ما بعد حرب غزة ليس كما قبلها: عن «إمبراطورية» لم تَعُد تخيف أحداً

كانت «طوفان الأقصى» ضربة لأميركا أكثر ممّا هي ضربة لإسرائيل.

ما أرادته أميركا من الضربات الأخيرة هو التخويف بالحرب، كبديل من هذه الأخيرة.

هل المشروع الأميركي للانسحاب من الشرق الأوسط الذي جُمّد أخيراً، يمكن أن يتحوّل قريباً إلى مشروع هروب؟

من يجرؤ اليوم في العراق على الجهر بالقول إنه يريد بقاء القوات الأميركية على أراضيه، من رأس الهرم السياسي وحتى آخر عراقي؟

من يجرؤ من الدول التي تحتضن قواعد أميركية في المنطقة على الاعتراف بأن أيّاً من تلك القواعد استُخدمت في الضربات؟

هل ما زال سيناريو إلقاء قنبلة نووية كالتي ألقيت على هيروشيما وناغازاكي صالحاً لدفع دول إلى الاستسلام في عالم لم تعُد فيه القنبلة حكراً على دولة واحدة؟

من يمكنه تصوّر سير حرب أميركية - إيرانية مباشرة إذا ما وجّهت أميركا ضربات على الأراضي الإيرانية؟ ماذا سيحلّ بالخليج، وفي الأساس، بالقواعد الأميركية فيه؟

* * *

لم يعُد تلويح أميركا بإمكان استخدام أسلحتها الثقيلة ذات الأسماء الرنانة، من مثل صواريخ «التوماهوك» وقاذفات «بي 52» التي تحمل أسلحة نووية، أو حاملات الطائرات المتيمّنة بأسماء «الرؤساء العظماء»، يخيف الكثيرين في الشرق الأوسط، ليس فقط بعد حربين خاسرتين في العراق وأفغانستان، وإنما أيضاً بسبب الصعود الكبير الذي تشهده المقاومة التي خبِرت التعامل مع القوات الأميركية، وصارت تعرف نقاط ضعفها، وحدود تأثيرها.

لهذا، يمكن القول، بلا كثير مجازفة، إن الضربات الأخيرة التي استهدفت العراق وسوريا واليمن، وقبلها الأساس الذي أدى إلى خلق ظروف تلك الضربات، أي عملية السابع من أكتوبر في غزة، أظهرت ضعفاً في قدرات الولايات المتحدة العسكرية، بشكل ملحوظ في المنطقة.

والتأثير الأساسي المتبقّي لها، لا يأتي من هيبة القوة العسكرية، وإنما من الضغط الاقتصادي، ومن وكلاء الداخل الذين يدينون لها بالولاء، والموجودين في كل الدول التي تحتضن مقاومات، وبعضهم ملتصق بالمقاومة، بل ويدّعي أنه السبّاق إليها، سارقاً جزءاً من رصيد المقاومة الحقيقية، ومانعاً إياها من بناء مجتمعات قادرة على تحمّل كلفة المواجهة.

وهو ما يُحدِث شرخاً في تلك المجتمعات، أخطر من التهديد الأميركي نفسه، ويحول دون أن تتمكن من التخلّص من الهيمنة الأميركية والمضي في طريق التطوّر والنمو.أحداث الأشهر الأربعة الماضية زادت بشكل كبير الكراهية الشعبية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وحتى في العالم.

كما زادت عدم قناعة كثير من النخب السياسية بإمكانية استدامة النهج الأميركي. على سبيل المثال، من يجرؤ اليوم في العراق على الجهر بالقول إنه يريد بقاء القوات الأميركية على أراضيه، من رأس الهرم السياسي وحتى آخر عراقي؟ ومن يجرؤ من الدول التي تحتضن قواعد أميركية في المنطقة على الاعتراف بأن أيّاً من تلك القواعد استُخدمت في الضربات؟

وفي اليمن، استخدمت أميركا كلّ ما في جعبتها، ولكنها لم تستطع تحريك سياسة صنعاء المتمثلة في إغلاق مضيق باب المندب أمام السفن الإسرائيلية وتلك المتّجهة إلى إسرائيل، فضلاً عن الأميركية والبريطانية، قيد أنملة.

