k.m.abdelbasit@gmail.com
بعد ضياع ثلثى قرن من عمر البلاد أصبح هناك شبه إجماع وسط النخب على أن أساس الاستقرار السياسى فى السودان، هو الوصول إلى دولة المواطنة التى تساوى بين جميع المواطنين فى الحقوق و الواجبات دون تمييز بسبب الإنتماء الجغرافى أو العرقى أو الثقافى أو المعتقد الدينى أو السياسى، و هى مواصفات الدولة الحديثة التى حلم بها شباب ثورة ديسمبر المجيدة و نادوا بها فى شعارهم الخالد "حرية سلام و عدالة" و لكن كان حصادهم بكل أسف الحرب و القمع و استحلال ممتلكاتهم و أعراضهم.


أهم مرتكزات الدولة الحديثة المرجوه هى بناء نظام ديمقراطى مؤسسى ركيزته الأساسية حكم القانون و المؤسسات لا حكم االفرد أو التنظيم ,و أن تكون المواطنة هى أساس الحقوق مع ما يتطلبه ذلك من بسط للحريات وتعددية سياسية و تمثيل متفق عليه للشعب فى المؤسسات التشريعية و التنفيذية و الفصل بين السلطات .
و من المعلوم أن السودان منى منذ إستقلاله بالحكم الشمولى الإستبدادى عدا ثلاث فترات تعدديه حاولنا فيها إستيراد النظام البرلمانى البريطانى و انتهت جميعا بالفشل و عودة الحكم الشمولى. نحاول فيما يلى إستجلاء أسباب هذا الفشل المزمن للنظام التعددى فى السودان و سبل علاجها.
يمكن تلخيص مسيرة الحكم فى السودان على النحو التالى:
1- ضم السودان ، بحدوده الموروثة حين إستقلاله من دولة الحكم الثنائى، رقعة جغرافية واسعة تمتد من الصحراء إلى الغابة و تضم شعوباً من أعراق و ثقافات مختلفة و ربما متخالفة، حرص الإ ستعمار على إبقائها على حالها و التعامل مع المستعمرة على أنها تتشكل من قبائل و طوائف لا رابط بينها . هذا و قد أدارت حكومة السودان و قتها هذه الوحدة الإدارية المسماة السودان على اسس قبلية عشائرية عززت الانتماء القبلى و غيبت تماما الإنتماء الوطنى. أى أن نظام الإدارة قصد تكسير الطابع القومى/الوطنى و تاسيس الظروف التى تسمح بالتفتت و التفكك لما تمثله الوحدة الوطنية من تهديد لوجوده خاصة بعد حركة اللواء الأبيض و ما أفرزته من إعلاء الإنتماء السودانى على الإنتماء العرقى/القبلى أو الثقافى.
2- عليه خلف المستعمر ورائه
أ‌- مجتمعاً متخلفاً ، حيث الولاء الأكبر للهويات الطائفية والعرقية والعشائرية , حيث السلطة الأبوية و تهميش المؤسسات و ضعف سلطة القانون، و كلها سمات تتناقض تماما مع قيم الديمقراطية.
ب‌- النخبة التى إنتظمت فى مؤتمر الخريجين الذى تعاظم دوره السياسى بعد مذكرته الشهيرة فى عام 1942. إنقسمت هذه النخبة إلى فريقين أحدهما مع الإسقلال التام للسودان و الآخر مع الإتحاد مع مصر. أدار الفريقان الإستقلالى و الإتحادى معاركهما للفوز بوراثة المستعمر بعيداً عن عامة الشعب و لما أدركوا أن الأمر يستوجب سنداً شعبياً لجأ كلا الفريقين للطائفية ممثلة فى الأنصار و الختمية لأغراض الكسب الجماهيرى بالوكالة. دلل ذلك و غيره الكثير من الشواهد أن هذه النخب سارت على نهج المستعمر ربما لافتقادها الرؤية الوطنية لدولة ما بعد الإستقلال، بل أن ذلك لم يكن على جدول إاهتمامتها مما يدلل على سطحية الحداثة المدعاة.
3- شكلت هذه النخب قبيل الإستقلال و بعده الأحزاب السياسية التى هى أهم أدوات الحكم الديمقراطى، و لكنها كانت أدوات معطوبة، همها الأول و الأخير الفوز بكراسى السلطة بأى وسيلة حيث غابت البرامج الإنتخابية و ساد التشاكس و المكايدات فى حلبات التنافس الإنتخابى.
4- قنعت الأحزاب من الديمقراطية بمظهرها من صناديق إقتراع و انتخابات لم يقدموا فيها من البرامج ما يمكن أن يكون مجالاً للتنافس بالأصالة و تنافسوا بالوكالة على ظهر الطائفية.
5- تبع قيام الأحزاب التى انبثقت من مؤتمر الخريجين و التى اصبحت توصف لاحقاً بالأحزاب الطائفية أو التقليدية، قيام أحزاب ايدلوجية تصف نفسها بالحداثة و تسعى لجر النخب المتعلمة إلى صفوفها بإعتبار انه من المعيب على من نال قسطاً مقدراً من التعليم التبعية للطائفية.
6- لم تبالى الأحزاب التى تنافست على الحكم بالأخذ بالأساليب الحديثة ولم تمتلك رؤى سياسية و تنموية تنبثق منها برامج سياسية للتنافس الإنتخابى. كما تجاهلت رأى الناخب على أساس انه تابع لراعى الطائفة.
7- لم تسع النخب المتصدرة للمشهد السياسى لتوعية الناخبين و فضلت بقاء الوضع على ما هو عليه ، بل ربما حرصت على بقاء تخلف المجتمع حيث يسهل غسل الدماغ، وتوجيه العامة بالإشاعة و العنف ضد الآخر المتهم دائماً، خدمة لمشاريعهم الذاتية الضيقة
8- لم تقدم أى من الأحزاب قديمها و حديثها ما يدل على قناعة راسخة بالديمقراطية، سواءاً بإستغلال الأغلبية الميكانية لتفيذ إجراءات غير شرعية رغم انف الجهات القانونية الرسمية أو الانقلاب على الحكومات المنتخبة.. هذا و قد شهد الواقع الماثل أمام أنظار الجميع أن هذه النخب إما إتخذت من مواطنيها مطية للوصول إلى كراسى الحكم فقط و لم تكن أبداً مهمومة بتحسين أحوالهم أو تمثيلهم بالمعنى الحقيقى للتمثيل البرلمانى، أو أنها نبذت النظام الإنتخابى و تسلطت عليهم بالقهر و تكميم الأفواه و ما صاحبه من قتل و تعذيب.

