ماكس فيبر في الخرطوم: الديمقراطية أم الدولة؟ (2-2)
تاريخ النشر: 13th, February 2024 GMT
عبد الله علي إبراهيم
جاءت مينا العريبي رئيسة تحرير مجلة "الناشيونال" بأبوظبي، في لقاء أخير لها مع فريد زكريا بالـ"سي أن أن" بفكرة عن السياسة الأميركية في المنطقة العربية نافعة في تحليل الحرب المشتعلة في السودان. فذكرت مواجهات أميركا الراهنة مع الجماعات المسلحة من غير الدولة (الحوثيين، الحشد الشعبي العراقي، حزب الله) لتقول إن على أميركا أن تقدم في سياساتها الخارجية وجود الدولة-الأمة نفسها على ما سواه.
فليس واضحاً في السياسة الأميركية أنها جعلت من الدولة مركز دائرة سياساتها الخارجية. فبقول الرئيس بايدن إن "السياسة العالمية نزاع بين الديمقراطية الليبرالية والطغيان" وضعت أميركا الديمقراطية في ذلك المركز نجحت في المسعى أم لم تنجح. فاكتفت في التعامل مع هذه الكيانات المسلحة من غير الدولة بالجزرة والعصا. فتسمي الجماعة إرهابية وتفرض مقاطعتها ثم تترك العصا إلى الجزرة في توقيتها المناسب. فكانت فرضت المقاطعة على الحوثيين ثم رجعت عن ذلك في يناير 2017 على عشم استصحابهم في جهود السلام في اليمن
وهنا قد يسعفنا ماكس فيبر، عالم الاجتماع الألماني (ت1920) في النظر إلى النزاع السوداني الذي لم يعد عن الانتقال الديمقراطي في سياسة أمريكا حيالناـ فأكثرنا تفاؤلاً يرى في الحرب القائمة خراب الدولة السودانية.
كان فيبر عرف الدولة الحديثة بأنها "مجتمع إنساني يزعم احتكار الاستعمال الشرعي للقوة الفيزيائية (البدنية) في مجتمع معين". والجيش في مثل هذه الدولة من يقع عليه إدارة هذا العنف المشروع. فحجة الجيش السوداني بشرعيته في الدولة من دون "الدعم السريع" قاطعة حتى لو زعم "الدعم السريع" الشرعية بقانون صادر من نفس الدولة. فترخيص الدولة لـ"الدعم السريع" لاستخدام العنف الفيزيائي بقانون خلال حرب دارفور وغيرها مما يقع في اختصاصها أيضاً. فاستخدام هذا العنف بيد جماعة مثل "الدعم السريع" لا يكون إلا بإذن الدولة. فالدولة، في قول فيبر، هي منبع الحق لاستخدام العنف. وعليه فهي تختلف عن العصابات ووكالات الحماية المختلفة في أمرين: احتكار العنف، من جهة، والحق في تكليف من تراه مثل "الدعم السريع" لاستخدام العنف نيابة عنها. وبهذا يفسد القول الرائج بأن الدعم السريع صنو للجيش لخروجه من رحمه في العبارة الذائعة.
فمطلب الديمقراطية في الدولة هنا يتأخر عن مطلب وجود الدولة نفسها بحسب فيبر. فبتعريف الدولة كمحتكرة للاستعمال الشرعي للقوة على الأبدان أنهى فيبر تقليد من سبقوه لدراسة الدولة ناظرين إلى غاياتها الأخلاقية. فعالم الاجتماع الإنساني مثله، في قوله، معني بحقائق هذا الاجتماع وحقيقة الدولة في احتكارها للسلاح فيه. فليس من شغله أن يقرر أخلاقية هذا التوظيف لشوكة الدولة. فالدولة عنده لا تعرف بغاياتها أي مشروعاتها، بل بالوسائل التي تختص بها من دون سواها، وتتوسل بها للاستخدام القانوني للقوة. والديمقراطية، مهما سبحنا بحمدها، قيمة أخلاقية قد تنعقد الدولة من دونها. فتراود الناس في الدولة، متى وجدت، مشروعات شتى ليست الديمقراطية، أفضل أسوأ النظم، سوى واحد منه. فهناك الدولة الديكتاتورية والشعبوية والشعبية والاشتراكية إلخ، بل والديمقراطية نفسها في الدولة طيف واسع: الليبرالية واللاليبرالية والديمقراطية الاجتماعية والرئاسية والبرلمانية. فالدولة تعريفاً هي الحق في استعمال العنف، فاحتكار العنف قرين بمطلب الناس للنظام. فإذا تعذرت للدولة الشوكة، أو شاركت فيها مثل "الدعم السريع" مناصفة، "تبخر مفهوم الدولة وحلت الفوضى".
