إنّ تعذيب النفوس يمكن أن يكون أكثر قسوة من تعذيب الأجساد، فلقد ابتكر أساتذةُ التعذيب الإسرائيليون الكثيرَمن الوسائل لقهر الأسرى، وكسر قلوبهم، وتدمير معنوياتهم.

هذا ما توضّحه الرواية التي كتبها الأسير المحرّر وليد الهودلي بعد تجربة في السجون الإسرائيلية استمرّت 14 عامًا، حيث تمّ اعتقاله عام 1979 لمدة سنة لاتّهامه بتشكيل مجموعة فدائية لمقاومة الاحتلال؛ ثم تمّت إعادة اعتقاله عام 1988، وحُكم عليه بالسجن لمدة 15 عامًا.

كما اعتقل جيش الاحتلال الإسرائيلي زوجته وابنته عام 2006، وظلت زوجته في السجن مدة 3 سنوات، وقد كتب هذه الرواية عام 2003 في سجنَي عسقلان، وهدريم، وتمكّن الأسرى من تهريبها إلى الخارج.

وهذه الرواية تفتح مجالات جديدة لتصوير مشاعر الأسير الإنسانية، وتوضح أن صمود الأسير في غرف التحقيق،وإصراره على عدم الكشف عن أسرار المقاومة؛ لا يقل أهمية عن الصمود في ميادين القتال، كما تقدم شهادة واقعية توضح قسوة المحققين وساديتهم وجرائمهم العنصرية.

لذلك فإن تشجيع الأسرى الفلسطينيين على كتابة قصصهم،وسيلة مهمة للمقاومة، وبناء وعي الأمة بطبيعة العدوّ، وبداية مرحلة جديدة للكفاح ضد التعذيب البدني والنفسي؛ باعتباره جريمة ضد الإنسانية والحضارة.

ظاهرة العصافير دفعت الأسرى إلى التزام الصمت الطويل، في الوقت الذي يحتاج فيه الإنسان إلى الصداقة والودّوالحديث مع الآخرين، فأصبحت هذه الظاهرة وسيلة لتعذيب الأسرى، خاصة في الفترة التي تسبق المحاكمات

اقتحام الدائرة المحرمة

تبدأ الرواية باعتقال عامر وإبراهيم ونبيل بعد عملية فدائية بطولية قاموا فيها بإطلاق الرصاص على سيارة جنودإسرائيليين؛ فتدحرجت سيارتهم في الوادي.

وفي غرف التحقيق الذي استمرّ 90 يومًا، استخدم المحققون الإسرائيليون الكثير من وسائل العنف النفسيّ، من أهمها الإرهاق، حتى يصل الأسير إلى عدم التركيز والضعف النفسي؛ بهدف اقتحام الدائرة المحرمة التي تحوي أسراره ومشاعره.

وعندما يصل الأسير إلى أضعف حالاته، ينزلق اللسان بأول كلمة؛ عندئذ تنفرط المِسبحة، وتكتمل عندهم القصة.. وهذا ما تعرض له الأسير عامر صاحب الخبرة الطويلة في مواجهة العنف الجسدي؛ حيث تعرض لكل أنواع التعذيب خلال فترة اعتقاله الأولى التي دامت خمس سنوات، فقام بتدريب الفدائيين على كيفية مواجهة أساليب المحققين الإسرائيليين؛ لكن تلك الخبرة لم تكن كافية لمواجهة الأساليب الجديدة للتعذيب النفسي.

كما أن الظروف قد تغيرت بعد أن قامت السلطة الفلسطينية بعد أوسلو بالتنسيق الأمني مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، وقيام هذه السلطة بتوفير الكثير من المعلومات عن الفدائيين لإسرائيل، مما ساعد المحققين الإسرائيليينعلى خداع الأسرى، بأنهم يعرفون كل شيء عنهم.

ظاهرة العصافير

كما تزايد استخدام الاحتلال الإسرائيلي ظاهرةَ العصافير؛ التي أصبحت تثير الخوف بين الأسرى، عن طريق وضع الجواسيس داخل السجون الذين يدّعون أنهم ينتمون للمقاومة، وينقلون الأسرار للمحققين، وأدى ذلك إلى عدم الثقة بين الأسرى، وزيادة عذابهم النفسي.

