الرئيس الأندونيسي جوكو ويدودو من التجارة إلى قيادة البلاد.. قراءة في كتاب
تاريخ النشر: 13th, February 2024 GMT
الكتاب: جوكوي يحقق أحلام أندونيسيا ـ التنمية القائمة على الأخلاق والقيم الإنسانية
الكاتب: دارماان براسوجو، المحرر:ترياس كون جاهيونو، الترجمة إلى اللغة العربية:أحمد لقمان فهمي
الناشر: مكتبة الترمسي أندونيسيا،ودار مسكيلياني للنشر والتوزيع بتونس
دخول جوكوي إلى عالم السياسة
ورث الرئيس الإندونيسي جوكو خصائص جينية من والديه، أصبحت عائلة والدته، التي كانت مشغولة في مجال الأعمال والتجارة طوال حياتها هي الداعم الرئيسي لجهوده في بناء حياته المهنية في مجال التجارة، بينما قدمت له عائلة والده التي كانت تشغل مناصب في القطاع الحكومي المحلي الموارد اللازمة لضمان مستقبله في الحياة.
عالم السياسة هو مجال مليء بالتحديات والمخاطر، قبل دخول الرئيس جوكوي إلى هذا العالم، فهم تماماً خطوته وتعقيداته، على الرغم من أن عائلته كانت تمتلك خلفية في السياسة على مستوى قريتهم الصغيرة، إلا أن جوكوي كان على دراية بأهمية الاستعداد والتحضير الجيد قبل انخراطه في هذا المجال.
في هذا العالم المتقلب والمتحول قرر جوكوي أن يتجنب السير على خطى والده وبجياثنو في منصب رئيس قرية كراجان، وبهذا ربما يكون جوكوي يعبر عن رغبته في عدم استمرارية الأشياء كما هي.
ثم بدأت الأحداث السياسية تقترب منه، حينما توجه العديد من الناس نحو جوكوي، الذي يشتهر بقيادته في مجال صناعة الأثاث، ويتعلق الأمر بأشخاص قريبون جداً من جوكوي والذين ليسوا من عالم السياسة، وقد طلبوا بصدق منه، كمرشح لشعبهم.
يقول الكاتب دارماوان براسوجو: "في البداية، رفض جوكوي طلبات من مختلف الأحزاب التي كانت ترغب في ترشيحه لمنصب عمدة سوراكارتا، حيث أراد أن يظل مجرد رجل أعمال في مجال الأثاث، وتزايدت شعبية جوكوي عندما أصبح رئيساً للمفوضية الإقليمية لجمعية صناعة الأثاث والحِرف الإندونيسية (أسميندو) في سولو رايا.
عالم السياسة هو مجال مليء بالتحديات والمخاطر، قبل دخول الرئيس جوكوي إلى هذا العالم، فهم تماماً خطوته وتعقيداته، على الرغم من أن عائلته كانت تمتلك خلفية في السياسة على مستوى قريتهم الصغيرة، إلا أن جوكوي كان على دراية بأهمية الاستعداد والتحضير الجيد قبل انخراطه في هذا المجال.يرى أصدقاء جوكوي ورجال الأعمال من سوراكارتا أن قدرته القيادية قد تم إثباتها، وعلى الرغم من ذلك، فقد بقي جوكوي غير متأثر، قرر أن يواصل رغبته في أن يصبح رجل أعمال، كانت السياسة في ذلك الوقت عالماً صاخباً ومثيراً للاهتمام، وكان يعتبره عالماً مليئاً بالفوضى والصراعات.
بالنسبة لجوكوي، فإن كونه رجل أعمال في صناعة الأثاث يعتبر أمراً مفضلاً، نظراً لأن الضوضاء يتم تقليلها من خلال استخدام صوت آلة منشار الخشب في الوقت نفسه، عندما ينخرط في السياسة، ستكون الأمور صاخبة بلا شك، نظراً للعديد من الأطراف التي تشارك بأدوارها، حيث يتمتع عالم السياسة عادة بسمعة سيئة في نظر بعض الأشخاص.
لماذا؟ لأن الأفعال النبيلة والسامية غالباً ما يتم تشويهها لأغراض غير شريفة، تعريف السياسة هو السعي الأناني للحصول على السلطة، وبذلك تصبح السياسة نشاطاً غير موثوق به وقمعي وفاسد"(ص86).