لم يعد الانتقال الديمقراطي من حقائق الحرب السودانية في يومنا. وليس وارداً تأمينه بالعودة إلى خطة الإصلاح الأمني والعسكري التي نفذت الحرب من فوهة الخلاف حولها بين الجيش و"الدعم السريع". فـ"الدعم السريع" نفسه يذيع الآن من فوق كسبه في الميدان العسكري أنه يريد جيشاً جديداً يأخذ بالتنوع الإثني والمناطقي في الاعتبار. وهذا نقد شائع عن الجيش للظن بغلبة شمالي النيل والوسط في صفوة ضباطه. ومطلب الجيش إعادة اختراع الجيش بخلاف ما اتفق عليه الدعم السريع بالاتفاق الإطاري في ديسمبر (كانون الأول) 2022 الذي قضى بدمجه في الجيش طال الزمن أم قصر. وهذه الدعوة ليست بعيدة عن دعوة بريمر في العراق في حل جيش البعث وبنائه من أول وجديد. ومتى علمنا أن "الدعم السريع" وجماعات من قوى الحرية والتغيير تطلق على الجيش مسمى "جيش الكيزان"، أي جيش نظام الإنقاذ المباد، اكتمل تطابق ما حل بجيش العراق بما يبيت لجيش السودان.
إن حقيقة الحرب التي تشفق السودانيين والمراقبين للشأن السوداني هي تبخر الدولة وحلول الفوضى. وهي نذر بوسع أميركا تداركها متى انتقلت من مسعى بسط الديمقراطية إلى مسعى يتشبث بوجود الدولة في تعريف فيبر لها وهو احتكارها للعنف الفيزيائي المشروع الذي تفوض إدارته لجيشها. والديمقراطية "ملحوقة" كما نقول. وتحتاج أميركا في هذا التدارك إلى نصح هوارد فرنش، الأكاديمي والصحافي بـ"فورين بوليسي"، بأن توطن نفسها في السياسة الأفريقية التي تتناسل أزماتها من تاريخ قل من أصغي له. ويعني، في قول آخر، أن تشتبك مع العالم كما هو لا كما ينبغي أن يكون.
IbrahimA@missouri.edu
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الدعم السریع فی الدولة
إقرأ أيضاً:
في الذكرى الثانية للحرب.. إلى أين يتجه المشهد السوداني؟
الخرطوم- بعد عامين من القتال المدمّر في السودان يضطرب المشهد بشقيه العسكري والسياسي أمام تقلبات شبه يومية تعلو خلالها أصوات المدافع والرصاص ليكون العنوان الأبرز دائما؛ "إنها الحرب.. ننتصر أو نموت" فلا مجال للحديث عن تفاوض ولا هدنة إنسانية.
وبحلول النصف الثاني من العام 2024، تبدّلت موازين القوى بنحو لافت عندما سيطر الجيش السوداني وحلفاؤه على غالبية المواقع التي كانت تحتلها قوات الدعم السريع منذ بدء الحرب في منتصف أبريل/نيسان 2023، فتراجعت سطوتها وفقدت الكثير من قوتها الصلبة في الخرطوم وولايات سنار والجزيرة التي استعادها الجيش تباعا.
ويرشح خبراء عسكريون بموجب هذه التطورات أن يكون المشهد في السودان خلال عام الحرب الثالث حافلا بتصعيد ميداني واسع النطاق، ولا سيما مع إعلان قادة الجيش التحضير للهجوم على ولايات دارفور وكردفان.