من الواضح أن هذه الظاهرة صدّرتها إسرائيل للسلطات الدكتاتورية في العالم العربي؛ ولم تقتصر فقط على السجون؛ بل انتشرت خارجها؛ مما أدى إلى الكشف عن أسرار الحركات الإسلامية، وتلفيق القضايا، خاصة بعد أن اعتمدت المحاكم على المذكرات السرية، وعدم الكشف عن مصادر المعلومات، واستخدام هذه المعلومات لإصدار أحكام عالية على المتهمين.

ظاهرة العصافير دفعت الأسرى إلى التزام الصمت الطويل، في الوقت الذي يحتاج فيه الإنسان إلى الصداقة والودّوالحديث مع الآخرين، فأصبحت هذه الظاهرة وسيلة لتعذيب الأسرى، خاصة في الفترة التي تسبق المحاكمات.

الإيمان في مواجهة التعذيب النفسي

لكن الأسير عامر يقدم لنا أهم وسائل مواجهة التعذيب النفسي؛ حيث أطلق لقلبه العنان في عالم " حسبنا الله ونعم الوكيل "، فرفع بإيمانه وتيرة التحدي، وهيأ نفسه للمعركة مع المحققين؛ فكانت مشاعر الإيمان الصادقة تتعاظم في صدره، وتفتح عليه عالمًا فسيحًا من المشاعر الرفيعة، حيث تتعانق خلجات القلب مع معية الله الحافظة.

استمرّ التحقيق مع عامر لفترة الطويلة، تعمد فيها المحققون إرهاق ذهنه بالأسئلة والتهديد والحرمان من النوم، فأصبح في ضنك وكرب شديدَين، وفي برزخ بين النوم واليقظة.

أصبح رأسه ثقيلًا، والأرض تميد من تحته، والأشياء تدور، لكنه كان يسْترق سِنة سريعة من النوم، فيشعر بعدها براحة عجيبة، ومع ذلك لم يكن المحققون يسمحون له بذلك، كانوا يمارسون حربًا نفسية ناعمة ضده.

أنوار تشرق في القلب

واجه عامر حربهم النفسية بفكرة رائعة: سأغرق قلبي وروحي بذكر الله .. لا إله إلا الله .. ما في القلب إلا الله .. حسبنا الله ونعم الوكيل، وعندما أصبح عامر ينهل من معاني ذكر الله، كانت الأنوار تشرق في قلبه، وتبدد جحافل كلماتهم الجوفاء.. كان عامر يشعر أن الله قريب منه بحفظه ولطفه ورحمته، فالله لا يترك أولياءه، يذكرهم كما يذكرونه؛ فيسبغ عليهم طمأنينة تلامس شغاف قلوبهم.

انشرح صدر عامر بحلاوة النصر القريب على هؤلاء المجرمين الذين يتفننون بكل ما أوتوا من مكر وخداع.. وكانت تجربة عامر في مواجهة التعذيب النفسي ملهمة لكل الأحرار، فهو يقدّم لهم الحل، ويثير خيالهم؛ فيقول لهم: إنّ الإنسان يحتاج إلى أن يلجأ لله.. كن مع الله ترَ الله معك، واستمر عامر في ذكر الله بلسانه وقلبه.

تذكر عامر سيدنا بلال، والكفار يعذبونه في بطحاء مكة، وهو يردد: أحد أحد؛ فأصبح لا يرى في محيطه الداخلي والخارجي، إلا الأحد بلطفه وفضله وحفظه، ويرى الجانب الآخر من هذا الضنك جانب لطف المولى الذي لا ينفك أبدًا عن القدر.. المنحة التي تصاحب المحنة.. منحة هذه النفحات الإيمانية التي أصبحت تلامس قلبه، وتملأ عليه جنبات وجدانه.

وحار المحققون في تفسير كلمة أحد أحد التي يرددها عامر بشكل مستمر، فتزيده صمودًا، فلا يجيب عن أسئلتهم.. أما هو فأصبح يشعر بأنه روح بلا جسد .. ها هو الآن يعرف معاني الإيمان .. يتذوّقها بكل مشاعره، ويشم أريجها ويسعد بطمأنينتها.

