إنّها الموسيقى.. وكفى!
تاريخ النشر: 13th, February 2024 GMT
غنيّة الحكمانية
الموسيقى فنٌ من الفنون الصّوتية المشنّفة للأسماع رقّة ورهافة وعذوبة، وهي من ضمن الفنون السّبعة الأشهر عالميا،ً ولكنّها كما قال أفلاطون: "إنّ الموسيقى أكثر اختراقا لذواتنا من الفنون الأخرى؛ لأنّ كل تلك الفنون تخاطب الظلالَ فقط، بينما تخاطب الموسيقى الجوهر".
صدق أفلاطون فالموسيقى تخاطب بهمس لحنها الأفئدة والعقول، تستنطق إحساسها وتسري بها في رحاب ملكوتها الجميل، متماهية مع الأرواح التي تنشد السّلام والحُب والوئام، وتلهم الألباب فكرًا وآفاقًا منفتحة تُجاوز به أفهام الآخرين، وتضفي على الكون حياة وعلى الحياة معنى وعلى المعنى جَمالًا.
وقد نشأت الموسيقى منذ عصور ما قبل الميلاد؛ إذ وُجِدت بعض الآثار لبعض الآلات منحوتة من الأخشاب أو من عظام الحيوانات مع ثقوب على جانبيها، وما بعد الميلاد اختلفت ثقافات الحضارات القديمة للموسيقى، فلقد أُشْركت ألحانها في الاحتفالات الدينية والطقوس التعبدية، ثم في أنماط الحياة والمناسبات الخاصة، فأصبحت للشّعوب موروثاتها الشّعبية وتقاليدها الموسيقية وأغانيها القوميّة، ونتاجات من الألحان تنفرد بها. وما تتبوّأ الموسيقى من مكانةٍ في تلك المجتمعات يعكس مدى التقدم والانفتاح والحظوة من الرّفعة والرّقي فيها، كما أكّد حكيم الهند القديم كونفوشيوس: "إذا أردت أن تتعرف في بلد ما على إرادته ومبلغ حظه من الحضارة والمدنية، فاستمع إلى موسيقاه". ويؤكد قوله ابن خلدون: "أحد مؤشرات سقوط الحضارات كان تدني الحسّ الغنائي الموسيقي في المجتمع".
وللموسيقى عظماء تكلّلت مساعيهم الموسيقية في حقبتهم نموًا وازدهارًا، وتنوعت حصيلتهم الموسيقية من حيث الأداء والمهارة والأسلوب، ومن أشهرهم الأسطورة بيتهوفن الذي رغم فقدانه السّمع أطرب السّامعين بسيمفونياته الكلاسيكية الرائعة، فكان لا زال يملك أذنا موسيقية رافقت مشوار إبداعه طوال حياته، ومن مقولاته "أنّ الموسيقى هي الوسط بين الحياتين الرّوحية والحسيّة"؛ فهي تعرج به إلى سماواتٍ رحبة يتقلّب في رغَد بحبوحتها، فتحلو حينها مناجاة الرّوح بكل صدقٍ وصفاء، فترقى بكينونة الإنسان إلى أرقى درجات السّلام والجَمال والإبداع، فما بين الرّوح والحسّ موسيقى.
والطبيعة أيضًا تعزف ولها مزاميرها البهيجة المختلفة، تبوح لحنًا شجيًّا متأنّقة بجنباتها الفاتنة، ترنيمات الطيور وحفيف الأشجار وهدير الأمواج وخرير الماء، فالطبيعة مصدر إلهام لروائع الأنغام، فالعازفون يسترقون السّمع لاختلاس أجود الأصوات، وتُدمج سيمفونية الطبيعة ومعازف الموسيقى لتشكيل أجمل موسيقى للطبيعة البشرية، وتصبح لوحة التأمل حينها أكثر تناغمًا وانسجامًا وتوازنًا.
وتؤكد الأبحاث مدى قوة تأثير الموسيقى على الإنسان والحيوان والنّبات، فالإنسان في جميع أطواره ومراحله وتقلباته، تربتُ الموسيقى على قلبه سكينة واطمئنانا، وتحلّق به متعة وانتشاء، وتمنحه إيجابية ودافعية، وتعمل على تحسين قدراته الذهنية والبدنية وتقوية مهاراته الاتصالية والتواصلية. والحيوانات تشدو مع الموسيقى وكأن سحرَ الافتنان قد مسّها، تستمتع وتكون أكثر وداعة ورقّة، وتدندن مع معزوفات الموسيقى وتتراقص طربًا، فقد وافقت شيئا من إحساسها، تحكي لي والدتي عن ماضي زفافها على النّاقة قديمًا، بأنّ النّاقة تميل بعنقها يمنة ويسرة مبتهجة جذِلة مع النّساء، مغمورة بالسّعادة تشاركهن الفرَح والسّرور.
