يقدم فيلم "الخيال الأميركي" تجربة سينمائية مختلفة عن الأفلام الأخرى المرشحة لجوائز الأوسكار هذا العام، فهو عمل يشتبك بشكل شديد الذكاء مع قضايا عدة في آن واحد، وعلى الرغم من كونه الفيلم الروائي الطويل الأول لمخرجه فإن الأخير استطاع التعامل بنضج مع مواضيع ثقيلة مثل "العنصرية المستترة" و"ثقافة السود"، بالإضافة إلى الحسابات الخاصة بدور النشر الباحثة عن الأعلى مبيعا قبل كل شيء آخر.

"الخيال الأميركي" من إخراج كورد جيفرسون وبطولة جيفري رايت وستريلنغ جي براون وإيسا راي، وجاء عرضه الأول في مهرجان "تورنتو" السينمائي، وترشح لـ5 جوائز أوسكار هي أفضل فيلم وأفضل سيناريو مقتبس وأفضل ممثل في دور رئيسي وأفضل ممثل في دور مساعد وأفضل موسيقى تصويرية.

الخيال الأميركي والعنصرية المستترة

يضع فيلم "الخيال الأميركي" المشاهد في قلب الصراع منذ لحظاته الأولى بالمشهد الافتتاحي لـ"مونك" الأستاذ الجامعي ذي الأصول الأفريقية، والذي يتجادل مع إحدى طالباته بسبب طرحه عنوانا عنصريا صادما للنقاش.

تتكشف سريعا طبيعة شخصية البطل المثقف المتعالي سريع الغضب الذي يشعر بمرارة عدم التقدير الأدبي، فأعماله الروائية غير معروفة سوى للأكاديميين فقط، فيما أعمال روائية أقل من الناحية الأدبية تحصد النجاحات المادية والنقدية لمجرد تقديمها كليشيهات الأدب الأسود المعتادة، والتي تعتمد على العلاقات الأسرية المتفسخة والجريمة والعنصرية والقهر.

يزداد غضب "مونك" بعد عودته إلى بوسطن حيث تقيم عائلته عندما يصدم بحالة والدته الصحية السيئة التي تتطلب رعايتها الكثير من الوقت والمال.

يقرر "مونك" في لحظة غضب من المشهد الأدبي اللاهث وراء القصص الرخيصة كتابة رواية على ذات الشاكلة، عمل أدبي لا يبذل فيه أي جهد حقيقي، يجمع كل الأفكار النمطية الشهيرة في أدب السود، ثم يضع عليه اسما مستعارا ويرسله إلى وكيله الذي يعرض الرواية بالفعل على عدد من دور النشر.

"مونك"(جيفري رايت، يمين) مع شقيقه المتشدد كليف (ستيرلينغ ك. براون) في فيلم "الخيال الأميركي" (المصدر: أوريون بيكتشرز)

تمثل هذه الرواية بالنسبة للبطل سخرية من المشهد الأدبي الأميركي، ودعابة ساخرة من سطحية المسؤولين عن دور النشر، ولكن تنقلب هذه الدعابة إلى حقيقة.

تنهال عليه العروض لشراء الرواية بمبالغ لم يحلم بكسبها في حياته، ثم تطلبها الأستوديوهات السينمائية لتحويلها إلى فيلم من المتوقع حصوله على الأوسكار، بل تتجاوز الرواية حتى النجاحات التجارية لترشح إلى أهم الجوائز الأدبية في ظل محاولة القائمين على هذه الجوائز إظهار اهتمامهم بأدب أصحاب الأصول الأفريقية، ويجد البطل نفسه حائرا بين احتياجاته المادية الملحة، وغضبه وشعوره بالمهانة من هذا النجاح لعمل لا يمكن مقارنته بأعماله السابقة بأي شكل من الأشكال.

يبدو فيلم "الخيال الأميركي" في البداية كما لو أنه يستحضر ثنائية الأدب الرائج والرفيع، ويستعرض الفروقات بينهما وكيف يستطيع كاتب واحد تقديمهما معا، لكن الفيصل هو للقارئ الذي يختار، فيما هو في الحقيقة يناقش ثنائية أخرى أهم، بين أدب لا يحاول مداعبة الأنماط الشائعة عن كتابات السود في محاولة لقهر هذه العنصرية المستترة، وآخر يقدم مضامينه الخاصة ضمن هذا النمط.

تتمثل هذه الثنائية في الفرق بين ما يقدمه "مونك" من أعمال يعتبرها رفيعة ولكن لا يقرؤها أحد وبين كتابات منافسته "سينتارا جولدن" الذي استخف بها البطل لنجاحها الشديد، لكنها استطاعت تطويع الكليشيه لتقديم فكرها الخاص عن طبيعة حياة السود في أميركا.

المساواة في المجتمع الأسود

يرفض "مونك" من البداية تصنيف نفسه رجلا أسود، سواء من ناحية أعماله الأدبية أو اختياراته لشريكاته العاطفيات، وجزء كبير من احتقاره أدب السود التقليدي يرجع إلى عدم رغبته في الاعتراف بأن ذلك الأدب يحمل في باطنه جزءا من الحقيقة ويمثل آخرين في المجتمع.