في الحقيقة، تعتبر السياسة ببساطة صراعاً ونضالاً للحصول على السلطة، وهي أيضاً محاولة للحفاظ على تلك السلطة، على الرغم من ذلك، تأمل عقل جوكوي مع هذا التصور بوضوح، فهو ينظر إلى السياسة بنظرة سلبية كطفل تم إجلاؤه على ضفاف كنالي أنيار، ولا تزال هناك صعوبات تواجهه في اختراق الحواجز البيروقراطية، وخاصة بعد أن تحوّل إلى رجل أعمال.
عايش جوكوي بنفسه وحشية العالم السياسي، غالباً ما يحدث خسائر خلال فترة الحملات الانتخابية، عندما بدأت الأحداث السياسية حديثاً، كانت الأمور فوضوية بالفعل، وخاصةً عندما يتولى شخص ما الحكم، تتسبب هذه القوة الرائعة في إثارة حالة من النشوة لدى العديد من الأشخاص، ما يجعلهم يتصرفون بطريقة غير عقلانية.
نتيجة لتبني السياسة المكيافيلية التي تسمح بأي وسيلة، فمن المنطقي والمفهوم جداً أن تظهر آراء تؤكد أن السياسة تعتبر قذرة ومليئة بالخطيئة، في الحقيقة، هذا ليس صحيحاً، ولكنه مفهوم للغاية، علاوة على هذا، تتسبب تصرفات بعض الأطراف السياسية الفاعلة في تعميق هذا الاعتقاد الخاطئ.
السياسة هي وسيلة لتوزيع السلطة وتنظيمها، تشبه الآلة التي تنقلها بقوة محددة، حيث يتم تحديد حركة الآلة الجيدة والسيئة بواسطة وحدة التحكم، قوة السلطة ليست حكماً بحد ذاتها، فهي ليست جيدة أو سيئة.
السعي إلى الحصول على السلطة بواسطة وسائل غير أخلاقية كان دائماً جزءاً من جاذبية السياسة لدى الأفراد المشاركين في اللعبة الكبيرة، ويساعد هذا أيضاً على بيان سبب عدم ارتياح الناس للسياسة، ونتيجة لذلك، هوى سمعة السياسة كونها الفضيلة العليا.
لاحظ جوكوي في العديد من المناسبات أن الواقع الفعلي مختلف تماماً عن الشعائر السياسية، ففي هذا البلد يسود العنف وسياسة المال والرشوة في الحياة السياسية. ترتبط هذه العوامل الثلاثة ـ العنف، وسياسة المال، والرشوة ـ ارتباطاً قوياً بممارسة السلطة، في الواقع، يمكن اعتبار السياسة حقيقة صراع على السلطة، ومن هنا جاءت المقولة (الغاية تبرر الوسيلة).
لم يكن لدى جوكوي والأفراد الآخرين خارج الساحة فهماً كاملاً للمشهد السياسي في تلك الفترة. كانت الأفكار التي تدور في ذهنه مماثلة لأفكار الكثيرين، بأن السياسة تُعتبر قذرة ولا تلتزم بالأخلاق السياسية، ومليئة بالمكائد الخبيثة.
في الحقيقة، السياسة تشبه بقية مجالات حياة الإنسان الأخرى، أليست السياسة في الحقيقة الوسيلة المثلى لتحقيق رفاهية الناس؟ ومعظم مؤسسي هذه البلاد هم سياسيون، ولديهم أهداف نبيلة في تحرير الأمة والإنسان من الجهل والقضاء على الفقر والمعاناة، اعتزم جوكوي الانضمام إلى مجال السياسة في هذا السياق الجديد من التفهم.
ويستمر الكاتب دارماوان براسوجوفي تحليل صعود جوكوي في المسار السياسي الأندونيسي، رغم إدراكه للتحديات التي تواجهه، إذْ تعين عليه التعامل معها بحذر شديد، نظرًا لوجود فرص ومخاطر كبيرة للكثير من الأشخاص هناك، وهذا يستحق المخاطرة، فبدأ جوكوي في وضع خطة واضحة، على الرغم من عدم معرفته في ذلك الوقت بكيفية تجاوز العقبات في السياحة السياسية التي بدت غريبة بالنسبة له.
