في كتابه "فن الشارع.. حكايات عن كتابة الراب والموسيقى" هدف الباحث سيد عبد الحميد لتعريف المستمع المصري بفن الراب، بدايته وأسباب انتشاره، وما هي الدوافع التي أدت إلى تصدره المشهد الموسيقي المصري، من خلال قراءة دقيقة في عمق المشاهد الاجتماعية والسياسية المصرية.
وخلال عشرين عامًا سعى عبد الحميد لتحليل المشهد عن قرب، والاشتباك مع مفاهيم الصدارة والجودة والاستمرارية بالاعتماد على ما قدمه الآخرين سابقًا، وما قاله هؤلاء المتصدرون في وقتنا الحالي عن أنفسهم في البداية.


بدأت فكرة الدراسة الصادرة عن "صفصافة للنشر" مع الانتباه لانتشار موسيقى الراب على مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الموسيقية المختلفة، وانعكاس هذا على الشارع المصري؛ ومن ثم محاولة تحليل هذا الانتشار وذكر عوامله التي لا يمكن إغفال الاجتماعي والسياسي والثقافي منها.
وتصدر الكتاب سؤال: "أين اختفت الأغنية الكلاسيكية؟ ومتى ظهر بيننا كل هؤلاء النجوم الذين يعدون المجتمع بإحداث طفرة في هذا المجال بالاعتماد على ما قدمه السابقين، في محاولة لتطوير المشهد الغنائي المصري لمجاراة المشهد الغنائي العالمي؟"
يشير الكاتب إلى مشروع كل مغني راب باعتباره تصدر المشهد في وقتٍ ما، وللتأكيد على ارتباط هذه الأغاني بأصحابها باعتبارهم كُتَّاب "لذا لا ينفصل الراب بشكل خاص عن الأدب باعتباره كتابة بشكل مغاير تعتمد بالتأكيد على عوامل موسيقية، تُساهم في خروجها في شكل نهائي كأغنية ولكن صاحبها كاتب يعتمد على موضوع خاص أو عام، ويستخدم آليات كتابة الأدب ليُقدم قصة من خلال قصيدة".
وسعت الدراسة لإيجاد الفكرة القائم عليها مشروع كل مغني راب من خلال الاستقراء -أي إعادة قراءة كل أغنية باعتبارها قصة قصيرة أو تدوينة مهتمة بشأن ما- مع مقاربة المشاهد الموسيقية ببعضها البعض، المصري بالعربي والمشهد العربي ككل بالعالمي من حيث ظروف النشأة والدوافع حتى إلى ما توصل إليه منتجو هذه المشاهد. 
في الوقت نفسه، يحتفظ الكتاب بمحليته، ويقارب كل موجة بالتي تبعتها. فمن خلال الموجة الأولى (2003 -2007) ظهر أوائل المغنيين الذين يعتمدون على كتابتهم وإمكانياتهم المحدودة في صناعة الموسيقى ونجحوا في الظهور بشكل خافت، ثم جاءت الموجة الثانية (2009 - 2014) وحملت ظهورًا متجددًا للرواد بعد انقطاع، بالإضافة لظهور أسماء جديدة تحمل أفكارًا أكثر حيوية، نجحت في لفت انتباه أكبر مع بدايات صعود المنصات الموسيقية ومواقع التواصل الاجتماعي بعد الربيع العربي، ثم جاءت الموجة الأشهر والأكثر نضجًا بداية من 2017، حيث بداية صعود وانتشار Trap music كلون موسيقي منبثق من الـ Rap music.
وبينما يحاول الكتاب طرح الأسئلة حول الأسباب، وتحليل الانتشار الذي بدأ منذ سنوات طويلة ببطء ثم ظهر في صورة صدارة، يقف على عتبة المشاريع الفنية ويُحلل أسباب رواج كل مشروع فني بشكل مستقل. تَتبُّع المشهد الاجتماعي والعلامات المُسجلة هو أحد أسباب كتابة هذا الكتاب باعتباره تأريخ لما حدث سابقًا.
يقول عبد الحميد: "منذ البداية، فكرت في الأسباب التي ساهمت في تصدر موسيقى الراب لمشهد موسيقي متعدد وشامل لعدة ألوان مختلفة باختلاف الطبقات الاجتماعية، من خلال البحث والقراءة وتتبع المشهد على مدار ثلاثة أعوام بشكل مكثف ومن قبلهم كمستمع عادي". 
يضيف: "وجدت عدة إجابات أسعى لتقديمها في كتاب يمكن للمهتمين بالموسيقى قراءته، والمهتمين بالكتابة التأريخية الرجوع إليه، وللمنشغلين بدراسة أسباب اجتماعية وثقافية وسياسية لحقبة حالية، الاطلاع عليه كونه يهدف لتحليل ما تمت الإشارة إليه باعتباره مجرد ظاهرة. بتعالٍ وعدم تقدير، أكتب في النقد الأدبي ومهتم بالشأن العام بكل جوانبه الاجتماعية والثقافية والسياسية، ولا يمكن إغفال تغير المشهد الموسيقي بسبب تغير في أحد هذه الجوانب، ومن خلال تتبعي للمشهد كمستمع ومهتم، وجدت ارتباطه بكل التغيرات التي تحدث ببطء في كل الجوانب التي سلف ذكرها، لذا من هنا جاءت الفكرة".
وأكد أن الكتابة عن مرحلة البداية والتجريب في الراب وصولًا للصدارة والعملقة، صعبة بسبب ارتباطها بالعديد من السياقات العامة أو الأكاديمية في شؤون الموسيقى "لذلك، اشتبك معها لتبسيط هذا لي وللقارئ المهتم دون إغفال دور صناعه ورؤيتهم الخاصة، ومحاولاتهم المستمرة لصناعة منتج خاص بالرغم من مضايقات الرقابة المستمرة لهم، واتهامهم بإفساد الذوق العام مما يؤدي إلى تعطل مسارهم بشكل مستمر".
ويستهدف الكتاب طبقات متعددة من القراء المهتمين بالشأن الموسيقي أو الاجتماعي، الذي أدى لصعود الراب إلى قمة هرم المشهد الموسيقي، بالإضافة لتقديم تعريفات هامة عن الفوارق الفنية في الألوان المتعددة المتفرعة من موسيقى الراب، يستهدف الكتاب قُراءً وكُتابًا باعتبار كل مغني راب كاتب في الأساس، لذا فإن قراءة الأغنية ليست شيئًا مختلفًا عن قراءة الأدب.
هكذا، "فن الشارع" كتاب ابن بيئته التي أنتجت نجومًا بإمكانيات محدودة؛ لتصدر مشهدًا اعتمد خلال سنوات طويلة على إمكانيات مادية هائلة، وشركات إنتاج أنتجت العديد من القوالب الفنية المفتقرة للقيمة والمعلبة في أغلب مواضيعها.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: فن الشارع الراب الموسيقى عبد الحمید من خلال