يحكم البطل على عِرقه بالكامل من تجربته الخاصة كرجل أكاديمي من عائلة تنتمي إلى الطبقة الوسطى العليا كل أفرادها من الأطباء، يمتلك كل منهم منزلا على الشاطئ بالإضافة إلى منزل المدينة، ويلقي بعبء فشله الأدبي على رواج الأدب الأسود التقليدي، فلا يرى -أو لا يرغب أن يرى- المذنب الحقيقي وهو العنصرية المستترة التي تحتفي بهذا الأدب رغم ضحالته في بعض الأحيان لأنه يزيد تنميط النظرة العنصرية.

ورغم ذلك فإنه لا يمكن اعتبار أن تجربة البطل ذي المكانة العلمية والاجتماعية متشابهة مع تجربة الخادمة في منزله لمجرد أن كليهما يحمل لون البشرة نفسه، لأن العِرق هنا يتقاطع مع عوامل أخرى مثل الطبقة الاجتماعية والجنس، ويضع الفيلم البطل في مقارنة مع أخيه طبيب التجميل الذي على الرغم من مكانته الاجتماعية المساوية لـ"مونك" فإنه لا يخفي هويته كرجل أسود خلف قناع من التحضر المتعالي.

تتمتع شخصية "مونك" بتعقيد مميز، فلا يمكن أن يتعاطف معه المشاهد بشكل تام لأنه يحمل بداخله عنصرية، خاصة تجاه حتى بني عِرقه أنفسهم، ويستخدم تعالي المثقف جدار حماية بينه وبين العالم، ولكن في الوقت ذاته يمكن التماس الأعذار له لأن شخصيته نتيجة نظام من العنصرية المستترة كلما حاول الفكاك منها وجد نفسه أسيرها مرة أخرى.

عندما كتب "مونك" روايات لا تلجأ إلى أسلوب الأدب الأسود المعتاد تم تنميطه فقط للون بشرته ووضع كتبه مع كتب الأدب الأميركي الأسود، وحين حاول السخرية من هذا النظام أتى نجاحه كما لو أنه يؤكد على أن الاستسلام هو الطريق الوحيد للنجاة، وحتى مشهد النهاية في الفيلم المقتبس من روايته اضطر خلاله إلى الخضوع لرؤية يستعيد فيها نمطين شهيرين من كليشيهات العِرق الأسود، الأول القتل على يد الشرطة كخاتمة للفيلم، والآخر لقطة لمنزل جنوبي ينتمي إلى عمارة ما قبل الحرب الأهلية عندما كان أجداده عبيدا للعرق الأبيض.

يسخر فيلم "الخيال الأميركي" من المنظومة الثقافية الأميركية، وترشحه لأهم الجوائز يحمل معاني مزدوجة، فهو دعابة ذكية أفلحت في إحداث أثرها، وهو ترسيخ إضافي للتنميط الأميركي للسود.

المصدر: الجزيرة

إقرأ أيضاً:

الأدب يهزم القُبح.. ويبقى ذاكرة للحروب (2)

الصادق أحمد عبيدة / باريس

———————————-
تحت هذا العنوان تناولتُ في الأيام الماضية فوز الكاتب كمال داؤود بجائزة (الغونكور) الأدبية الفرنسية كأول كاتب جزائري يفوز بها، عن روايته "الحوريات" التي إستدعى فيها فظائع الحرب الأهلية في الجزائر.

هيمنت ثيمة الحروب وقبحها على المشهد الأدبي كأروع ما كُتِب هذا العام! ووصلت رواية "جَاكَراندا" Jacaranda للكاتب الرواندي الفرنسي Gaël FAYE غاييل فآي إلى القائمة القصيرة (للغونكور) منافِسةً "لحوريات" داؤود. ثم تُوِّجت بعد ذلك رواية "جاكَراندا" بجائزة (رونودو) Renaudot التي لا تقل ألَقاً ولا بريقاً من سابقتها. وقد إستدعى فيها الكاتب واحدةً من أقبح حروب القرن.. وهي مذبحة التوتسي في رواندا في 1994.