ويؤكد رئيس حركة تحرير السودان مصطفى تمبور، الذي تقاتل قواته إلى جانب الجيش للجزيرة نت، تبدل موازين القوى لصالح القوات المسلحة التي قال إنها انتهجت سياسة حربية دقيقة جدا؛ أولها الدفاع ثم الهجوم الكاسح الشامل الذي جعل "المليشيا" (يقصد الدعم السريع) تتراجع وتهزم في قلب الخرطوم وسنجة والجزيرة وشمال كردفان والفاشر.
إعلانويضيف "الآن الموقف العملياتي على الأرض يشهد تقدما ملحوظا للجيش الوطني وهزائم متتالية للمليشيا وقريبا ستعود كامل الأراضي السودانية إلى حضن الوطن".
ويمضي عضو لجنة إسناد قوات درع السودان المسندة للجيش يوسف عمارة أبو سن، في التأكيد على أن المشهد العسكري يتّجه نحو مزيد من كسب الأرض لصالح الجيش السوداني، بينما تضيق الحلقة على الدعم السريع.
ويؤكد للجزيرة نت، أنه بعد حسم العمليات العسكرية في العاصمة ستتجه كافة القوات صوب الفاشر وتتخذ منها نقطة لتحرير بقية إقليم دارفور، لافتا إلى أن التصدع الداخلي الذي تشهده الدعم السريع على مستوى القادة والحواضن المزودة لها بالمقاتلين يمثل عاملا إضافيا لصالح الجيش.
ويضيف أبو سن قائلا "سيشهد العام الثالث عمليات أمنية وذلك بعد تحرير عواصم إقليم دارفور، بعدها ستتجه الدولة لحسم جيوب التفلتات والبؤر الإجرامية، كما أن خيار المصالحة الاجتماعية سيكون واردا بقوة لقطع الطريق أمام المليشيا ومنعها من استخدام التعبئة القبلية والقتال الصفري".
ولا يستبعد المتحدث نفسه تنفيذ هجوم بري على الولاية الشمالية، وتزايدا في هجمات المسيرات التي تطلقها الدعم السريع لضرب البنية التحتية في شمال السودان، لكن الهجوم البري كما يقول "لن يكون ناجحا ولا مجديا".
ويرى أبو سن أن حواضن الدعم السريع والمجتمعات الداعمة لها في دارفور ودول الجوار لن تكون بعد الآن مستعدة لمدّها بمزيد من المقاتلين وزجّهم في محرقة لا أمل في حسمها لصالح هذه القوات، وفق تعبيره.
لا تفاوض
ومن وجهة نظر المستشار السياسي لرئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي حاتم السر، فإن المشهد العسكري بات أكثر وضوحا على ضوء انتصارات الجيش الأخيرة، الذي قال إنه حسم المعركة لصالحه فعليا، ولا يرجح، في حديثه للجزيرة نت، حدوث أي تصعيد أو توسع في الحرب وهذا يشير إلى أنها اقتربت من نهاياتها.
إعلانويضيف "هناك إصرار شعبي يدعو لإنهاء هذه الحرب بشيء واحد، وهو النصر الكامل وسحق المليشيا والقضاء عليها".
ويلفت السر إلى أن الوقائع والمؤشرات على الأرض تشير كذلك إلى أن الجيش لن يدخل في عملية تفاوضية مع الدعم السريع إلا بعد الوصول إلى هدفه الإستراتيجي، المتمثل في تصفية القوة الصلبة للدعم السريع بالكامل، ومن ثم حصر التفاوض في نقطة واحدة وهي بحث تقرير مصير بقايا القوة، خاصة أن انتصارات الجيش منحته الأفضلية في فرض شروطه خلال أي عملية تفاوضية حول ما يجب أن يكون عليه مستقبل الدعم السريع.
ويرى حاتم السر أن أهم المتغيرات والتحولات التي أحدثتها الحرب في المشهد السياسي أنها جعلت من الجيش رقما لا يمكن تجاوزه في العملية السياسية وبصفة خاصة خلال الفترة الانتقالية. وبالتالي، أصبحت المطالبة بخروج المؤسسة العسكرية من المشهد السياسي وعودة الجيش بالكامل للثكنات أمرا غير وارد قبل إجراء الانتخابات بالبلاد واختيار حكومة منتخبة من الشعب.
