لجريدة عمان:
2025-03-13@22:26:45 GMT

كوميديا الحياة الاجتماعية

تاريخ النشر: 13th, February 2024 GMT

كوميديا الحياة الاجتماعية

«ما هي الذات (الأنا)؟ رجل يقف إلى النافذة ليرى المارّة، فإن عبرتُ هل أستطيع القول إنه وقف هناك ليراني؟ لا؛ لأنه لا يفكر فيّ على وجه الخصوص. ومن يحب أحدًا لجماله هل يحبه فعلا؟ لا؛ لأنه لو أصيب بمرض الجدري فسوف يموت الجمال من دون أن يموت الإنسان، مما يعني أنه لن يحبه بعد الآن. وإذا كانوا يحبونني لحُكمي، لذكراي، فهل أنهم يحبونني؟ لا؛ لأنني أستطيع أن أفقد هذه الصفات من دون أن أفقد نفسي.

أين هي هذه الذات إذن إن لم تكن في الجسد ولا في النفس؟ وكيف نحب الجسد أو الروح، إن لم يكن من أجل هذه الصفات، التي لا تصنع الذات، لأنها قابلة للفناء؟ هل لأننا نحب جوهر روح الإنسان بشكل مجرد، وبعض الصفات الموجودة فيه؟ لا يمكن القيام بذلك، إنه أمر غير عادل. لذلك نحن لا نحبّ أحدًا أبدًا، بل صفاته فقط. فلنتوقف عن الاستهزاء بمن نكرمهم... لأننا لا نحب أحدًا إلا لصفاته المستعارة».

لا تزال كلمات الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال (1623 - 1662) عن الذات تشكل- إلى الآن- مفاجآت وتحديات للآراء المتعارف عليها عمومًا والمتأصلة حول وجود «الذات» وطبيعتها. فإما أن الذات هي هذه «النواة الجوهرية» التي نتخيلها في أغلب الأحيان -وإن كان من المتعذر الوصول إليها وغير معروفة- وإما أن تَفَرُّد الإنسان يكمن في صفات فانية، وبالتالي لا تملك هذه الذات شيئا مُستدامًا. أضف إلى ذلك، إن باسكال يُبدّل مفهومًا شائعًا ومعينًا للحب. نحن لا نُحب أيّ شخص لنفسه أبدًا، بل فقط للصفات التي ندركها فيه. ولكن من خلال القيام بذلك، لا نكون متأكدين أبدًا من أننا لا نخطئ في فهمه.

من الطبيعي أن يؤكد باسكال هذه الأطروحة: «لذلك نحن لا نحب أحدًا أبدًا، بل صفاته فقط». لا يقول باسكال إننا لا نستطيع أن نحبّ الآخرين. يقول فقط -وهذا شيء مختلف تمامًا!- إننا لا نستطيع أبدًا أن نحب الآخرين لأنفسهم (لا يمكن الوصول إلى «ذواتهم»)، ولكن فقط لصفاتهم (التي هي قابلة للفناء). بمعنى آخر، لا يمكننا أن نفعل أي شيء سوى الثقة بما يبدو عليه الآخرون؛ لأننا لا نستطيع أبدًا الوصول إليهم في أعماق كيانهم. تتضمن أطروحة باسكال هذه، التشكيك في الاعتقاد المقبول عمومًا، بأنه من الممكن إقامة علاقات حقيقية مع الآخرين. إن مثل هذا الاعتقاد مجرد وهم محض.

لهذا السبب أيضًا يسخر باسكال من هذا الموقف الشائع تجاه الشخصيات العامة التي تسعى إلى حبّ الجمهور: فلنتوقف عن الاستهزاء بمن نكرمهم... لأننا لا نحبّ أحدًا إلا لصفاته المستعارة». فهذه المناصب العامة ذات المسؤوليات العالية تضفي سمعة سيئة على من يمارسونها (السلطة القضائية، كاتب العدل... على سبيل المثال). نحن نسخر بسهولة من تطلعاتهم إلى أن يتمّ اعتبارهم ومحبتهم بسبب وضعهم الاجتماعي. تبدو هذه السخرية ذات صلة؛ لأن الوضع الاجتماعي للشخص لا يتطابق بأي حال من الأحوال مع ذاته الداخلية.

يشير باسكال إلى أنه من المفارقة أن هذه السخرية لا أساس لها من الصحة، حيث إن ذات الشخص لا يمكن الوصول إليها ولا يمكن معرفتها، وكل ما تبقى هو صفات خارجية و«مستعارة». لذلك ليس هناك ما هو مثير للسخرية أو الصدمة في الرغبة في أن نكون محبوبين لما ليس نحن عليه؛ لأننا لا نستطيع أن ندّعي أننا محبوبون لما يفترض بنا أن نكون عليه... من هنا، بالنسبة إلى نجم سينمائي أو رياضي كبير أو شخصية سياسية، فإن سعيه للحصول على خدمة عامة والتحمس للحصول عليها ليس أكثر سخافة من الادعاء بالسعي إلى علاقات صادقة وحقيقية. ثمة وجه خلف القناع؛ وقد لا أكون أنا خلف الوجه...

يمكننا بالتأكيد أن نثير اعتراضات عديدة على نص باسكال. بادئ ذي بدء، أطروحته صالحة فقط إذا اعترفنا بمسلّمته الأولية، أي التمييز بين الذات باعتبارها جوهرًا (دائمة وغير قابلة للتغيير) من ناحية، وبين الصفات (القابلة للفناء والزوال) من ناحية أخرى. يمكننا أن نعارض باسكال بفكرة الهوية المتحركة، ونؤكد، باتباع التحليل النفسي على سبيل المثال، أن سرّ الهوية الشخصية هو جزء من تاريخ في طور التكوين دائمًا، من تجربة غير مكتملة دائمًا، في القانون كما في الواقع.. ويبدو لي أن هذا الاعتراض قوي، لكن باسكال يستجيب له مقدما، إذ يسعى جاهدا إلى تقويض أسس هذا الإيمان بوجود ذات جوهرية ودائمة.