• فاي :
‏ولد غاييل فاي عام 1982 في بوجومبورا عاصمة بورندي حيث نزحت والدته من رواندا عقب حملة التطهير العرقي الأولى ضد قبيلتها التوتسي، ووالده فرنسي الجنسية.
‏عندما إندلعت الحرب الأهلية في بورندي في عام 1993، وتصاعدت وتيرة المذابح ضد قبيلة التوتسي في رواندا عام 1994، كان الصبي غايبل آنئذٍ في الثالثة عشر من عمره. فتم تسجيل إسمه في قائمة الفرنسيين المرشحين إلى الإجلاء إلى فرنسا فراراً من الحرب. وصل الصبي إلى فرنسا ومعه أخته الصغيرة ، وتم إيداعهما، بواسطة مؤسسة رعاية الطفولة، في كَنف أسرةٍ حاضنة إلى أن التأم شملهما مع والدتهما التي إستقرت بهما في ضاحية فيرساي Versailles، حيث عاش الجزء الثاني من شبابه ، ودرس المرحلة الثانوية. ساعدته موهبته وإهتمامه بالموسيقى على تخطي آلام الغربة وفَقْد الأحبة ومرتع الصِبا.
واصل تعليمه العالي حتى نال درجة الماجستير في دراسات التأمين في المدرسة الوطنية للتأمينات. وعمل بعد ذلك في كبرى الشركات في لندن، ثم إستقال من منصبه ليتفرغ للكتابة والتأليف الموسيقي.
أصدر في العام 2016، روايته الأولى Petit Pays "بلدٌ صغير" إستدعى فيها أحداث الحرب الأهلية في رواندا، وتم تحويلها إلى فيلم سينمائي صدر في 2020 بنفس الإسم، و قد ساهم هو في كتابة سيناريو الفيلم..يمكن مشاهدة الفيلم الآن عبر منصة النيتفيليكس.

• جاكَراندا :
تتناول الرواية، الصادرة عن دار "غراسيه"، قصة حياة الصبي "ميلان" وهو فرنسي من جهة الأب، رواندي من جهة الأم، نشأ في مدينة فيرساي ، يكتشف عبر التلفزيون مأساة التطهير العرقي في رواندا عام 1994، وتهيمن على عقله قصص ذلك البلد الصغير، وتلِحُ عليه
الأسئلة، ويقرر البحث عن حقيقة ماجرى لأسرة والدته هناك..لكن أمه التي تنتمي إلى قبيلة التوتسي ، كانت تتهرب طوال سنوات من الإجابة على هذا السؤال إذ أنها دفنت تلك الأحداث في أعماقٍ سحيقةٍ من سراديبِ الذاكرة ، و كغيرها من ضحايا الحروب، ضربت علي نفسها جداراً سميكاً من الصمت .
وخلال 25 عام قام ميلان بالبحث عن ما جرى ، وذلك من خلال رحلاته المتعددة إلى رواندا وإستنطاقه للشجر، والحجر، والطير، حتى الأموات وما تبقى من الأحياء المكفنين بالصمت..
أراد الكاتب من خلال رواية الجاكراندا أن يحكي لهذا الجيل قصة هذا (البلد الصغير) الذي عاش أسوأ الظروف ، وأبشع الفظائع، ومع ذلك استطاع أن يحقق التصالح والوحدة، وينهض من رماده، ويتكاتف أبناؤه ليصبح بعد ثلاثين عاماً بالتمام والكمال (1994-2024) واحداً من أكثر الدول الحديثة إزدهاراً وتقدماً..
إذن هي قصة نهضة رواندا وإزدهارها خلال ربع القرن الذي مضى حيث بلغت نسبة النمو فيها أكثر من 7 في المائة .
وقد فسر الكاتب إختياره لإسم شجرة (جاكراندا) عنوانا لروايته، بأنها الكلمة الفرنسية المحببة لنفسه، ولأنها الشجرة التي تحمل كثيراً من الأسرار وترمز إلى رواندا التي تحمل سر البقاء ، حيث تمر السنوات ولكنها تبقى شاهدة على كل ما مرت به من أحداث .

- الحروب :
وهكذا، مرة أخرى ، في عالم اليوم الذي انطمست فيه الحدود الفاصلة ما بين الحروب الإفتراضية عبر لعبة البليستيشن، والدمار الحقيقي الذي نعيشه أصبح التعايش مع القبح روتيناً يومياً أو كاد.. وهنا تأتي عبقرية الأدب الذي يقبض على هذه اللحظات الهاربة مع الزمن ليبقيها ذاكرةً "إبداعية" للأجيال.

elsadiq007@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • القنصل الأميركي لدى أربيل: العلاقات الأميركية العراقية توجه دفتها نحو التعاون الاقتصادي
  • الأدب يهزم القُبح.. ويبقى ذاكرة للحروب (2)
  • قبائل رداع يعلنون عزمهم الثائر من قيادات حوثية متورطة بالقبض على البطل الزيلعي
  • المحكمة تدين البطل السابق مغريغور بالاعتداء جنسيا
  • أحمد العوضي يكشف عن التعاون الثاني مع كارولين عزمي في «فهد البطل»
  • أحمد العوضي يروج لمسلسله الجديد "فهد البطل"
  • فهد الخضيري يكشف حقيقة الزيتون المسرطن ..فيديو
  • رونالدو يثير تفاعلا بإجابة على دعابة أنت على وشك الموت في حوار مع مستر بيست
  • عمرو خليل: العنصرية هي المحفز الرئيسي لكل تحركات الحكومة الإسرائيلية اليمينية|فيديو
  • عمرو خليل: العنصرية محفز رئيسي لتحركات الحكومة الإسرائيلية اليمينية