وأيضاً هناك، امتدت الكراهية الشعبية لأميركا، إلى المناطق التي يسيطر عليها حلفاؤها اليمنيون الذين صاروا أضعف من ذي قبل، بعدما حُشروا في زاوية مدمّرة شعبياً بسبب تحالفهم مع الولايات المتحدة والإمارات، والذي صار يُترجَم فوراً تحالفاً مع إسرائيل. وحتى مَن كان يمكن من شعب الجنوب اليمني أن يغريه الانفصال، هو لا يريده حتماً أن يأتي عن طريق التحالف مع إسرائيل.

وبنتيجة ما يجري في غزة على وجه الخصوص، تعاني نظم الخليج من ازدواجية بين الوقوف الفعلي في صف إسرائيل وأميركا، والموقف العلني الذي يطلب، على استحياء، وقف تلك المذبحة التي لا يحتملها أي عربي. ولا شك في أن مشاعر غضب تعتمل في صدر المواطن الخليجي العادي من مواقف حكوماته، حتى وإن كان يفهم ضمناً أن نظام الحكم عنده يربط بين «الأمن والأمان» ونظام الرفاه الذي يعيش فيه، وبين الحراسة الأميركية للنظام. الأخطر هنا، أن تراجع نفوذ أميركا وظهور هشاشة قوتها، يخيفان هذا المواطن، قبل نظامه، على الركيزة التي يقوم عليها مستقبله. فإذا كان الخوف من مطامع الأشقاء والجيران يجعل الولايات المتحدة تبدو كأنها قدر محتوم، فإن ذلك يصحّ فقط حينما تكون قوية وقادرة على الحراسة. أما عندما تتهلهل تلك القوة، فهذا بلا شك سيكون حافزاً للمواطن الخليجي للبحث عن خيارات بديلة أكثر التصاقاً بهويته الأصلية.

كانت عملية «طوفان الأقصى» ضربة لأميركا أكثر ممّا هي ضربة لإسرائيل. والذي فشل - حتى الآن - في تحقيق انتصار وإستراتيجية خروج تلحظ ما يكون عليه الوضع في اليوم التالي، هو أميركا وليس إسرائيل. ربما يسهم بعض المتطرفين الإسرائيليين في تعظيم الفشل، ولكن الأساس فيه هو المقاومة، وامتلاكها ناصية الشارع بشكل صار واضحاً وحاسماً في كل البلدان العربية، إذ بات من يشكّكون في جدواها من موقع العداء والتحالف مع العدو، مجموعة صغيرة منبوذة لم تعد تجرؤ على الجهر بما تكنّه، ولا سيما أن المقاومة اكتسبت مشروعية شعبية عالمية اضطرت بعض الأنظمة إلى التمايز عن الولايات المتحدة، التي بدت هي الأخرى معزولة في كثير من الأحيان. والتحالف البحري ضد اليمن مثال واضح على ذلك.

أزمة أميركا المستجدة في الشرق الأوسط، أعقد بكثير مما تبدو، والعجز عن الخروج منها أو إدارتها لا يمكن إخفاؤه. فكيف يمكن لأميركا أن تسيطر على منطقة هي مكروهة فيها شعبياً إلى هذا الحد؟ ثمة تجارب في العالم تحكم فيها الولايات المتحدة شعوباً تكرهها، كاليابان وألمانيا، ولكن تلك التجارب جاءت وفقاً لشروط استسلام أعقبت حربَين عالميّتَين توافرت ظروف الانتصار للحلفاء فيهما، وظروف زعامة أميركا لهؤلاء الحلفاء، نتيجة خليط بين «الحلم الأميركي» الصاعد حينها، و«الوجه الأميركي البشع». ما يحصل اليوم في العالم، وليس في هذه المنطقة فقط، هو أن «الوجه البشع» تقدّم كثيراً على «الحلم»، ودماء الغزيين كانت حاسمة في هذا السياق.

ليس المراد من ذلك القول إن أميركا أصبحت ضعيفة وبلا حيلة. إذ ما زالت قاذفات «بي 52» إياها التي تحمل صواريخ نووية، خياراً قائماً، ولم يكن مصادفة الحديث عنها أثناء الضربات التي شُنّت ضد العراق وسوريا، لكن هذا الخيار الذي نجح في الحرب العالمية الثانية، بنتيجة «خطة مارشال» التي وفرت بديلاً للقوى المهزومة، ليس صالحاً لتأبيد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.