مما تقدم يمكن القول أن أساس المشكلة هو فشل من تصدوا لقيادة البلاد بعد الأستقلال و خلال ثلثى قرن من الزمان فى قيادة البلاد إلى بر الأمان . و فى تقديرى أن أساس العلة هو عدم إدراك أو تجاهل النخب لحقيقة أن الديمقراطية ليست انتخابات، ولا صناديق اقتراع، ولا تصويتاً، و إنما هي في المقام الأول قيم ثقافية، منها التسامح و الحرية وقيم الفردية مما كان يستوجب غرس هذه القيم فى المجتمع و الحرص على رعايتها و نموها حتى تنضج و توتى ثمارها. لكن العجلة للوصول إلى كراسى الحكم و القفز فوق مراحل تطور المجتمعات أورثنا العودة القهقرى حتى صارت العودة للماضى أغلى أمانينا. , بل يمكن القول أنه لم يكن لمن تصدوا للقيادة قناعة راسخة بالديمقراطية و أن تدثروا بشعلرات الحرية و الديمقراطية لأغراض ذاتية و أنهم جميعاً متشبعون حتى النخاع بمنظومة الوعى المتخلفة، التى يدعون السعى لتحديثها. و الدلائل على ذلك كثيرة، نذكر منها:

1- التفكير الإحادى و تجاهل البنى الإجتماعية و الإقتصادية و السياسية المحددة للحراك. و هذا أحد مظاهر الفوقية (أو النرجسية) التى تعانى منها يعض النخب التى ترى الإختلاف معها دليلاً على الدونية.
2- النظر للفرد على أنه خير محض أو شر محض و عليه العجز عن أستخدام الطاقات النافعة فى الأفراد و لجم الضارة.
3- الإصرار على حرق المراحل و إستيراد القوالب الجاهزة بدلاً من التعامل مع الموروث و سوقه الى المطلوب عبر رؤية و برنامج زمنى يتناسب مع البعد بين ما هو ماثل على الأرض و ما هو مطلوب.
4- التشظى و شخصنة الخلافات. و هى أبرز خصائص النفعى الذى لا يدفعه للانخرط فى العمل العام خدمة المجتمع و إنما ما يعود عليه من منافع شخصية و أضواء و جاه. كان و ما يزال هذا التشظى السمة الغالبة لإدارة الخلاف حتى يومنا هذا. و فى ما شهدناه من اتقسامات فى الأحزاب و الحركات المسلحة وفى ما ينعقد و ينفض من مجالس هنا و هناك اليوم فى ظل ما ابتلينا به من فظائع الحرب اللعينة الدائرة اليوم ما يغنى عن الإسترسال.
5-
بعد كل ما ذكرنا أعلاه هل من سبيل لبناء دولة مدنية حديثة فى السودان؟ الإجابة فى تقديرى هى نعم، إذ لا شيء مستحيل و لكن ليس بالتفكير و السلوك الذى مارسناه حكاما و مواطنين لما يقارب السبعين عاماً. و أجرؤ هنا أن اضيف ليس بالكهول و الشيوخ الذين يتسيدون الساحة السياسية الآن و الذين تخالف أقوالهم أفعالهم فى كثير من المواقف و لا بالحداثيون قولاً التقليديون سلوكاً.
يتطلب الأمر العمل على غرس قيم و ثقافة الديمقراطية فى الفرد و المجتمع بتنظيماته السياسية و المدنية.
يشمل تاهيل المواطنين تشجيع الإنخراط فى منظمات مجتمع مدنى تتميز بالآتى:
1- أن تكون قواعدها فى الأحياء لخدمة أهل الحى أولاً ثم تتكامل الأحياء المجاورة اخدمة المنطقة ثم المديتة و هكذا.