أفاق عامر من تسبيحاته التي أخذته بعيدًا، وقد أحاط به المحققون، إحاطة أفعى سامّة بفريستها، أخذوا يتناوشونهمن كل جانب كمجموعة ذئاب أنشبت أنيابها في حمل وديع، خلعوا أقنعتهم المزيفة، وراحت ألسنتهم تغرف من أعماقهم الحاقدة.

الإيمان وصراع الإرادات

يقول عامر: إنّ أسلحة الأسير أو سيوفه في هذه المعركة إرادة قوية تضرب جذورها في تربة إيمانه الخصبة، وخبرة نيرة تقدح في عقله، وتقف بالمرصاد لكل حيلهم الماكرة .. لذلك كان يرى عامر وجوه المحققين الذين هالهم صموده، فظهر الحقد في هذه الوجوه، وكأنهم زعماء بني قُريظة، والنضير،وقينقاع، عندما كانوا يجتمعون للتآمر على الدعوة الإسلامية.

فسّر المحقق شلومو صمود عامر بأنه رجل يحمل فكرًا وإيمانًا .. لذلك ستكون هزيمتنا ساحقة، عندما يكثر أمثاله من الذين يناضلون بهذا الإيمان الراسخ، ولن تفلح معه كل الإغراءات والوعود التي نقدمها له؛ فهو يعرف اليهود، ويدرك أن مواثيقنا سرعان ما ننقضها قبل أن يجفّ حبرها.

أما عامر فقد استعد للجولات القادمة التي تصمد فيها إرادات الرجال بذكر الله الذي يشحذ الإيمان .. إنه الذكر الذي يؤكد معية الله بكل ما تحمل من عون وقوة وهداية ورشد واعتصام بحبل الله المتين.. فإياك أن تغفل عن التقوية الدائمة للإرادة؛ لأن الصراع صراع إرادات وصراع أدمغة.

وإن ما يقوي الإرادة هو التفاعل القوي مع العناية الإلهية، فإذا كان الله غايتنا، فإن الذكر هو الذي يلهب القلب مع هذه الغاية قربًا ومصاحبة وحبًا، إنه تواصل مستمر بين قوتنا المحدودة وقوة الله المطلقة .. بين المعاني والمشاعر التي تجعل الإرادة كالطود العظيم، تصارع إرادتهم بكل ضمير وجلد وتوكل وصمود.

العودة للعنف والتعذيب البدني

اكتشف المحققون أن التعذيب النفسي لم يمكنهم من كسر إرادة الأسير المؤمن، فنقلوه إلى سجن عسقلان، حيث تم استخدام كل أساليب التعذيب البدني الذي جعل عامر يشعر بأنه كتلة من الألم بعد الضرب المتواصل .. وكلما اشتد الألم في جسده، كان عامر يلجأ إلى الله بشكل أشد، ويردّد مقولة بلال الخالدة: أحد أحد.

هددوه بالقتل، فقال عامر: الأغبياء يتصوروننا نحسب للموت حسابًا مثلهم .. كم أنا مشتاق للقاء الله، وبات ينتظر اللحاق بالشهداء على أحرّ من الجمر.

بعد تسعين يومًا من التعذيب النفسي والجسدي شعر المحققون باليأس، وانتصرت إرادة الأسير المؤمن، فتم تحويله للسجن، لتظل تجربته تضيء للأحرار طريق الصمود في مواجهة القوة الغاشمة، فانتصار الأسير يعني أن المقاومة ستنتصر وتحرر فلسطين، وسيخرج الأسرى ليقودوا كفاح شعبهم .. إنها الحقيقة التي توضّحها رواية الأديب الفلسطيني الأسير وليد الهودلي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: فی مواجهة

إقرأ أيضاً:

سوريا .. سجن فرع فلسطين بدمشق ومتاهات التعذيب

سرايا - إلى الجنوب من العاصمة دمشق، عند النهاية التي تؤدّي لمدينة جرمانا أو طريق المطار، يجثم بناء ضخم من 7 طوابق يُسمى "فرع الأمن العسكري 235" أو كما يُعرف في الموروث السوري "فرع فلسطين" يجاوره فرعٌ أمنيٌّ آخر صغيرٌ يُسمى "فرع الدوريات 216".

