على قيد الحياة هو ألا تُخترق تلك "الحقيقة".
أما طريقة الاختراق فهي تجاوز نُظُم المراقبة والمدافع تلقائية التفعيل والأسوار الخرسانية السميكة التي صنعتها إسرائيل واستثمرت فيها مليارات الدولارات على الحدود مع قطاع غزة المحاصر. هذه هي "كذبة الصهيونية"، كما تحدّث عنها الحاخام اليهودي الأميركي يعقوب شابيرو، التي سيفاجئك إدراكه لتفاصيلها.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كيف سرق نتنياهو منزله "الفلسطيني" في القدس؟list 2 of 2النار من كل مكان فهل باتت مبادئ بن غوريون فاشلة في حماية إسرائيل؟end of listالأكاذيب خادعة بطبيعتها، لا لأنها تُخفي الحقيقة فقط وتنقل واقعا مضللا، بل لأنها لا تُفصح عن أضرارها الكاملة. وهذا جزء من سيكولوجية الأكاذيب؛ ذلك أن وجودها بحد ذاته يُهين ذكاءنا وقدرتنا على الملاحظة والتحليل والنقد، وبالتبعية يُهين غرورنا نحن البشر.
لهذا السبب تحديدا، يقل أثر الأكاذيب مع الزمن مهما بلغت بشاعتها. فالأكاذيب القديمة لا تستفزنا، ولا تحفزنا على رد الفعل، لأنها أهانت مَن سبقونا، واستقرَّت حتى باتت بديهية، وهذا يُنسينا لعنة الأكاذيب الأهم؛ أنها لا تعيش، ولا تستقر، إلا لو تكاثرت، واستقرت باختلاف الأجيال، واحدا تلو آخر.
إعلانوفي هذا التقرير، سنستعرض تلك الأكاذيب التي فكّكتها عملية السابع من أكتوبر، وجعلتها واضحة للعالم كما لم تكن يوما.
"الكذبة الأولى"يعتقد الحاخام اليهودي الأميركي المناهض للحركة الصهيونية، "يعقوب شابيرو"، أن "الصهيونية هي الكذبة الجامعة التي تنطوي تحتها كل الأكاذيب اللاحقة"، على حد تعبيره. يشرح شابيرو فكرته خلال حوار مُطوَّل مع شبكة "تي آر تي"، ففي بدايات تبلور فكرة الصهيونية، لم يكن اليهود شعبا واحدا، أو قومية واحدة، أو حتى عِرقية واحدة، ولم تجمعهم ثقافة أو لغة أو عادات، أو حتى نسخة واحدة من الديانة اليهودية.
لذا كان يقال إن تجمعات اليهود المنغلقة في أوروبا، أو ما يُعرف بـ"الغيتو"، كانت موصدة من الداخل قبل الخارج، بمعنى أن اليهود أدركوا تمايزهم عن محيطهم الأوروبي المسيحي منذ قرون، وبما أن اليهودية ليست ديانة تبشيرية تسعى لجذب الكثير من الأتباع، فكان الحل المنطقي هو أن تتجمع الأقليات اليهودية في مجتمعات انطوائية، تُمكِّنها من الاحتفاظ بهذا التمايز وتراعي خصوصيتها.
من هنا أتت الفكرة للرعيل الأول من مؤسسي الحركة الصهيونية بتحويل الديانة إلى قومية. تلك كانت "الكذبة الأولى" بحسب وصف شابيرو؛ الهوية الموحَّدة التي سيجتمع عليها يهود الشرق والغرب والشمال والجنوب، المتدينون منهم وغيرهم، ثم فتح هذه المجتمعات على مصراعيها لتمتزج مع محيطها، لأنها الطريقة الوحيدة لاستمالة كل هذا المزيج المختلط.