وللنّبات تجاوبٌ وتفاعلٌ أيضا فهو يتنعش بذبذبات وترددات الموسيقى فيقوى عوده ويتحفّز نموه ويتبّكر تزهيره ويزيد إنتاجه.
وتُستخدم الموسيقى للعلاج النّفسي والجسدي والعصبي باستخدام تقنيات عدّة تناسب وطبيعة الحالة، فكانت هناك بيمارستانات عربية منذ ألف عام ونيّف خاصة لعلاج الاضطرابات المختلفة بالموسيقى، وتم تأسيس مبادئ علمية تتعلق بالعلاج الموسيقي من قِبل العلماء والأطباء العرب العظماء كالرازي وفارابي وابن سينا؛ فإيقاعات أوتارها دواء، وموجاتها الصوتية عزاء، تعمل على إزالة عوالق الأرواح المتعبة وإزاحة الألم ورفع مستوى الأجسام المضادة في الجسم، وحين ترتيل أنغامها يستجيب المريض للعلاج بما تفرزه من هرمونات السّعادة والفرح التي تحفّز على التشافي والتعافي. ويقول العالم أبو بكر الرازي: "إنّ للموسيقى أثر سحري يقي المرضى من تأجج أزماتهم النفسية".
لذا.. فالموسيقى ليست مجرّد تجميع ألحان لتشكيل مقطوعات موسيقية، أو جوقة تتشارك أداءً أنغامًا متآلفة؛ بل هي بوح مُعبّر عن المشاعر والأحاسيس، تفصح عن خلجات النفس التي لا يمكن الحديث عنها بكلمات، ولا يفهمها إلا من لديه فيضا من المشاعر الصادقة والأحاسيس النبيلة، فهي تخترق شغاف القلوب برقّة الشعور ورهافة الذوق. نعم إنّها الموسيقى لغة الإنسانيّة والكونية، ففي نسختها هدى وسلامًا وأُلفًا، توحّد النّاس تحت دينها، فلا تنطق كفرًا ولا عنفًا ولا ويلًا ولا ثبورًا، يجتمعون النّاس تحت مظلة معازفها سواسية بشتّى الأجناس والطوائف والتوجهات، منعتقة من ملوثّات الحياة وأدرانها ومتهذّبة بفضائل الأخلاق ومكارمها.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
25 أبريل.. "شنب شرقي منقرض" على مسرح نهاد صليحة بأكاديمة الفنون
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
يشهد مسرح نهاد صليحة بأكاديمية الفنون، العرض المسرحي "شنب شرقي منقرض"، وذلك مساء الجمعة المقبل الموافق 25 أبريل 2025.
"شنب شرقي منقرض" عرض مستلهم من كتاب "ذكر شرقي منقرض" للدكتور محمد طه؛ والذي تدور أحداثه في إطار بوليسي مشوق، حيث يبدأ بإثارة لغز غامض، ثم تتصاعد الأحداث بشكل مثير، ويأخذنا في رحلة من التشويق والإثارة، حيث نلتقي بشخصيات العرض التي تتنوع مشاهدها بين العديد من القضايا المجتمعية الساخنة، مثل الذكورة المزيفة، تسليع المرأة، العنف الأسري، والتربية الخاطئة، ومع تطور الأحداث، تتوالى التساؤلات: هل سيتمكن المحقق رشدي سراج من فك طلاسم هذا اللغز المعقد؟ وهل سيستطيع المجتمع استعادة القيم الحقيقية للرجولة التي كادت أن تنقرض؟
ويجري مخرج العرض سامح أمون بروفات مكثفة استعدادًا لأول ليالي العرض وأكد سامح ثقته الكاملة في فريق العمل المتميز، الذي يبذل جهدًا كبيرًا ويظهر حماسًا منقطع النظير لضمان نجاح هذه التجربة الفنية التي تجمع بين الإبداع الأدبي والإبداع المسرحي.
وفي إطار حديثه عن العرض المسرحي المستلهم من كتابه، عبّر الدكتور محمد طه عن إعجابه الكبير باسم العرض الذي تم اشتقاقه من عنوان مؤلفه، مشيدًا باللمسة الفنية التي أضافت لمحة من الإبداع إلى العمل، كما أبدى طه رغبة قوية في حضور العرض المسرحي في حالة تواجده في مصر، مؤكدًا اهتمامه البالغ بمشاهدة هذا العرض المسرحي الحي المستوحى من كتابه "ذكر شرقي منقرض".
يشارك في بطولة المسرحية فريق الجدار الرابع للفنون، إضاءة عز حلمي، استعراضات محمد البحيري، ديكور العشوائي، مكياج مارينا برزي، الحان الأغاني جون خليل، توزيع موسيقي رفيق جمال، ملابس مريم ظريف، اكسسوارات مايفل ماهر، مخرج منفذ ديفيد ملاك، والعمل من تأليف وأشعار ديفيد رفيق، وإخراج سامح أمون.