في ذلك الوقت، كانت الانتخابات لاختيار عمدة سوراكارتا في عام 2005 قريبة، وبينما كان جوكوي رجلاً بريئاً دخل عالم السياسة بهدف تحسين البيروقراطية، كان هو المرشح الأخير للتنافس على منصب الرئاسة.
تأثرت الشخصية التي تكونت على مدى سنوات عديدة على ضفاف نهر كالي أنيارمسقط رأس جوكوي، في المنازل المستأجرة وورش العمل ومستودع الأخشاب الخاص بها، بشكل كبير بسبب وظيفته كرئيس لجمعية صناعة الأثاث والحِرف اليدوية الإندونيسية الكبرى في مدينة سوراكارتا الإندونيسية، كعضو في المجلس التنفيذي المركزي لجمعية صناعة الأثاث والحِرف اليدوية الإندونيسية.
من خلال جمعية صناعة الأثاث والحِرف اليدوية الإندونيسية في جميع أنحاء سوراكارتا رايا، التي تأسست في 11 يوليو 2002، قاد جوكوي أكثر من 140 رائد أعمال في صناعة الأثاث والحِرف اليدوية في سولو، هذا كله جعله شخصاً ذا شخصية أكثر تميزاً ومبادئ أكثر صلابة، ولكن، هل بإمكانه أن يصبح زعيماً في عالم الحكم والسياسة على نطاق أوسع؟
يقول الكاتب دارماوان براسوجو:" في هذه المرحلة، قام هادي رويماتو بسد الثغرات الموجودة، حيث شغل رودي منصب رئيس مجلس إدارة فرع سولو لحزب النضال الديمقراطي الإندونيسي، وقد حقق نجاحاً في الساحة السياسية، هذا الشخص الذي رأى قدرات جوكوي القيادية كان مستعداً لأن يكون نائباً له، من الواضح أن جوكوي يتفوق في مجال الإدارة، ولكن بالطبع، يحتاج إلى الاستشارة من قبل الخبراء الذين لديهم خبرة أكبر في المسائل السياسية لكي يتمكن من اتخاذ الخطوات اللازمة.
يتمتع جوكوي بشخصية فريدة. فقد واجه العديد من التحديات خلال طفولته ونشأته في ظروف صعبة، وعلاوة على ذلك، كانت البيروقراطية في ذلك الوقت تشكل نموذجاً للحكومة، في فترة النظام الجديد الذي تميز بالفساد والتلاعب، قد حضر جوكوي باعتباره اختراقاً في المستقبل، ويظهر كمصلح وسط ينأى بنفسه عن الممارسات السياسية القذرة والسياسات التي لا تهتم بالناس، لذا، يمكننا القول إن جوكوي يحمل صفات القيادة منذ ولادته.يعتقد بعض الناس أن القدرة على القيادة هي شيء فطري في الإنسان منذ ولادته، في حين يعتقد آخرون أن القدرة على القيادة تتشكل نتيجة التأثيرات اليبئية. ومن ثم يتم تكوين نماذج قيادية متنوعة نتيجة لمزيج بين الصفات الشخصية والظروف المحيطة، وعلى الرغم من ذلك، فإن الشخصية لا يمكن أن تتأثر أو تتغير بسهولة فقط بتغير البيئة."(ص90).
في حقيقة الأمر، يتمتع جوكوي بشخصية فريدة. فقد واجه العديد من التحديات خلال طفولته ونشأته في ظروف صعبة، وعلاوة على ذلك، كانت البيروقراطية في ذلك الوقت تشكل نموذجاً للحكومة، في فترة النظام الجديد الذي تميز بالفساد والتلاعب، قد حضر جوكوي باعتباره اختراقاً في المستقبل، ويظهر كمصلح وسط ينأى بنفسه عن الممارسات السياسية القذرة والسياسات التي لا تهتم بالناس، لذا، يمكننا القول إن جوكوي يحمل صفات القيادة منذ ولادته.