المشكلة هنا، كما يشرحها "شابيرو"، أن قضية الحركة الصهيونية المحورية -أي إنشاء وطن موحَّد لليهود- إلى جانب توقيتها -أي عصر صعود القوميات الأوروبية- ساقت كل يهود العالم لاختيارات متطرفة؛ حيث كان بإمكانهم وقتها البقاء في أوروبا والتعرض للمزيد من النبذ والتشكيك بما أن وجودهم -بوصفهم أقليات- لم يعد منطقيا بعد "إنشاء وطنهم"، أو هجر مجتمعاتهم وحياتهم التي بنوها لعقود لأجل احتمالية مبهمة لم تبدُ واقعية أو مستدامة.
إعلانهذه الخيارات الضبابية هي ما دفع مؤسسي الصهيونية الأوائل لصناعة حالة من العداء بين اليهود وبين الدول التي يعيشون بها، وذلك بحسب توصيف شابيرو نفسه، وهو ما يحكيه المؤرخ اليهودي "آفي شلايم" عما وصفها "بالعمليات الإرهابية التي نفذتها أجهزة المخابرات للعصابات الصهيونية في العراق واليمن والمغرب لدفع أقلياتها اليهودية للهجرة للمشروع الاستيطاني الناشئ"، كما يقول شلايم .
وفي نظر الصهاينة الأوائل، لم يكن من الممكن تعريف اليهود بما هم عليه، بل أرادوا تعريفهم بما هم ليسوا عليه، أي تعريفهم بالنقيض، حتى يصبح ذلك النقيض هو "الهوية الحقيقية"، وبذلك بات تعريف الذات مبنيا على عداء الآخر لها، وهذا ما يعرفه علماء النفس بالهوية السلبية.
هذه "الأكاذيب"، كما يصفها شابيرو، صنعت جزءا لا بأس به من المشهد؛ فهذا الاستعداء لكل ما هو "غير يهودي" تطور في العقود التالية إلى نظام تعليمي متكامل، يحكي سردية موازية للتاريخ، لا تاريخ العرب والفلسطينيين وحسب، بل تاريخ العالم، ويقسمه إلى فئتين فقط لا غير؛ اليهود، وأعدائهم.
بين الحقيقة والروايةتعتقد الدكتورة "نوريت بيليد-الحنان"، أستاذة فقه اللغة بالجامعة العبرية بالقدس، أن المكوِّن الأوضح في المناهج التعليمية الإسرائيلية هو العداء المبطَّن لكل ما هو غير يهودي، فالأطفال يتعلمون في المدارس أن الجميع يلاحقهم من فجر التاريخ لمجرد كونهم يهودا.
وبالتالي، فلا فرق بين آشوريين ما قبل الميلاد، ولا رومان ما بعد الميلاد، ولا إنجليز القرن الثاني عشر، ولا نازيين القرن العشرين، ولا عرب القرن الحادي والعشرين. كلهم أوجه لعُملة واحدة.
هذا ما يمكن ملاحظته بوضوح من خطاب الدولة الرسمي وخطاب عوامها كذلك، وما تقوله الدكتورة "الحنان" إنه أمر مخطط ومدروس ومقصود، لأن الدولة التي قسّمها الرئيس الإسرائيلي السابق "رؤوفين ريفلين" إلى ما سمَّاه "العشائر الأربعة" تحتاج إلى هذا العداء مبررا لوجودها واتحادها، وتستخدمه في تحفيز المزيد من الهجرات الجماعية الضرورية للإبقاء على تفوقها العددي على الفلسطينيين، وهي مسألة أخرى تعاني فيها إسرائيل بشدة.
إعلانهذا ما يمنح وثائقي "تشهير" (Defamation) أهمية خاصة، كونه العمل الذي عبَّر عن هذا التناقض بأفضل طريقة ممكنة، وكذلك لأنه حظي بنفاذية لم يكن أي عمل آخر قد حظي بها عند إصداره، خاصة أن منتجه يهودي وإسرائيلي.