ويعتقد المستشار أن المشهد السياسي سيغادر في مقبل الأيام محطة الجمود بالدخول في حوار سوداني-سوداني حقيقي، ونجاح الخطوة رهين كما يقول بأخذ القوى المدنية والسياسية زمام المبادرة لاستعادة دورها المفقود عبر الدخول في الحوار الشامل الذي لا يقصي جهة أو طرفا.
ويبرز التحدي، باعتقاد السر، في كيفية فتح مسار يقبل بأن تكون القوى السياسية التي أيدت المليشيا في حربها جزءا من المعادلة الجديدة ضمانا لنجاح واستقرار الانتقال استعدادا للدخول في الاستحقاق الانتخابي.
سيناريوهات
ويعتقد الخبير في الشؤون العسكرية جمال الشهيد، أنه رغم ضخامة التحديات، فإن الجيش السوداني سجل تقدما ملحوظا في العديد من الجبهات، باستعادة مدنٍ حيوية في ولايات الخرطوم والجزيرة، كما تمكن من تحجيم "المليشيا" في النيل الأبيض، ونهر النيل وشرق البلاد.
إعلانويشير في حديثه للجزيرة نت، إلى أنه بدا واضحا أن كفّة التفوق تميل ببطء وثبات لصالح الجيش إلا أن قوات الدعم السريع لا تزال تحتفظ بموطئ قدم واسع في دارفور، ما يجعل الحرب أبعد من أن تكون شارفت على نهايتها.
ويضيف الشهيد "رغم التفوّق العسكري الكبير، إلا أن مؤشرات الحسم لا تزال بعيدة، فالمليشيا تتلقى دعما خارجيا، وتراهن على إطالة أمد الحرب، لتبقى السيناريوهات مفتوحة بين تصعيد كارثي، أو تدخل دولي متأخر، أو حسم وطني يُنهي التمرد".
واقع جديدويقول الصحفي والمحلل السياسي علاء الدين بشير للجزيرة نت، إنه بعد عامين من الحرب المدمرة فإن ميزان القوى العسكري والسياسي بدا يميل لصالح الجيش السوداني خاصة بعد استعادته للعاصمة الخرطوم والقصر الرئاسي برمزيته السياسية والتاريخية. كما حصد سندا شعبيا نتيجة الشعور الغالب بأن الصراع، صراع وجود ومصير.
ويستدرك بالقول إن هذا السند الشعبي لن يكون "شيكا على بياض" فمع عودة الحياة للاستقرار النسبي سيبدأ الناس بطرح السؤال الأساسي لماذا صنع الجيش مليشيا موازية له وعجز عن السيطرة عليها؟، ولماذا فشل الجيش في حمايتهم رغم اقتطاعه لسنوات طويلة النصيب الأكبر من ميزانية البلاد على حساب بنود صرف أخرى أساسية؟
وستقود محاولات الإجابة عن هذه الأسئلة، وفقا للمحلل، لتفاعلات سياسية واجتماعية كبيرة ستمتد إلى داخل المؤسسة العسكرية وربما قادت إلى الإطاحة بقيادتها الحالية وإعادة تشكيلها على أسس جديدة.
بالمقابل، يتحدث علاء الدين عن تراجع قوات الدعم السريع، ومع ذلك لا تزال تقاتل بشراسة في أجزاء واسعة من البلاد وبالأخص في شمال دارفور كما مكنتها المسيرات الحديثة من امتلاك ذراع طويلة شكلت تهديدا قويا وجديا للمرافق الإستراتيجية والمقار العسكرية في أكثر الأجزاء أمانا من البلاد، الأمر الذي قد يعيد رسم وتشكيل توازنات القوى ويفرز واقعا جديدا في الحرب.
إعلانويرى المحلل أن حالة الإنهاك العام ستنعكس على القوى السياسية وتزيدها ضعفا على ضعفها السابق. ويردف: "إذا كانت ظروف الشدة والحرب لم توحدها وتحفزها على العمل المشترك لإيقاف القتال فالمتوقع أن تزداد خلافاتها وصراعاتها خلال الفترة القادمة مع بروز تشكيلات شبابية جديدة وفاعلة هي امتداد لتشكيلات ثورة ديسمبر/كانون الأول 2019".