وتأسّس هذا المقر الأمني منتصف الستينيات تقريبا، وتنقّل بين مواقع عدّة قبل استقراره في موقعه الحالي -كما تقول الروايات- مع بدء الثورة السوريّة عام 2011.

وتتكوّن هيكلية الأمن في سوريا كالتالي: مكتبٌ تابع لقسمٍ أحد أفرع الأمن، والذي يتبع بدوره لجهاز الأمن. والمُثبت أن فرع الأمن العسكري كان عام 1976 في مقر الأركان العسكرية، وشيّد مبنىً جديد له عام 1986.

وحسب البحث، كان الفرع أو أحد مكاتبه بمنطقة المربّع الأمني خلال الثمانينيات، والمؤكّد أن "مكتب ضابطة الفدائيين" التابع لفرع فلسطين كان يوجد في "فرع الخطيب" التابع لجهاز أمن الدولة خلال الفترة نفسها.

وتعدّ فترة الثمانينيات بداية صعود الفرع بعد أن ترأسّه ضابط قويّ زاد من سطوته وتوسّع في مهامه، وكان الغرض منه متابعة شؤون الجماعات الفلسطينية وجيش التحرير الفلسطيني، والشأن الفلسطيني سياسيًّا وأمنيًّا وعسكريًّا.

وعُرف عن هذا الفرع التوحّش في أساليب التعذيب بداخله، وبالشروط غير الآدمية لاحتجاز المعتقلين به، كما قيل الكثير عن الاستعانة به للتحقيق مع "معتقلين جهاديين" كانوا قد زُجوا به بعد توقيفهم لدى الأميركيين، ليكون اسمه مرادفًا للرعب.

وركّز الفرع خلال بدايات الثورة السورية على سكان القطّاع الجنوبي من مدينة دمشق، بالذات الأحياء الثائرة مثل الميدان والقدم ودفّ الشوك ومخيم اليرموك بطبيعة الحال.

المكاتب الإدارية
يتألف البناء من جناحين يصلهما ممّرٌ في كلّ طابق، جناحٌ كبير يضم مكاتب على طرفي الممر، والثاني أقلّ حجمًا وتنتشر مكاتبه على طرفٍ واحد من الممر. ويحتوي الطابق بين 23 و27 غرفة، بحسب مساحات المكاتب.

وهناك أقسامٌ للديوان والقلم، كأيّة مؤسسةٍ حكومية، وبعض مكاتب المحقّقين والضبّاط التي تزداد حجمًا ويبدو أثاثها أعلى جودةً كلّما صعدنا طابقًا لأعلى. وأغلب المكاتب الكبيرة تمتلك بابين، وتحتوي حمّامًا خاصًّا، وقسمًا وراء ستارة يٌخصّص للمبيت على ما يبدو بسريرٍ وخزانة للثياب.

وقد حدث تخريبٌ كبير للطابقين الأول والثاني خاصة، حيث أُحرقت كثيرٌ من الملفات، ويُرجّح أن الحريق التهمها صبيحة مغادرة الأسد البلاد. وإحدى الغرف كانت لا تزال بحرارةٍ عالية مقارنة بغيرها بسبب رماد الحريق، وهناك بعض الآثار لمادة غباريةٍ بيضاء برائحة كريهة ربما استُخدمت لإذكاء النار.

ووجت جميع الأدراج مفتوحة وقد احترق محتواها، ويُرجّح أن الحريق افتُعل من المخبرين الذين قدّموا كثيرًا من التقارير الأمنيّة عن المواطنين أثناء عمليات السرقة التي سبقت وصول قوّات "ردع العدوان" إلى العاصمة.

وفي الطوابق العليا، لا تزال الملفات موجودةً وبكمّيات ضخمة، لكنّها تقتصر بمعظمها على بيانات المعتقلين وأسمائهم، أو سجّل المذكرات الأمنية، وبعض المراسلات الخارجية والداخلية.

زنازين النساء
في الطابق الأرضي يوجد 3 غرف على الأقل يتضح أنّها خُصّصت لاحتجاز النساء، ضيّقة لكنها أحسن حالًا من المنفردات والجماعيّات في القبو، وتُركت البطانيّات وبعض الثياب فيها.