ففي عام 2009، تمكَّن المنتج، الصحفي الإسرائيلي "يؤاف شامير"، من إقناع رئيس منظمة "عصبة مكافحة التشهير" الأميركية "آبراهام فوكسمان"، بأن ينتج وثائقيا عن معاداة السامية، وهذا السبب -إلى جانب جنسيته طبعا- جعل "فوكسمان" يثق به على الفور، ويفتح له مكاتب المنظمة على مصراعيها، ويصطحبه معه في كل رحلاته الميدانية، بل ويسمح له بتصويره وتصوير أعضاء المنظمة وهم يناقشون أسرارا خطيرة، كالولاء المزدوج لإسرائيل على حساب مواطَنَتهم الأميركية.
ما كان ينويه "شامير" فعلا هو أن ينتج رؤية تحليلية ناقدة للمسألة وليس فيلما دعائيا منحازا، ولم يدرك "فوكسمان" وأعضاء المنظمة وقتها حقيقة ما يجري حتى عُرض الفيلم.
وبعد عرضه، تعرَّض شامير لهجوم واسع قادته المنظمة. لكن الوثائقي خرج ليؤكد ما كانت الدكتورة "الحنان" ستصفه في كتابها، "فلسطين في كتب التعليم الإسرائيلية"، بعدها بثلاث سنوات فقط.
أحد المشاهد اللافتة في الوثائقي وقعت أثناء تقصي إحدى حالات معاداة السامية التي بلَّغت المؤسسة واعتبرتها إحدى الحالات المتعددة للتمييز الذي يتعرَّض له اليهود.
لكن شامير، وباعتباره صحفيا في المقام الأول، ذهب ليتتبع الحادثة. وبسؤال "شيا هِخت"، الحاخام الأميركي وأحد قادة المجتمع اليهودي في المنطقة التي وقعت فيها الحادثة، اعتبرها "مُبالَغا في تقديرها"، فلا يمكن تفسير أي اعتداء على أي يهودي بكونه نابعا من معاداة السامية.
"أنا أرتاب عندما أرى رجلا يصنع رزقه من مشكلة معينة، فلو كان هناك رجل يتكسّب من وقائع معاداة السامية، ويجمع على إثرها التبرعات، فسأشك في تقاريره وبلاغاته عن وقائع معاداة السامية. هذا الرجل يحتاج إلى مشكلة ليبقى على وظيفته".
الحاخام الأميركي "شيا هِخت" – وثائقي "تشهير". تأصيل الزيفهنا تلتقي نظريات "شابيرو" و"شامير" ودكتورة "الحنان" في مشهدين محوريين في الوثائقي، عندما يذهب "شامير" رفقة طلبة الجامعات الإسرائيلية في الرحلة السنوية التي تنظمها المؤسسة إلى معسكرات الاعتقال النازية في بولندا.
إعلانفي المشهد الأول يتجمّع فوج الطلبة في أحد الميادين وهم يحملون أعلام إسرائيل، فتتوجَّه فتاتان بالسؤال عن الطريق الذي ينبغي لهما السير فيه لمجموعة من المسنين البولنديين الذين لا يجيدون الإنجليزية، وبمجرد فشلهما في التفاهم، تفترض الفتاتان أسوأ احتمال ممكن؛ هؤلاء البولنديون ينعتوننا بـ "العاهرات".
يحاول "شامير" -الذي يفهم البولندية- التصحيح لهما لاحقا، ولكن دون جدوى.
ثم يتبع الموقف السابق موقف مشابه في الفندق الذي يعامله الفوج الزائر وكأنه سكن جامعي، فيركضون خلف بعضهم في الطرقات، ويتمازحون ويلعبون ويتشاجرون بصوت عالٍ، فيأتي موظف الاستقبال ليبلغهم بشكوى باقي النزلاء من الضوضاء.
بعدها، سأل شامير الطلبة عن رأيهم فيما حدث، ليكتشف "شامير" أن تفسيرهم الوحيد للواقعة هو أن الموظف والنزلاء معادون للسامية.
صناعة هذه العقلية كان أمرا مفيدا للحركة الصهيونية منذ تأسيسها، ما دام يمكن استثمار أثر هذا الخطاب والتصوّر في دفع المزيد من اليهود نحو الهجرة إلى إسرائيل، أو بالحصول على المزيد من التعويضات والمساعدات، أو المزيد من الغطاء السياسي والعسكري والإعلامي.