يستشهد الكاتب بكتاب توماس كارلايل الذي كتبه عن الأبطال وتعظيم البطل وأهمية البطولة في التاريخ عام 1841.في هذا الكتاب، الذي يتكون من ست مقالات، يستعرض توماس كارلايل نظريته حول الشخص العظيم، تفترض هذه النظرية أن القدرات القيادية والمواهب القيادية تكون موجودة في الشخص منذ ولادته، تطورت نظرية الشخص العظيم على مر القرون من القرن التاسع عشر حتى الآن.
نظرية الشخص العظيم تشبه نظرية الوراثة، حيث تؤكد على أنه لا يمكن لأي شخص أن يصبح قائداً، إنما يمكن للأشخاص الذين يتمتعون بالموهبة والشخصية أن يصبحوا قادة، لذلك، يُستخدم مصطلح (يولدون القادة، ولا يُصنعون) للإشارة إلى أنه يتمتع القادة بصفات فطرية وليس بنوع من الصنع.
إن جوكوي هو حفيد رئيس القرية وهو الوريث الشرعي للسلطة في القرية، بالإضافة إلى ذلك، يتولى منصب القائد الأعلى في القرية، وهو المسؤول عن سلامة وأمن ورخاء المواطنين، كذلك، يتمتع رئيس القرية بدور الوصي والحامي للشعب، في الوقت نفسه، يتميز تاجر الخيزران والخشب بغريزة حريصة على اكتشاف فرص، ويجب أن يعمل بشكل شامل من البداية إلى النهاية، يجب عليك أن تتعرف على أفضل مصادر الخشب، وتتعلم كيفية معالجته وتخزينه، بالإضافة إلى معرفة كيفية بيعه.
جوكوي هو شخصية تجمع بين الثقة والفهم للمشاكل والقدرة على حلها، بالإضافة إلى المرونة في التعامل مع الآخرين، يتميز جوكوي بمهارات إدارية ممتازة، ويعتبر لاعباً سياسياً بارعاً، حيث تكون تحركاته السياسية غير متوقعة.
سمح جوكوي للمعارضين بالسخرية منه، حيث يتم توجيه اتهامات بالخلط والغباء والبطء إليه بشكل متكرر، ومع ذلك يُعتبر غير ضار، وبعد انتخاب جوكوي كرئيس في عام 2014، توقع معظم المراقبين أنه لن يبقى في السلطة لفترة تزيد عن عام ونصف على الأكثر، توجهوا إلى حقيقة أن الظروف السياسية في ذلك الوقت لم تكن مواتية له.
لكن بعد ذلك، حدثت مفاجأة للجميع.. ببطء، انحنى الأشخاص الذين كانوا يستهينون به على ركبهم، تلاشى ائتلاف الأحزاب التي شكلها خصومه السياسيون، كان يعتبر في البداية ضعيفاً في عالم السياسة، ولكنه في لحظة مفاجئة أظهر شخصيته الحقيقية.
إقرأ أيضا: إندونيسيا القوة الصاعدة في ظل الرئيس جوكوي.. قراءة في كتاب
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب الرئيس مسيرة كتاب اندونيسيا رئيس عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة عالم السیاسة على الرغم من فی ذلک الوقت فی الحقیقة على السلطة العدید من رجل أعمال فی مجال فی هذا
إقرأ أيضاً:
الرئيس ترامب وحالة الإسهال السياسية
الحديث عن الزعامات في الغرب لا يعني الحديث عن أشخاصهم بقدر ما يعنى الحديث عن المؤسسات التي يديرونها، فالمؤسسات تمثل الحقيقة القومية الثابتة في أغلب الظروف، بينما الرئيس يمثل الصورة الدبلوماسية، ويمكن أن نلخص الفرق بين الحقيقة القومية وبين الصورة الدبلوماسية في الأمور التالية:
أولا: الرؤساء في الغرب ليسوا كرؤسائنا، فهم يُختارون بإرادة شعوبهم ولا يرثون شعوبا، ومن ثم فالشعب هناك هو السيد وهم وكلاء عنه ومسؤولون أمامه في إدارة الحياة فترة محددة، أما بعض رؤسائنا -أطال الله أعمارهم- فهم يملكون البلاد والعباد ويستطيعون تغيير كل شيء، بما في ذلك أسماء المدن والميادين والشوارع والمناخ والفصول الأربعة لتكون بأسمائهم وأسماء أبنائهم وعائلاتهم، بينما أنظمة الحكم في الغرب تقوم على مؤسسات، وموقع الرئيس هناك هو المعبر عن توجه المؤسسة بثوابتها ومصالحها وامتداداتها، والفرق بين رئيس ورئيس هو الفرق في التعبير عن الموقف وليس في تغيير الثوابت القومية.