واستُعلمت الممرات في هذا الطابق وغيره كمكان للتحقيق وتعذيب الموقوفين، مما يضفي عاملًا ترهيبيًّا للمحتجزات بحضور صرخات من كانوا في جوارهن. ويحتاط العناصر والمحققون إجمالًا في تسجيل أرقام المعتقلين بدل أسمائهم خشية تسريبها في حال خروج معتقلة أو معتقل تناهى له اسم غيره من المعتقلين، وذلك جزء من مسار التغييب القسري حيث يترك ذوو المعتقلين بدون دلالةٍ عن مكان وجودهم.

الروتين
يقضي المعتقل يومه الأول في "التشميسة" ريثما يتم فرزه إلى مهجعٍ جماعيّ أو منفردة، ويمتلك الفرع في قبوه مساحتين للتشميس، وهي فسحة سماوية يسقفها سياجٌ معدني، تخترقها الشمس ويصل لها صوت الأذان.

ولكلّ معتقلٍ رقم وفقًا للمهجع الذي يوضع فيه، مثلًا (33 على 2 جماعي) أي المهجع الثاني، المعتقل رقم 33. هناك حمّامات في القبو، وقد دأب السجّانة على إخراج المعتقلين إليها مرّة واحدة في الصباح، مع جرعة من الضرب والسُباب، ولمدّة لا تتجاوز الدقيقة، بالذات لمن هم في التشميسة أو المنفردات، حيث لا تحتوي حمّاماتٍ خاصة مثل المهاجع الجماعية.

وترتهن حركة المعتقلين في الممرات بإحناء الرأس وعدم النظر للمحيط، وعند التحقيق يضع المعتقل "طمّاشة" على عينيه، وتُشدّ بقسوة على الرأس، وبحسب الموروث فإنّ من لا "تتطمش" عيناه عند التحقيق، يمتلك فرصًا أقلّ بالخروج.

ومن المهم التذكير أن المنفردات -كما تسمّى- غير مخصّصة لشخصٍ واحد، بل كانت تجمع أعدادًا تجاوز 5 معتقلين، وتصل لأكثر من 10 في بعض الحالات، مما يؤدّي للبقاء وقوفًا وتبادل أدوار النوم والجلوس.

أمّا المنفردة لشخص واحد، فهي في الغالب كابينة مرحاض فقط، مع حرمانٍ من الطعام والنوم، وعدم القدرة على إدراك الأيّام. وخُصّصت هذه الأقسام للمتهمين "الخطيرين" أو المتهمين بإثارة الشغب في الجماعيّات.

الصفوف الأولى الأقرب للبوابة تحظى ببعض البطانيّات، وتتركّز قربها الأدوية وعبوات تدلّل على الطعام. ويترأس كلّ مهجع شاويشٌ يكون من المعتقلين، وهو مسؤولٌ عن التواصل مع السجّانة، كطرق البوابة في حال الوفاة، أو طلب دواء كان لا يتم توفيره في معظم الحالات، ويقود لمعاقبة الشاويش.

ويتولّى فريق الشاويش إدخال الطعام وإخراج النفايات، كما ينظّم أحدهم دخول المعتقلين إلى الحمّام، في كلّ مهجعٍ حمّام ضيّق في الزاوية اليسرى، ويحتوي صنبورين للماء، يُستخدمان للشرب والغسل رغم تلوثهما وطعمتهما الواضحة، إضافةً لفتحة المرحاض، ويُستعمل الحمّام مثنى مثنى، لوقتٍ قصير جدًا.

وكان الشاويش مسؤولا عن تحضير المعتقل الذي يُنادى برقمه للتحقيق أو الإفراج أو التحويل، وكذلك تأكيد عدد المعتقلين في المهجع نهاية كلّ يومٍ، وفي حال لم يحضر المعتقل أو نسي رقمه فالعقوبة جماعيّة.

وكذلك يحضر الشاويش باستمرار 5 معتقلين ليتعرّضوا لعقوبة السجّانين في حال كان هناك صوتٌ مرتفع، أو مخالفاتٌ تتعلق بالصلاة، أو شجار، وأحيانًا كان يتطوع هؤلاء فداءً للمهجع من عقوبة جماعيّة.