وفي المناسبة، إن أكثر من يطرحون حلّاً لغزة على طريقة «مارشال» هم أعتى المتطرفين في إسرائيل من مثل بنيامين نتنياهو، الذي تسامر حول تلك الطريقة مع إيلون ماسك، أثناء زيارة الأخير لإسرائيل، وإيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش. لكن هؤلاء الثلاثة يقصدون غزة بلا الفلسطينيين، أو يَقبلون على الأكثر ببقاء بضع مئات آلاف منهم، وتهجير الباقين أو قتلهم.

ما أرادته أميركا من الضربات هو التخويف بالحرب، كبديل من هذه الأخيرة، وهو تهديد موجّه إلى إيران أساساً. لكن من يمكنه تصوّر كيفية سير حرب أميركية - إيرانية مباشرة إذا ما وجّهت الولايات المتحدة ضربات على الأراضي الإيرانية؟ ماذا سيحلّ بالخليج، وفي الأساس، بالقواعد الأميركية فيه؟

وهل ما زال سيناريو إلقاء قنبلة نووية كتلك التي ألقيت على هيروشيما وناغازاكي صالحاً لدفع دول إلى الاستسلام في عالم لم تعُد فيه تلك القنبلة حكراً على دولة واحدة؟ أم أن المشروع الأميركي للانسحاب من الشرق الأوسط الذي جُمّد أخيراً، يمكن أن يتحوّل قريباً إلى مشروع هروب؟

*حسين إبراهيم كاتب صحفي لبناني

المصدر | الأخبار

المصدر: الخليج الجديد

كلمات دلالية: غزة فلسطين اليمن العراق أميركا إمبراطورية هروب المقاومة طوفان الأقصى الاحتلال الإسرائيلي قنبلة نووية الولایات المتحدة الشرق الأوسط أمیرکیة فی من یجرؤ

إقرأ أيضاً:

هل تحتاج الولايات المتحدة إلى رئيس عاقل

آخر تحديث: 3 يوليوز 2024 - 9:51 صبقلم:فاروق يوسف لو سحب الحزب الديمقراطي مرشحه جو بايدن بسبب عدم توازنه وسحب الحزب الجمهوري مرشحه دونالد ترامب بسبب عدم اتزانه من سباق الرئاسة الأميركية لحدثت أكبر انتكاسة في تاريخ الديمقراطية. فليس من شروط الرئاسة في الولايات المتحدة أن يكون الرئيس عاقلا ولو كان عاقلا لما وافق على أن يكون زعيما لدولة جُن العالم بسبب جنونها. كما أنه ليس من شروط تلك الرئاسة أن يكون الرئيس متزنا أخلاقيا ولو كان كذلك لما ارتضى أن يكون زعيما لأكبر عصابة في التاريخ البشري تعمل أذرعها على إبادة الشعوب وسرقة ثرواتها وتسخير القوة العسكرية الأعظم في العالم لتدمير الدول وإذلالها والاستخفاف بالعدالة. بايدن وترامب وكل واحد منهما له تجربة في حكم دولة، افتضح الجزء الأكبر من تفاصيل جنونها وانحدارها الأخلاقي، هما الأكثر صلاحية لتولي دورة جديدة من الحكم. أربع سنوات جديدة تؤكد من خلالها الولايات المتحدة ثباتها على مبادئها المعادية للشعوب وفي الوقت نفسه يؤكد الشعب الأميركي كراهيته لكل المبادئ السياسية التي تقوم على العقل والأخلاق والعدالة منحازا إلى قوة الابتذال والتفاهة والسطحية التي سبق وأن أشار إليها فنانون ومفكرون وشعراء وفلاسفة أميركيون قبل شيوع وانتشار موضة “الشعبوية” التي ألقى الكثيرون على عاتقها مسؤولية انحدار مفهوم الرئاسة الأميركية وتدهور شخصية الرئيس. كانت الشعبوية مجرد ظاهرة عابرة ركيكة التأثير أما الجوهر فإنه يقوم على المبدأ الذي يخالف العقل ويتصدى للأخلاق. الولايات المتحدة دولة ليست عاقلة ولا تتمتع بأي حس أخلاقي. فهل يُعقل والحالة هذه أن يكون رئيسها عاقلا أو ذا مستوى أخلاقي رفيع؟ سيُقال إن الوضع مع خرف بايدن وفضائح ترامب الأخلاقية صار خارج السيطرة. ذلك ليس صحيحا. لم يكن الوضع مع جون كينيدي وجورج بوش الأب والابن معا وبيل كلينتون وليندون جونسون وريتشارد نيكسون تحت السيطرة المزعومة. كل واحد من أولئك الرؤساء وسواهم ارتكب جرائم إبادة بشرية واخترق القانون حتى على المستوى الأخلاقي الشخصي. ما من رئيس أميركي إلا وتحوم حوله شبهات الجنون أو الانحطاط الأخلاقي. وليس ذلك إلا انعكاسا لطريقة العقل السياسي الأميركي في العمل. وهي طريقة تبدو مظهريا على قدر كبير من التعقيد غير أنها في الجوهر تكشف عن أن القرار السياسي لا يتخذه الرئيس بل تتخذه الشركات العملاقة وفي مقدمتها شركات السلاح والطاقة. يُظلم بايدن بسبب انحطاطه الجسدي وتقدمه في السن ويُظلم ترامب بسبب انحطاطه الأخلاقي وشراهته في التكسب. كان باراك أوباما يوم صار رئيسا لدورتين متتاليتين شابا متيقظ العقل ورياضيا ولم تكن لديه مغامرات لا أخلاقية، ولكن هل سعى ذلك الشاب من أصول أفريقية إلى إخراج دولته من دائرة جنونها وانهيارها الأخلاقي؟ كل الوعود التي أطلقها في مجال الارتقاء بحياة الأميركيين وبالأخص في المجال الصحي والتي وهبته فرصة الحكم للمرة الثانية جرى تناسيها ولم يبق منه للذكر سوى ذلك الشاب الأسمر الذي تحبه زوجته ميشيل. شيء ما قريب من المسلسلات التلفزيونية. لا تحتاج الولايات المتحدة إلى رئيس عاقل بأخلاق حسنة. ذلك ما يمكن أن يسخر منه الأميركيون العاديون. فالمعجزة الأميركية لم تستند أصلا على العقل والأخلاق، بل على التهور والطيش وروح المبادرة عن طريق الانتهاك. ذكاء الفرد في النظام الرأسمالي يكمن في أن يفلت من العقاب حين يخترق القانون. تلك معادلة أشاعت الجنون في العالم الحر. الفاسدون على سبيل المثال هم الأكثر دفاعا عن النزاهة والقتلة هم أكثر المدافعين عن السلام. غير مرة وُهبت جائزة نوبل للسلام لأشخاص، كان يجب ترحليهم إلى محكمة العدل الدولية. ولو كان هناك شيء من العقل في سلوك العدالة الدولية لكان الرئيس الأميركي لندون جونسون قد مات وراء القضبان بسبب جرائمه في فيتنام ولقضى جورج بوش الابن باقي أيامه في السجن بسبب تدميره لحياة المدنيين في أفغانستان والعراق. ولكن أميركا صنعت عالما يشبهها. أن يكون الرئيس الأميركي مصابا بخرف الشيخوخة أو أن يكون رمزا للانحراف الأخلاقي، ذلك ما يجد فيه الأميركيون مدعاة للفخر. فأميركا هي أميركا. هي التي تفرض نموذجها على العالم الذي لا تسمح له بفرض نموذجه عليها. العيب ليس في أميركا بل العيب في مَن صدق أن الديمقراطية يمكن استيرادها منها. الدولة التي ألقت مئات الأطنان من اليورانيوم المنضب على الشعب العراقي وهي تعرف أنه شعب أعزل لا علاقة له بآلة الحرب هي بالتأكيد ليست دولة ديمقراطية. ولو لم يكن رئيسها مجنونا لما فعلت ذلك.

مقالات مشابهة

  • ضربات جديدة.. أميركا تدمر قدرات الحوثي لتأمين البحر الأحمر
  • تجريم الهوية الفلسطينية في أميركا.. شباب يتحدى سياسة قمع الأفواه
  • مدرب كندا حزين لوداع أميركا!
  • دي بول: منتخب الأرجنتين وُلد لـ «المعاناة»!
  • ليساندرو مارتينيز يهدي الهدف الأول إلى «الأجداد»!
  • رئيس الدولة ونائباه يهنئون الرئيس الأميركي بذكرى استقلال بلاده
  • رسائل إلى الحكومة «الجديدة»
  • أمر قضائي يعلق حظر تراخيص تصدير الغاز المسال في أميركا
  • تيموثي وياه خارج حسابات أمريكا في انطلاقة دوري أمم كونكاكاف
  • هل تحتاج الولايات المتحدة إلى رئيس عاقل