ثانيا: أسلوب الوريث الجديد في البيت الأبيض لا يختلف كثيرا عما كان يقوم به أسلافه في الولايات المتحدة أو في القارة الأوروبية، فمواقف أبناء العم سام تجاهنا لم تتغير، وإن تغير التعبير عنها.
الاختلاف في التعبير عن الموقف وليس في الموقف ذاته، ولذلك نخلص إلى أن الفروق بينهم ليست إلا كالفرق بين الكوكاكولا والبيبسي كولا، والأمل أو المبالغة في قربهم منا أو بعدهم عنا، أو تغيير المواقف المبدئية للمؤسسات التي يديرونها، إنما هو نوع من الوهم المريح الذي تستطيبه خواطر بعضنا العابرة للقارات نحو أبناء العم سام
فمرة يكون التعبير شديد الأدب، رفيع الذوق، مصحوبا بالتواضع، كما فعل أوباما مع بعض كبار السن من زعمائنا، ومرة يكون التعبير بعيون ناعسة الطرف ومصافحة ناعمة الملمس دافئة الأحضان. وأحيانا يكون التعبير كقذف الحصى، أو كسعال "عجوز مصدور"، أو كسواد ليل الشتاء وبرودته كحالة "جورج بوش " و"جون كيري" ومن قبلهما المأسوف على شبابها الست "كوندوليزا بنت رايس" بطلعتها البهية. فالاختلاف في التعبير عن الموقف وليس في الموقف ذاته، ولذلك نخلص إلى أن الفروق بينهم ليست إلا كالفرق بين الكوكاكولا والبيبسي كولا، والأمل أو المبالغة في قربهم منا أو بعدهم عنا، أو تغيير المواقف المبدئية للمؤسسات التي يديرونها، إنما هو نوع من الوهم المريح الذي تستطيبه خواطر بعضنا العابرة للقارات نحو أبناء العم سام.
ثالثا: أن كلا من الرئيسين السابق واللاحق كان مدهشا، بايدن كان مدهشا إلى حد الصدمة في الغيبوبة، لكن جهات في المؤسسات الصلبة كانت تدير حركته وتمسك بزمام الأمور، بينما الرجل اللاحق ترامب مدهش أيضا إلى حد الصدمة لدرجة أنك تشعر أن الرجل مصاب بإسهال في تصريحاته وتصرفاته وسلوكياته كلها، ليس في منطقتنا وحدها، وإنما مع كل شعوب العالم، والدنيا كلها تسمع وترى باندهاش وتتعجب من مستوى البازار السياسي الذي تجاوز كل الأعراف الدبلوماسية في طرح الرؤية للعلاقات بين الدول، وخلق المشكلات واقتراح الحلول.
النجاح الساحق الذي حققه "دونالد ترامب" ليس إلا اعتذارا وردّ اعتبار لخطيئة الديمقراطية التي جاءت من قبل برجل أشبه ما يكون بثعبان أسرف في الشرب من دماء فريسته؛ ففقد وعيه وضاعت بوصلته واختل توازنه فـ"جو بايدين" وفريقه كانوا شركاء مباشرين في الإبادة الجماعية التي حدثت في غزة، وهم يشكلون مجموع الفاعل بالشراكة في تدمير كل مظاهر الحياة بما فيها البشر والشجر والحجر، بينما خليفته يبحث الآن في تصفية القضية برمتها وتفريغ الأرض من أصحابها. فالغاية بين السابق واللاحق واحدة، والأول قطع نصف المسافة، واللاحق يستكمل السير في ذات الطريق وبنفس الأدوات، والآليات والوسائل هي هي:
فحينا تكون بإطلاق يد الجاني (أو الوكيل المعتمد "نتنياهو) في القتل والتدمير وإمداده بأشد وأكثر أدوات القتل فتكا ودموية وبأسلحة محظورة دوليا، وحينا آخر بالتهجير القسري وتفريغ الأرض من سكانها. وهذا الفعل جريمة في عرف القانون الدولي تسمى "جريمة تطهير عرقي"، وهي في نظر الفلسطينيين إعادة تدوير للنكبة الأولي، بأسماء أخرى، وربما بشراكة واتفاق مع بعض دول الجوار.