يظهر هذا التناقض جليا في الدوائر الأكاديمية كذلك؛ منذ عقدين تقريبا، صدرت ورقة بحثية مهمة بعنوان "تراجع علم الاجتماع الإسرائيلي" للإسرائيلي "أليك إبستين"، الدكتور بعلم الاجتماع بالجامعة العبرية بالقدس، ويعتبر فيها أن ظهور مَن سمَّاهم بـ"علماء الاجتماع النقديين"، وتصدُّرهم المشهد بعد أن كانوا على هامش المجتمع الأكاديمي، يُعبِّر عن تراجع المجال في إسرائيل عموما، ليس لأن "علماء الاجتماع النقديين" قليلو الكفاءة، أو لم يستحقوا درجاتهم العلمية، بل لأنهم كوّنوا تيارا يشكك في الرواية الرسمية لنشأة الدولة، بل ويعادي الدولة ذاتها أحيانا.
من هذه الزاوية يتضح أن دعاية الحركة الصهيونية وسرديتها التاريخية بُنيت على معادلة صفرية، تقتضي أن تغِيب الحقيقة تماما -حتى لو صدرت من علماء ومؤرخين إسرائيليين- لكي تسود الكذبة، ثم تتكاثر، ثم تقضي عمرها كله في ابتكار أكاذيب جديدة تلاحق الثغرات التي أوجدتها الأكاذيب القديمة، وتلك هي الكلفة التي لا ندركها عند الكذبة الأولى؛ أن لكل كذبة حياتها الخاصة، وأن تكاثرها ليس اختيارا، بل ضرورة بقائها، وهذا هو المعنى الذي أكَّده الحاخام شابيرو وأكّده شلايم وغيرهما من اليهود المناهضين للصهيونية.
إعلانعلى الأرجح، مرّت اللحظة الأولى بالفعل منذ عقود، فظهور أول موجة من المؤرخين الجدد الذين شكَّكوا في السردية التاريخية لنشأة الدولة لم يؤثر في إعادة تعريف الحقيقة. وقد فشلت جميع المحاولات الرامية إلى المراجعة أو النقد، ولُفِظَ أصحابها، وهذا بالضبط ما مهَّد للحظة الثانية.
ربما لا تكون اللحظة الحالية مناسبة لتقييم جدوى العملية العسكرية في السابع من أكتوبر وفائدتها، وهي مسألة متروكة للمحللين السياسيين والعسكريين. ولكنها، في الوقت ذاته، كافية لإدراك حقيقة أنها اختبرت السردية التاريخية لإسرائيل الاختبار الأكبر.
الطوفان كان أضخم عملية لفصائل المقاومة في تاريخ إسرائيل، وبالإضافة إلى عناصر المشهد المعلومة بالضرورة، مثل الإنترنت، وظهور المنصات المستقلة عن الحلف الغربي مثل "تيك توك"، فإن حجم العملية، وانكشاف جيش الاحتلال بقتله للمدنيين على مستويات واسعة ضَمِن انتباها عالميا غير مسبوق.
في تلك اللحظة، لم تكن فصائل المقاومة تحتاج من إسرائيل إلا أن تتصرف على طبيعتها، وما ترسّخ في المناهج الدينية والتعليمية. كان ذلك كفيلا بظهور عدائهم لكل ما هو غير إسرائيلي، حتى من أولئك اليهود الذين رفضوا أن يُقتل الأبرياء باسمهم، فأُطلق عليهم وصف "اليهود الكارهين لأنفسهم". كان كل ذلك كفيلا أن تصطدم كل كذبة بحقيقتها في الواقع الافتراضي وعلى الأرض.
الطوفان لم يوقف تكاثر الأكاذيب، ولكنه وضعها في سياق سريع مُعادٍ، لا يمنحها وقتا كافيا للتخطيط والنضج والهضم، بل تتحول فيه إلى ردة فعل عشوائية لمجزرة هنا أو مذبحة هناك، فتُنتج المزيد من الثغرات والثقوب، يعجز عن رتقها جيل من الإعلاميين والمُنظِّرين الذين نشؤوا في عهد سيادة الكذبة، وأفسدهم الانحياز الإعلامي الغربي، ولم يعتادوا النقد والتشكيك والحوار والأسئلة، ولا يعلمون عن العالم إلا ما تعلموه في المدارس ورحلات الجامعة؛ المرويات القديمة ذاتها التي لم تعد تقنع الكثيرين.