وقد سارت "حفلات التعذيب" هنا دون صراخ، كي لا يُعرف في المهاجع الأخرى أن هناك عقوبة تجري، وبالتالي كان يتقدّم كل شاويش بالمخالفين عنده بصمت، ليتفادوا إثارة بقية المهاجع. وكان هذا على عكس ما روي عن "نصائح" يسمعها المعتقل للصراخ بأقصى ما استطاع خلال التعذيب المرتبط بالتحقيق.

وتمنع الصلاة وقوفًا أو جماعة، ويُمنع أن يصلّي اثنان قرب بعضهما جلوسًا حتى، وإلّا فالعقوبة جماعيّة. ولا يرتدي المعتقل ثيابه، بل يضعها في كيس نايلون يُشكّل وسادته التي تزيد من تعرّقه ليلا، وربما يحميه من القمل الذي يعشّش في الثياب، ويترك بيضه في الجروح الناتجة عن التعذيب.

وعند فتح بوابة المهجع أو فتح الشرّاقة (نافذة صغيرة في كلّ بوابة) يجب عدم النظر نحو السجّان، لكن الغالب هو التواصل الصوتي من خارج البوابة، لاستدعاء معتقلٍ إلى التحقيق، أو للتصوير (لكل معتقلٍ صورة بعد فرزه إلى مهجع، ويُمهر عليها اسمه) وأحيانًا نادرةً لزيارة الطبيب.

طرق التعذيب
انطوى التعذيب في "فرع فلسطين" على طيفٍ واسع من صعق الكهرباء إلى الضرب بالكوابل الكهربائية (الكابل الرباعي يحوي داخله أسلاكا معدنية) بالإضافة للشبح (تعليق الموقوف من يديه ساعات طويلة دون أن تصل رجلاه إلى الأرض).

أما أسلوب "الأخضر الإبراهيمي" كما سُمّى في هذه الأفرع الأمنية، فهو أنبوب بلاستيكيّ أخضر يستعمل في تمديدات المياه، وزنه خفيف، ويسبب الضرب به ألمًا شديدًا.

وبين كلّ هذا يُصبح إطفاء السجائر في جسد المعتقل تفصيلًا ليس ذا أهمّية.

مع أن وقت المعتقل رتيبٌ، إلّا أن هناك مناسبات خاصّة كانت تملأ أيّامه، من التحقيق إلى بصمه على أوراقٍ دون معرفة أقواله، وكيفية قضاء أيّام العيد، ومعرفة وقت الإفطار في رمضان، وعواقب أكل الطعام القليل الملوّث على صحة المعتقلين، و"التسييف" وهي طريقة نوم المعتقلين في المهاجع المكتظة، وتحلّقه حول أي قادمٍ جديد ليسأله عن أي أمل يفرّج الكرب، وعن الأسعار، وعن أي خبرٍ جديد.

وقد استخدم معتقلو الأفرع الأمنية التشفير وأوصافا غريبة لتناقل أرقام ذويهم وعناوينهم، وتبادلها فيما بينهم، لتصبح أكثر الجمل التي يستخدمها ذوو المغيبين قسريًّا أنه وصلهم خبر عن وجوده في فرعٍ أو سجنٍ ما عام كذا. وقد ساهمت وجوهٌ معروفة في نقل هذه الأخبار لشرائح أوسع، كما فعلت الممثلة يارا صبري ضمن حملتها "بدنا ياهن، بدنا الكل".





تابع قناتنا على يوتيوب تابع صفحتنا على فيسبوك تابع منصة ترند سرايا


طباعة المشاهدات: 1065  
1 - ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه. 20-12-2024 09:24 PM