رابعا: أن الصورة المنقولة حية في عملية تبادل الأسرى عبر شاشات العالم كله كانت قاهرة ومذلة لغطرسة العدو وقيادته، وكانت محملة بالكثير من الرسائل الكبيرة والعظيمة، وأثارت الكثير من التساؤلات والنقاشات والمقارنات الحرة، وعكست بشكل دقيق حجم الفروق والسنوات الضوئية بين مبادئ وأخلاقيات وشرف رجال المقاومة في عهودهم ووعودهم وتعاملهم مع الأسرى الإسرائيليين، وبعضهم جنود في جيش العدو، والبعض الآخر جاء محتلا لأرض ليست له، ومغتصبا لدار غيره، وسارقا لحدائق وبيّارات لها أصحابها من آلاف السنين. ومع ذلك حظي هؤلاء الأسرى بأرقى أنواع التعامل الإنساني وتمتعوا برعاية وبحماية من نيران جنود جيشهم هم، بينما رأى العالم الصورة في الجانب الآخر نقلتها صورة الأسرى الفلسطينيين الشرفاء وهم يخرجون من سجون العدو؛ بعد معاناة أشبه ما تكون بمعاناة أهل الجحيم ودون مراعاة لأدني حقوق الإنسانية.
هنا ترى الدنيا كلها بما فيها سكان الأرض المحتلة البعد الأخلاقي والفروق الإنسانية حين تظهر في أعلى تجلياتها شرفا في الخصومة، وعدلا في الحكم، ورعاية لآدمية البشر ولو كان عدوا، بصرف النظر عن كل الفروق والاعتبارات في القوة والتفوق التقني.
في مفهوم سمسار العقارات الهارب من إنسانيته أن الأوطان يمكن أن تباع في مزاد علني داخل أسواق الخردة، وأن الزعيم السياسي يمكن أن يستفيد في التعامل مع دول العالم بطريقة البلطجي الفتوة مع بعض صبيانه.
وأحسب أن بعض ما طرح على لسان ترامب من عملية تهجير لسكان غزة رغم ما فيه من خيال جامح -أشبه ما يكون بخيال اللص الظريف في روايات أرسين لوبين- كان بمثابة بالون اختبار مفيدة، صحيح أنها فاضحة حد الوقاحة لكنها تمثل طوق نجاة لنتنياهو من خصومه السياسيين في الداخل وما ينتظره من محاكمات في قضايا فساد.
ثم إنها ستغطي كثيرا من الفشل والإحساس بالهزيمة وفقدان المصداقية أمام ما ظهرت به فصائل المقاومة من تنظيم وبراعة ودقة وقدرة على السيطرة والتحكم، والتحامها بالحاضنة الشعبية لها وظهور رجالها وكأنهم ما دخلوا حربا ولا تعرضوا لحصار على مدى 14 شهرا، ولك أن تتصور حجم الشعور بالفشل والإحساس بالهزيمة، وفقدان المصداقية لكل القيادات في إسرائيل وفي مقدمتهم نتنياهو أمام شعبهم وشعوب العالم كله.
لله ثم للتاريخ
بعيدا عن سيطرة فكرة المؤامرة على العقل العربي، والتي تشكل هاجسا ودافعا لتأويل كل حدث، نؤكد أنه لا مؤامرة، لأن المؤامرة لا تكون إلا في خفاء، والخفاء منطقة ضبابية يسود فيها الشك، بينما ما يحدث في غزة إنما هو في الحقيقة والواقع عدوان سافر يحدث في العلن، وكما يقولون في المثل العربي "على عينك يا تاجر"، وهو مثل يضرب للممارسات الفاجرة التي يمارسها أصحابها بوقاحة وفي غير خجل أو تستر، ودون اعتبار لنظر الآخرين.