من ناحية أخرى، لا يعتمد حبّنا للآخرين فقط على إدراك صفاتهم (الحقيقية أو المفترضة)، بل على الانتماءات الشخصية، على المرجعيات والقيم المشتركة، باختصار على مجموعة من الأشياء التي لا تكون واضحة دائمًا. وهي أشياء تمّ تحديدها أو تأسيسها بشكل عقلاني. وهكذا يمكننا أن نقارن هذا النص لباسكال بنص آخر له: «للقلب أسبابه التي يتجاهلها العقل»...

ولكن إن بقيت دوافع الحبّ غامضة بالنسبة لنا في معظم الأوقات، فيجب علينا أن ندرك أننا نعتقد دائمًا أنه يمكننا إقامة علاقة صادقة مع شخص يتم تقديره لفرادته وتفرده. «لأنه كان هو، لأنه كان أنا» مثلما يخبرنا فيلسوف آخر، مونتين، عن صداقته مع إتيان دو لا بويسي. يمكن أن يكون الشعور صادقًا، وفق باسكال؛ وتبقى الحقيقة أننا لسنا متأكدين أبدًا من قدرتنا على فهم أو معرفة ذات الآخرين؛ لأنها تفلت منا دائمًا.

نص باسكال هذا، هو نص فلسفي وميتافيزيقي وليس نص علم نفس. فهو لا يسأل «كيف» نحب، بل «ماذا» نحب (أو نعتقد أننا نحب) عندما نحب؟

على الرغم من كل هذه الاعتراضات القوية، فإن باسكال على حق، (حقيقة فعلية) إذ يصيب نصه عددا معينا من المعتقدات المتعلقة بأهمية أنفسنا، والأنا التي نفضل بها أنفسنا في كثير من الأحيان على الآخرين (فيما يتعلق بالذات). الأصالة الإشكالية التي نفترض أننا قادرون على تحقيقها في العلاقات الإنسانية، فيما يتعلق بالحب كنوع من المعرفة الحميمة والحقيقية للآخرين... من دون الذهاب إلى حدّ التأكيد بشكل واضح وقاطع على أن الذات غير موجودة، يتساءل باسكال، بقوة مذهلة، عن اليقينيات، وحتى الأوهام، التي نعتمد عليها فيما يتعلق بـ «ذاتنا» العزيزة، هذا الوحش الحميم الصغير، ولكن المستبد، الذي نبجله ونتملقه، لدرجة أننا نمنحه في كثير من الأحيان المركز الأول...

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: لا نستطیع أننا لا لا یمکن دائم ا

إقرأ أيضاً:

"قافلة الواعظات".. لمسة رحمة ومواساة في دور الرعاية الاجتماعية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

نظمت مجموعة من واعظات الجيزة، برفقة د. مروة رجب غزال، منسق الواعظات بوزارة الأوقاف، القافلة الثانية من قوافل الرحمة والمواساة خلال شهر رمضان المبارك، وذلك في إطار الخطة الرمضانية للوزارة وانطلاقًا من دورها المجتمعي.

توجهت القافلة إلى دار مسنين الياسمين بالحي السابع في السادس من أكتوبر، والتقت بالمسنات وقدّمت لهن التهنئة بمناسبة عيد الأم. 

كما زارت القافلة دار أيتام محمد راغب، التي تضم ٤٠ طفلًا وطفلة من الأيتام، وعاش الجميع أجواءً رمضانية أسرية، واختُتمت الزيارة بإفطار جماعي ضم الأطفال الأيتام والأمهات البديلة والعاملين بالدار.

حرصت الواعظات خلال القافلة على تقديم الدعم النفسي والروحي للمسنات والأيتام، وإدخال السرور إلى قلوبهم بكلمات طيبة ودعوات صادقة، لتأكيد معاني الرحمة والتراحم التي يجسدها شهر رمضان المبارك. 

تأتي القافلة ضمن جهود وزارة الأوقاف لتعزيز دورها الدعوي والإنساني في المجتمع، خاصة في الأماكن الأكثر احتياجًا للدعم والمواساة.

FB_IMG_1741725227891 FB_IMG_1741725225665 FB_IMG_1741725223309 FB_IMG_1741725221300 FB_IMG_1741725219416 FB_IMG_1741725189602

مقالات مشابهة

  • أمير القصيم يستقبل محافظ المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية
  • بالارقام.. الإعانة الاجتماعية تكشف خططها لدعم الفئات الهشة في العراق
  • الإمارات قدّمت نموذجاً عالمياً في تعزيز الروابط الاجتماعية
  • وزير الشؤون الاجتماعية والعمل يلتقي وفداً من منظمة الأغذية العالمية (WFP) وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)
  • الشركات ودورها في المسؤولية الاجتماعية
  • الأسبوع الوقفي الخليجي يبحث دعم المبادرات الاجتماعية والاقتصادية
  • "قافلة الواعظات".. لمسة رحمة ومواساة في دور الرعاية الاجتماعية
  • برلمانية: التصالح في مخالفات البناء يحقق العدالة الاجتماعية
  • دراسة: تناول السمك مرتبط بتطور الشخصية الاجتماعية لدى الأطفال
  • مجاهدة الذات