إقرأ أيضاً:

حداء الإبل.. حكايات ومرويات التواصل مع الجمال بالجزيرة العربية

حضرت "الإبل" في حياة إنسان شبه الجزيرة العربية منذ فجر التاريخ، ولم يُستغنَ عنها حتى اليوم، فبعد أن كانت مظهرا لتميزه وثرائه، ومصدرا لرزقه وعطائه، وأداة لسفره وترحاله، أضحت أيقونة ورمزا من رموز تراثه الأصيل المستمد من تاريخه التليد.

ونتج عن هذا التواصل الإنساني مع الإبل فن شعبي جميل يتناقله المجتمع جيلا بعد جيل يسمى "الحداء"، وهو نوع من الشعر الخفيف الذي يُقال لتطريب الإبل، وحثها على السير بتعابير شفهية تقليدية تمكّن الرعاة من مناداة إبلهم وجمعها والتواصل معها.

ويتوارث أبناء الجزيرة العربية "فن الحداء" للتواصل مع قطعان إبلهم من خلال بعض الأصوات والتعبيرات التي اعتادت الإبل على سماعها والاستجابة لها.

ويُعرف حداء الإبل بأنه أحد أشكال التعابير الشفهية التقليدية، ووسيلة للتواصل بين الإبل وراعيها، وهو أسلوب يستخدمه الرعاة في مناداة الإبل لجمعها، كما أنه نوع من الشعر الغنائي تطرب الإبل لسماعه، حيث تعد هذه الحرفة جزءا من الموروث الشعبي السعودي، الذي يتناقله المجتمع جيلا بعد جيل.

تاريخ حداء الإبل

وبحسب المصادر التاريخية، فإن مضر بن نزار بن معد "هو أول من (حدا) للإبل" بعد أن سقط من على بعيره وانكسرت يده وصاح بصوته (وايداه! وايداه!)، وكان حسن الصوت، فأصغت إليه الإبل وجدّت في السّير؛ ومن هنا بزغت فكرة استعمال الحداء لنداء الإبل، ويذهب البعض إلى أن هذه الهمهمات ساعدت "الخليل بن أحمد الفراهيدي" على اكتشاف مفاتيح العروض والأوزان الشعرية.