سرايا

لا يوجد تعليقات
رد على :
الرد على تعليق
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
اضافة
جريمة بشعة .. مصرية تقتل زوجها سرقوا مجوهرات من أحد المنازل .. وهكذا كان مصيرهم فوضى كبيرة داخل برلمان .. ماذا حصل بين نواب! ما آخر مستجدات علاج ملك بريطانيا من السرطان؟ لماذا يعسكر جيش الاحتلال على الحدود الشمالية للأردن؟ الرواية الكاملة لهروب الأسد .. وسر اتصال مفاجئ... وفاة النائب الأسبق الملكاوي إثر نوبة قلبية إصابة 3 فتيات إثر حادث سير على شارع الستين في السلط السعودية تعلن إعدام 4 أردنيين "تعزيرا" "القسام" تنعى 3 من عناصرها استشهدوا جراء...بالفيديو .. القسام تبث مشاهد لاستهداف موقع عسكري...لحظات الأسد الأخيرة .. هرب مع ابنه وروسيا جعلته...الاحتلال يحتل قريتين جنوب سورياقطاع غزة .. بصدد أن يكون "أخطر مكان" على...مدينة حلب السورية تستعد لنفض ركام الحرب عن تراثهاتهريب جندي إسرائيلي من سريلانكا خشية اعتقالهالقسام: نفذنا عملية استشهادية بقوة إسرائيلية بجباليامقتل اثنين من تنظيم داعش بضربات أميركية في سوريا مقربون يكشفون حقيقة وضع عادل إمام وعودته بعد ورود اسمها .. يارا صبري خارج مسلسل سجن صيدنايا... بالفيديو .. سوزان نجم الدين:"ادركت الخداع... إيمي طلعت زكريا تُحيي ذكرى ميلاد والدها بهذه الطريقة رجل أعمال يطلب الزواج من حياة الفهد بمهر خرافي توتنهام يقصي اليونايتد من الكأس بعد مباراة ماراثونية الفيصلي يقترب من رفع عقوبة منع التسجيل الحسين إربد يحسم لقب "بطل الشتاء" في دوري المحترفين المنتخب الوطني لكرة القدم يحتل المركز 64 عالميا تصنيف فيفا .. الأرجنتين تواصل الصدارة بعد معاناة مع الشيخوخة المبكرة .. وفاة التيك توكر بيندري بويسين عن 19 عاماً مُصففة شعر أثارت الرعب في بلدٍ عربيّ .. إليكم ما فعلته إيطالي ينقذ نفسه بدماء الخفافيش! مشهد مرعب .. قطار اصطدم بصهريج! (فيديو) جريمة لا تُصدق في بلد عربي .. طعنوه وعذبوه ونشروا الفيديو على مواقع التواصل حادث مأساوي .. وفاة صياد بعد سقوط دب من شجرة عليه لدغته خطيرة .. القضاء على "الدبور القاتل" في هذا البلد بسبب عيد الميلاد المجيد .. ألمانيا تطلق سراح مئات السجناء! في حادث مرور بباريس .. مصرع عارضة أزياء روسية معروفة ترامب معجب بشكل خاص بالبرغر والصودا .. رئيس الطهاة السابق في البيت الأبيض يكشف عن عاداته الغذائية

الصفحة الرئيسية الأردن اليوم أخبار سياسية أخبار رياضية أخبار فنية شكاوى وفيات الاردن مناسبات أريد حلا لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر(وكالة سرايا الإخبارية) saraynews.com
الآراء والتعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها فقط
جميع حقوق النشر محفوظة لدى موقع وكالة سرايا الإخبارية © 2024
سياسة الخصوصية برمجة و استضافة يونكس هوست test الرجاء الانتظار ...

مقالات مشابهة

  • حزب الله يكشف عن المعادلة الوحيدة التي تحمي لبنان
  • السنوار 2.. من هو الأسير الذي يخشى الاحتلال إطلاق سراحه؟
  • معاوية عوض الله: العقوبات التي تصدر تجاه قادة الجيش لن تزيدنا إلا قوة وصلابة
  • الحوثيون يكشفون خسائر الغارات الإسرائيلية على موانئ الحديدة
  • مستقبل وطن سوهاج ينظم ندوة تثقيفية حول «أساليب التنشئة الاجتماعية السليمة»
  • خبير يشرح الصيغة التي ستقلل معدل البطالة في تركيا
  • حزب الله يحاذر الرد على الخروقات الإسرائيلية وانتشال جثث الشهداء متواصل
  • سوريا .. سجن فرع فلسطين بدمشق ومتاهات التعذيب
  • حزب الله اللبناني يعلن موقفه الجديد من الغارات الإسرائيلية على اليمن
  • وفاة شيخ الأسرى الفلسطينيين فؤاد الشوبكي في رام الله