القنوات الفضائية الإسرائيلية ذاتها تدعي وعلى لسان بعض المسؤولين في الموساد أن البيانات التي صدرت بخصوص تهجير أهل غزة والشعارات المزيفة وتظاهرات بعض الأفراد المدبرة عند دول الجوار؛ ليست إلا لقطة ساذجة ورسالة خداع مفهومة ومتفق عليها، وأنها تمت بالاتفاق معهم. هكذا يدعي إعلام العدو.
الغريب أن هذا الادعاء يقابل بحالة من الصمت، ولم يصدر بيان واحد من جهة مسؤولة يكذبه. حالة السكون هذه ليست ثباتا لمبادئ أو إصرارا على موقف، وإنما هي حالة جمود تشبه الإغماء أو الغيبوبة لشخص فقد الذاكرة.
على الضفة الأخرى لا بد أن نتذكر أن هناك من ينتظر هزيمة غزة برجالها ومقاومتها ليعلن حالة الوفاة ويطالب بميراثه من أمة مقسمة ومنهوبة ومحروبة؛ نهبها العم سام وأبناؤه واقتسموا خيراتها وثرواتها ولعبوا بها.
الوريث الجديد القادم منذ أيام قليلة "ترامب" لا يرى في أمتنا شعوبا تستحق أن تحترم، ولا يرى فيها أنظمة يُحسب لها حساب، وإنما ينظر إليها على أنها عجوز أصابها الكبر ولها ذرية ضعفاء لا يملكون غير المال ولا يحسنون التصرف فيه، ولذلك يجب أن يكونوا دائما تحت الوصاية، ويمكنه أن ينتقل من مرحلة اللعب بهم إلى مرحلة اللعب فيهم.
الأدوات المستخدمة من جهة الكبار في اللعب معنا أو اللعب بنا أو حتى اللعب فينا والتي ساعدت العدو على تحقيق أغلب وأهم أهدافه؛ فهي كثيرة ومتنوعة وجاهزة لأداء المطلوب والقيام بما يلزم
أما الأدوات المستخدمة من جهة الكبار في اللعب معنا أو اللعب بنا أو حتى اللعب فينا والتي ساعدت العدو على تحقيق أغلب وأهم أهدافه؛ فهي كثيرة ومتنوعة وجاهزة لأداء المطلوب والقيام بما يلزم.
بعض هذه الأدوات خارجية تملكها الدول الكبرى وهي تحت يدها وفي قبضتها، ويمثلها معاهد أبحاث تُعنى بالدراسات الاستشراقية والسياسية الاستراتيجية الخاصة بالشرق الأوسط، وهي معاهد تابعة لمراكز القرار وممولة من الجهات السيادية. أدوات أخرى داخلية تشتريها الدول الكبرى من داخل بلادنا وعمق أراضينا، ولديها جرائد ومجلات وقنوات فضائية يملكها الكبار أو يستأجرونها.
أما العاملون في تلك الأدوات الداخلية فهم من المؤلفة جيوبهم، ويشكلون كتائب ثقافية تتكون من صحفيين وروائيين وفنانين وممثلين ومطربين وشعراء وأدباء، وجميعهم يمثلون الذراع الثقافي الذي يمهد الأرض لمشروعات الكبار ويُخدِّم على توجهاتهم.
مرحلة" اللعب فينا" مشروع ضخم يقوم الكبار على رعايته ويعملون بدأب ونفس طويل لخلق وإيجاد فرص التفتيت للمكون الأساسي والمركزي الجامع للأمة وهو "الإسلام". مرحلة اللعب فينا هي أخطر المراحل وأشدها فتكا بما تبقي للأمة من قدرات ومقدرات، وعناصر للمقاومة، والرجولة، والرفض.
القراءة الخاطئة للمشهد الآن من المستويات السياسية في مراكز القرار العربي إن سمحت للوريث الجديد في البيت الأبيض أن يلعب فينا ستفضي حتما إلى كوارث على مجموع الأمة أوطانا ومواطنين وليست كارثة واحدة، لأنها باستخفافها أو باستجابتها لمطالب السيد ترامب تمارس عملية انتحار ذاتي حين تقدم لعدوها الرصاصة الأخيرة ليطلقها على ما تبقى في الأمة من رجولة وعزة وكرامة..