2- التواضع و العمل علي خدمة الناس علي جميع المستويات الرسمية و غير الرسمية ، و ذلك بالتصدى للعمل علي قضاء حوائجهم و تحسين أوضاعهم من معيشة و تعليم وصحة , و غيره من إحتياجات.
3- العمل كجمعيات خدمية بمعنى الكلمة تنشأ و تعمل حسب قوانين و قواعد متفق عليها .
4- الإبتعاد التام عن الإستقطاب السياسى. إذ أن أهم ما يعيق عمل منظمات المجتمع المدنى أن تكون واجهة لحزب سياسى.

كما يشمل تاهيل الأحزاب السياسية:
1- أن يكون لكل حزب رؤية واضحة لمعالجة مشكلات البلاد في جميع المجالات ، و أن تترجم هذه الرؤى إلي سياسات مبنية على دراسات جادة تمكن من الوصول إلى قرارات يسندها الواقع الماثل لا الانطباعات.
2- أن تتعامل مع الواقع السياسي بمعطيات الحاضر، لا بموروثات الماضي و أحقاده و مكايداته.مستوعبة للواقع السوداني بالمعايشة و قادرة علي استخدام معطيات العصر لادارة صراع سياسي عصري.
3- القناعة بأن السلطة و الحكم وسيلة و ليست غاية. أى أن الغرض من الوصول لكرسى السلطة خدمة الناخبين لا السيادة عليهم و متى ما كان توزيع كيكة السلطة هو الشاغل تسقط أهلية المتنافسين.
4- المؤسسية و ممارسة الديمقراطية داخلها أولاً بدلاً عن الإنقياد لفرد أو أفراد يأتمر الجميع بأمرهم.
5- الايمان الراسخ بالديمقراطية و التداول السلمي للسلطة قولاً و سلوكاً، ايماناً لا يزعزعه بريق الانفراد بالسلطة.
6- الصبر على وعورة الطريق و الصعوبات و العقبات و قبول ما ستفرزه المراحل الاولى من سلبيات و الحرص على تفادي سلبيات كل مرحلة فى المرحلة التى تليها.

هذا و لن تنصلح الأحزاب السياسية و لا منظمات المجتمع المدنى إلا بصلاح الأفراد. و لا شك أن الفرد السودانى قد تعرض للكثير من الدنس خلال ما يربو على الثلاثين عاما، كما ان الخلاص من هذا الدنس ليس بالأمر السهل خاصة فى ظل الظروف الإقتصادية بالغة التعقيد و ما أضافته هذه الحرب اللعينة من معاناة و نزوح و تهجير. و لن ينصلح ينصلح الفرد إلا بالتخفيف من الأنا و تغليب النحن و العمل على خدمة الجماعة ما استطاع. هذه بالطبع صفات لن تجتمع فى الكل و لكن يكفى فى البداية أن تتوفر فى الأفراد القلائل فى قمة الهرم لتسرى تدريجياً إلى القاعدة. يتطلب هذا بروز شخصيات فكرية وثقافية مؤثرة تؤسس لحركات اجتماعية متحضرة، تأخذ على عاتقها محاربة التخلف، ومكافحته، ونشر الثقافة والتربية الحضارية بحدها الادنى، لتمهد الطريق لقيام حكومات تأخذ على عاتقها اتمام عملية التغيير من خلال التشريعات والقوانين والتربية المدرسية وصولا الى بناء المجتمع والدولة الحديثة. و بالطبع لن يحقق ذلك متعجلي النتائج و نهازي الفرص من أصحاب الطموحات السلطوية.