إعلانأسهم في كل تلك التغيرات ثلاث ملاحظات مهمة؛ الأولى هي ما أظهره موقع مركز "بيو" للأبحاث، الذي أظهر تغيرا في الديمغرافية المسيحية في المجتمع الأميركي، التي تُعد الرافد الأول للتأييد المطلق الذي حظيت به إسرائيل في الولايات المتحدة خلال العقود الأخيرة. وذلك بتراجع عدد مَن يُعرّفون أنفسهم بوصفهم مسيحيين من 90% من البالغين منذ بضعة عقود إلى 63% في 2022، وبالعكس، صعود نسبة مَن يُعرِّفون أنفسهم بكونهم "غير مُعرّفين دينيا" لتملأ هذا الفراغ.
المهم في هذا السياق هو أن كل المؤشرات تدل باستمرار على هذا النسق، كون نسبة أعلى ممن نشؤوا مسيحيين ينتقلون إلى المعسكر الثاني (المعسكر الذي لا يُعرِّف نفسه بوصفه مسيحيا) عند البلوغ، بينما العكس غير صحيح، فعدد أقل ممن نشؤوا غير مُعرّفين بوصفهم مسيحيين يصبحون مسيحيين عند البلوغ.
هذا يعني ببساطة أن الفئة الأميل لتأييد إسرائيل ودعمها في الولايات المتحدة الأميركية تقل باستمرار، وتتقدم في السن، وبالتبعية تصبح أقل نشاطا على منصات التواصل، وهو ما يفسر جنوح التجمعات الشبابية الجامعية لمساندة القضية الفلسطينية.
الملاحظة الثانية أنه في العقود الماضية كان قادة المجتمع اليهودي -وعلى رأسهم نتنياهو- ممن وُلدوا ونشؤوا بين المجتمعات الغربية التي يسعون لاستمالتها، وعاشوا لحظات ميلاد إسرائيل وصعودها لمكانتها الحالية في العالم، وهذا سلَّحهم بقدر من الحصافة في التعامل مع حلفائهم وأعدائهم، وقدرة على التفريق، في كثير من الأحيان، بين التكتيكي والإستراتيجي، على عكس "سموترتش" و"بن غفير" اللذين يقودان الجناح اليميني الآن، أبناء مستوطنات الجولان والضفة، وخريجي المدارس الكاهانية المتطرفة.
هذا كله أنتج مشهدا إعلاميا استثنائيا غير مسبوق في تاريخ الصراع، باتت تحتل فيه الحقيقة موقعا من المشهد بعد أن غابت كليا، لتزداد مساحة وجودها في قفزات ضخمة متصاعدة لا تبدو منطقية للوهلة الأولى، ولكنها تصبح كذلك عندما نضع في اعتبارنا الملاحظة الثالثة.
إعلانفمقابل كل مناضل خاطر بحياته في زمن سيادة الكذبة، كان هناك العشرات من الصامتين الخائفين من بطش آلة الدعاية، ومع كل معركة جديدة تُختبر الكذبة، وكل شجاعة يُظهرها الغزّيون تصيب العدوى أولئك الصامتين وتحررهم، وتدفعهم إلى تحرير غيرهم، فالحقيقة تقوى بالتكاثر أيضا.
لا أحد يعلم نتيجة هذه الجولة من الحرب، ولكن الجميع يعلم أن زمن سيادة الكذب والتضليل قد انتهى. خصوصية الطوفان لم تكن فقط في أنه أظهر للعالم وحشية جيش الاحتلال ضد الفلسطينيين، بل في كونه أيضا منح الجميع الفرصة لإظهار عداء "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم" واستخفافه بالعالم ذاته.