ويقال إن بداية "الحداء" كان عن طريق التدوية أو الدوّاة، وهو نداء الإبل بصوت رفيع، وجاء في بعض معاجم اللغة أن راعي الإبل إذا أراد أن يستحث إبله لتأتي إليه مسرعة، زجل بصوته وغنّى لها بكلمات مثل.. هَيد هيد، أو: هي دو هي دو. أو: دوه دوه. أو: ده ده بضم الدال. أو: داه داه، وهذا ما زال مستعملا إلى اليوم جنبا إلى جنب مع الرجز، ولم يلغِ أحدهما الآخر، وهو يختلف من بيئة إلى أخرى.

ثم تطور الدُّوّاة من مجرد همس أو صوت أو مناداة على الإبل إلى غناء شعري له طرقه وأساليبه ومفرداته الخاصة، ودخلت فيه مع مرور الزمن المعاني والكلمات الشعرية المغناة، والأشطر الموزونة، فجمع عذوبة الصوت، وسحر القافية المستمد من بيئة البدو وثقافتهم الأصيلة.

ومما يُذكر في قوة تأثير الحداء في الإبل "أن أبا جعفر المنصور سأل حدّاءً، فقال له: ما بلغ من حُسن حدائك؟ قال: تُعطش الإبل ثلاثا فتُدنى من الماء، ثم أحدو فتتبع كلها صوتي، ولا تقرب الماء".

حكايات ومرويات

وقد أصّلت المعاجم العربية وأمهات كتب التراث العربي لـ"حداء الإبل"، كما تحتوي على كمٍّ هائلٍ من الحكايات والقصص والمرويات والأراجيز المرتبطة به، وحفظت كتب التراث الشعبي مجموعة كبيرة من المرويات الشفاهية لأحديات العرب المتأخرين على ظهور إبلهم وصهوات جيادهم، ولعل من أحدث الكتب التي تناولت هذا الباب ديوان "الرجز والحداء"، الذي ألّفه الباحث في الموروث الشعبي إبراهيم الخالدي، ووثّق من خلاله رحلة الحداء الطويلة في تاريخ الأدب العربي، انطلاقا من بدايته الأسطورية حتى عهد البداوة الأخير التي انتقل بها الحداء من الارتباط الوثيق بالإبل إلى علاقة مميزة بالخيل، وإن لم تنقطع صلته برفيقه القديم (الجمل)، وتؤكد هذه الدراسة تماهي "الحداء" الواضح مع بحر "الرجز"، وهذا البحر السهل أتاح الترنم بالحداء لغير الشعراء، حتى صار الحداء أغنية العرب جامعة.

وأشار الخالدي، في تصريح لوكالة الأنباء السعودية، "إلى أن وجود الحادي من أساسيات القوافل المرتحلة في الصحراء، وأهم أدوات الرعاة الحاذقين، وأجمل فنون الغزاة المحاربين". وأكمل "إن (الأديب اللبناني) جرجي زيدان ذكر أن مقاطع الشعر المستعملة للحداء تشبه مشي الجمال الهوينا، ولو ركبت ناقة، ومشت بك الهوينا لرأيت مشيها يشبه وزن هذا الشعر تماما".

و"الحداء" أقرب ما يكون إلى النظم البسيط المكون من بيتين بقافيتين، وبصوت يردده اثنان، وأحيانا عندما تكون الدّلو التي يستخرج بها الماء من الآبار كبيرة جدا، يردده 4 بصوت جهوري، يصل أحيانا في هدأة الليل أو الفجر إلى أماكن بعيدة، ولا يتقيد بلحن واحد، بل تتعدد ألحانه وطريقة أدائه من بيئة إلى أخرى، وتكون ألفاظه شجيّة، تخلب ألباب الإبل، ومعانيه ذات أبعاد تتعلق بشؤون حياة الرُّعاة اليومية، وتشمل كلمات الحداء الشعرية ببساطتها وخفتها وعدد كلماتها القليلة، التنظيم، والقوانين، وطرق السقاية، وأهداف الرحيل، وحياة البادية عامة، وما يجول في نفس الرُّعاة من همّ وشجن.

أحديات الجزيرة العربية

ويؤكد رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية لدراسات الإبل "ذود" الدكتور محمد العتيبي "أن الحداء كان معروفا منذ العصر الجاهلي، وعادة ما يُقال للإبل عند وردها إلى الماء، أو عند سيرها إلى المرعى أو أثناء الترحال من مكان إلى آخر، وهو عبارة عن ترنيمات قصيرة مؤثرة في جمع الإبل وسيرها وانتظام عودتها إلى مُرحِها".