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: فى السودان هذه النخب

إقرأ أيضاً:

فيديو: فرح السودانيين دخل وخارج البلاد

بمقدار!
*لم يتم تحرير المصفاة بعد، لكن خروج ملايين السودانيين إلى الشوارع في معظم مدن البلاد وقراها واحتفالهم بطريقة هستيرية (داخل السودان وخارجه) بسبب (شائعة) كاذبة تتحدث عن تحرير المصفاة له عندنا أكثر من معنىً ومؤشر..

فهو يدل ابتداءً على قوة السند الشعبي الذي يتمتع به الجيش في معركة الكرامة، ويثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن السواد الأعظم من الشعب السوداني مصطفٌ بكل طوائفه ومختلف مشاربه خلف قواته المسلحة وبقية القوات النظامية والمشتركة والمستنفرين، وأنه يساند جيشه بلا قيد ولا شرط، ويترقب انتصاراته على أحر من الجمر، ويرى أنها تستحق الإفراط في الفرح، والخروج إلى الشوارع تهليلاً وتكبيراً واحتفالاً وتوزيعاً للحلوى والمشروبات الباردة..

كما تدل هذه الاحتفالات العفوية الصاخبة على مقدار الكراهية التي تغلغلت في نفوس السودانيين إزاء المليشيات المجرمة، وتثبت أن بُغض المرتزقة الأوغاد ثبت في قلوب السودانيين كما ثبتت في الراحتين الأصابع.. شتان بين من يتقصّى الشعب أخباره، ويترقّب انتصاراته، ويفرح بها، ويتدافع لنصرته ودعمه، ويستجير به كلما دنس المرتزقة أي موقع في بلادنا الحبيبة، ويلتمس له العذر إن أخفق أو تأخر.. شتان بينه ومن يفر منه المواطنون فرار الصحيح من المجذوم والأجرب، كرهاً فيه، وخوفاً من إجرامه وعنفه وبطشه..

فليحتفل السودانيون ما شاء لهم المولى عز وجل (ولكن بمقدار) لأن جيشهم الهمام متقدمٌ بحمد الله في ميادين المعارك، وراغب في القتال، ومُصِر وساعٍ إلى تطهير بلادنا من دنس قرامطة العصر الحديث، لكن أوان الإفراط في الفرح والخروج إلى الشوارع احتفالاً لم يئن بعد، لكنه سيحين قريباً بحول الله، لأن انتصار جيشنا الباسل حتمي، لا لقوّته ومتانة إرادته وشجاعة جنده وشدة بأسه فحسب، بل لأنه يقاتل في حضن شعبه، ويتمتع بسند أُمَّته وإرادتها القوية الأبية.. وإرادة الشعوب الحُرَّة لا تُقهر.. ولا تعرف الانكسار.

د. مزمل أبو القاسم
مزمل أبو القاسمإنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • فيديو: فرح السودانيين دخل وخارج البلاد
  • ذكرى ميلاده.. أمنية لعلاء ولي الدين لم يمهله القدر تحقيقها في حياته
  • بيان للسودانيين المقيمين بدولة قطر: وقع خطاب السيدة الوزيرة وخطاباتها السابقة في جنيف ونيويورك وبورتسودان موقعا حسنا في وجدان ملايين السودانيين
  • مساعدات أمريكية للاجئين السودانيين في ليبيا، والتنمية الدولية تثني على جهود ليبيا في استضافتهم
  • الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية تعلن عن تقديم خمسة ملايين دولار لدعم اللاجئين السودانيين في ليبيا
  • لؤلؤة الخاطر
  • مجتمع النفايات الفكرية «٤»
  • الغرفة التجارية بالدقهلية تستضيف المؤتمر الأدبي "النص والمتلقى بين الأزمة والتقويم"
  • جيش الحكم الثنائي المغتصب.!!
  • المبعوثة الأميركية ليندا توماس: أكثر من 25 مليون سوداني يواجهون جوعا حادا، ويعاني الكثيرون منهم من المجاعة