وللحداء مناسبات مختلفة فمنها "حداء الرحيل"، و"حداء السفر"، وحداء سقي الإبل الذي يسمى "العوبال"، وهناك حداء الأوبة المسمى عند العامة "الهوبال"، وهو خاص بجمع الإبل وسوقها إلى مرحها أو مكان رعيها، وهناك "حداء السواني"، ويغنى للإبل التي تجذب الماء من البئر لتنشط في سيرها.

ولم يستطع "الحداء" الاستمرار في لغته الفصيحة وفق ما ورد في كتاب "الحداء" للباحث محمد العجيري، خصوصا بعد أن ترك اللغة من تمسكوا بلهجاتهم الجديدة المولّدة، فتحول الحداء من اللغة الفصيحة إلى اللغات الدارجة لأهل الأمصار، ويوضح المؤلف أن هذا الإرث لم يتم تأليفه من قبل مجموعة معينة من الأفراد، بل انتقل من جيل إلى جيل، وخضع للحذف والإضافة حسب الاحتياجات البيئية للأفراد المستخدمين له، حتى وصل إلينا على الشكل الذي هو عليه، ولن يتوقف عن التعديل حتى يصل إلى مراحل التسجيل.

ومن أمثلة أحديات بدو الجزيرة العربية التي قالوها بلهجتهم العامية ما يسمى بالهوبال، وهو ينقسم إلى حداء ورجز، فأما الحداء فهو الذي يغنّى أثناء انتظار الدّلو، وهو يصدر من قاع البئر إلى حين الإمساك بها، ومن أمثلة ذلك قولهم "سق القعود وهِمّه يسقي خواته وأمّه"، "الله عليك قليّب يجمع خبيث وطيب"، "إن زولمن والتمن زهاب أهلهن تمّن"، "يا مرحبا وارحابي بأم السنام النابي"، "يا شمّخ العشاير يا مجوزات الباير"، "صب القلص لشعيلة كم درهمت من ليلة"، "ملحا جليلة واخر وإن جاء الدَّحم تستاخر"، "يا مرحبا وأهليني بأم الدلال الزيني"، "برقٍ يلهله قبله ينبت شتيل وربله".

وأما الرجز فهو خاص بالإمساك بالدّلو وتفريغ الماء في الحوض ومن أمثلته قولهم "يا غليّم رده يا غليّم رده"، فإذا ارتوت الإبل وأرادوا أن يحثّوها إلى مزيد من الشرب، قالوا "يا الإبل واخذي علّة وقودي ويا قاك الله.. ياو – ياو".

تراث شعبي غير مادي

وقد سجل فن "حداء الإبل" ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي في منظّمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو"، بعد استيفاء شروط الملف الذي تقدمت به كل من السعودية وعمان والإمارات، كأبرز الموروثات التي ما زالت حيّة في التراث الشعبي.

وتحظى الإبل بمنزلة كبيرة في وجدان المجتمع العربي عامة، بصفتها أحد أهم موروثاته الثقافية، ولأجل هذا الارتباط الوثيق بين الثقافة المحلية والإبل، بادرت وزارة الثقافة السعودية بتسمية هذا العام 2024 بـ"عام الإبل"، باعتبارها قيمة ثقافية، وركيزة من ركائز الحفاظ على الهوية الوطنية الأصيلة، والتراث العربي الأصيل.

مقالات مشابهة

  • استياء من ملابس “نيكي ميناج” في مهرجان موازين بالرباط
  • حداء الإبل.. حكايات ومرويات التواصل مع الجمال بالجزيرة العربية
  • مطبوعات اقتناها البابا تواضروس من معرض الكتاب بالإسكندرية.. بينها «مصر الفرعونية»
  • أشكال القصة القصيرة خلال أربعة عقود في كتاب “القصة القصيرة في سورية” للدكتور الناقد ياسين فاعور
  • الرياضة الإماراتية.. حضور قوي في المشهد العالمي خلال يوليو المقبل
  • افتتاح معرض الكتاب الدولي بالكاتدرائية المرقسية
  • وزيرة الثقافة تفتتح معرض الكتاب الدولي بالكاتدرائية المرقسية بالإسكندرية
  • عام على التمرد.. أين فاغنر من المشهد الروسي بعد رحيل قائدها بريغوجين؟
  • من البدايات إلى الرحيل.. عادل حمودة يروي حكايات النجم أحمد زكي في سلسلة مقالات على صفحات "الفجر"
  • «بنظرة عينيه».. شاب يحارب الشلل ويؤلف كتابا من 50 ألف كلمة