منذ تاريخ اعتقاله في سجون النظام السوري عام 2014 لم يصل أي خبر لعائلة ناصر بندق، ابن مدينة السويداء، بشأن مصيره والظروف التي يعيشها وراء القضبان، وبينما كان شقيقه جمال يستخرج بيانا عائليا من "دائرة النفوس" قبل أيام تفاجأ باسم ناصر ضمن قوائم المتوفين.

ناصر صابر بندق شاعر وكاتب يعرفه كل أهالي السويداء وكان قد اعتقل قبل عشر سنوات من قبل المخابرات العسكرية، بسبب نشاطه الإغاثي والإنساني عبر تقديمه المساعدات للنازحين في محافظة دمشق.

واقتيد حينها إلى الفرع 227، أو كما يعرف بين الأوساط المحلية والأمنية بـ"فرع المنطقة"، كما توضح عائلته والبيانات الخاصة بـ"الشبكة السورية لحقوق الإنسان".

ورغم شهادة الوفاة التي تفاجأ بها شقيقه عن طريق "الصدفة" واتجاه كتاب وسياسيين سوريين لنعيه عبر مواقع التواصل الاجتماعي ترفض العائلة "إقامة عزاء أو حتى إعلانه شهيدا".

ويقول شقيقه جمال لموقع "الحرة": "نحن أخوته وأبناء العائلة لن نعلن ناصر بندق شهيدا حتى نرى جثمانه أو نحصل على دليل. الورقة الصادرة عن دائرة النفوس لا تؤكد الواقعة ولا يوجد فيها أي تفاصيل أخرى".

وبعد انطلاقة الثورة السورية في 2011 واستخدام النظام للقوة الأمنية والعسكرية، لازم كثير من العائلات سؤالٌ بقيت الإجابة عليه معلقة بـ"آمال وحسرة"، يخصّ أبناءها المختفين قسريا في السجون الأمنية "هل هم أحياء أم أموات"؟

وبينما اعتمد النظام سياسة الإنكار، وبقي مصير الآلاف حبيس جدران الزنازين، كشفت منظمات حقوقية منذ عام 2018، بناء على شهادات عوائل معتقلين، عن اتجاه النظام "لتوفية المئات" من المختفين قسريا في دوائر النفوس والسجلات المدنية.

"بيروقراطية إخفاء"

ويوضح مدير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، فضل عبد الغني، أنه ومنذ عام 2018 وصلوا إلى بيانات لمعتقلين عَمل النظام السوري على إعلان وفاتهم في دوائر النفوس، وأن عائلاتهم تبلغت بالواقعة "صدفة".

ويبلغ عدد الحالات الموثقة لدى الشبكة الحقوقية حتى الآن 1623 حالة، بينهم 24 طفلا و21 سيدة (أنثى بالغة) و16 حالة من الكوادر الطبية.

ولم يذكر سبب الوفاة لجميعهم، بينما لم يسلم النظام الجثث للأهالي أو حتى إعلامهم بمكان دفنها، وفق عبد الغني.

ويضيف الحقوقي لموقع "الحرة": "هذه السياسة ليست اعتباطية. النظام يعمل ببيروقراطية عالية".

ولا يعلق النظام السوري على ما يجري داخل زنازين أفرعه الأمنية من اعتقال تعسفي وإخفاء قسري وقتل تحت التعذيب، وهي ممارسات لطالما تحدث عنها معتقلون سابقون، ومنظمات حقوق إنسان دولية وسورية.  

وتقول الأمم المتحدة إن استخدام الاختفاء القسري ينتشر "كأسلوب استراتيجي لبث الرعب داخل المجتمع".

وتوضح في المقابل أن "الشعور بغياب الأمن الذي يتولد عن هذه الممارسة لا يقتصر على أقارب المختفي، بل على مجموعاتهم السكانية المحلية ومجتمعهم ككل".  

ويقول أمين سر مجلس المعتقلين والمعتقلات السوريين، مروان العش، إنه وخلال عملهم الحقوقي "لم تظهر لديهم أي حالة لمعتقل منح شهادة وفاة ثم ظهرا حيا".

وهذه النتيجة توصلوا إليها بعد متابعة آلاف حالات التوثيق والتتبع وتقديم المشورة.

ويضيف العش لموقع "الحرة": "بيروقراطية العمل بالشرطة العسكرية والسجون العسكرية وأماكن الاعتقال والإخفاء تخضع لجهة تراتبية واحدة وتعليمات مركزية من مكتب الأمن الوطني".

ويرسم هذا المكتب "استراتيجيات الملاحقة والاعتقال وصلاحيات التعذيب والقتل وإجراءات ترحيل الجثامين للمعتقلين والمعتقلات إلى المشافي العسكرية ثم إلى المدافن الجماعية العديدة"، وفق العش.

وبعد ذلك تتم "إعادة تجريف هذه المدافن الجماعية لإخفاء آثار أي جثامين، ومن أجل تضييع أي جهود مستقبلية لتتبع محتوياتها، وجعل الأمر صعبا على أي جهة تطابق DNA أو علامات حيوية على أي بقايا بشرية"، وفق الحقوقي السوري.

"خيط من الأمل"

وتذكر الوثيقة المتعلقة بالشاعر ناصر بندق أن تاريخ الوفاة يعود إلى 5 مارس 2014.

لكنها لا تقدم أي تفاصيل أخرى عن مكان الواقعة أو سببها. 

وإلى جانب ناصر بندق، وثّق "المرصد السوري لحقوق الإنسان" وفاة 9 مواطنين سوريين تحت التعذيب داخل أقبية سجون النظام السوري، تأكدت عائلاتهم من وفاتهم من دوائر النفوس منذ مطلع العام الحالي.

ومع أن قصة الشاعر تشبه أكثر من ألف حالة موثقة لدى جهات حقوقية يدفع "الخيط المعلق بالأمل" عائلته لعدم تصديقها، أو حتى اتخاذ إجراءات على صعيد إقامة بيت العزاء أو الحديث عن مناقبه.

ويشير شقيقه جمال إلى أن العائلة ستضغط سلميا من أجل الكشف عن مصير الشاعر السوري.

ويرتبط الأمل الذي لا يزال متمسكا به بستة أشهر مضت، وفي تلك الفترة يوضح أنه استخرج بيانا عائليا، لم يكن فيه ناصر متوفيا، آنذاك.

ويضيف: "لن نعترف بالورقة. هم لم يبعثوا لنا شيئا وتفاجأت بما حصل بالصدفة. سنبدأ حملة للكشف عن مصيره الحقيقي.. أخي حي حتى يثبت غير ذلك إما بالدليل القاطع أو جثمانه".

"ابتزاز وذل"

ويقول الحقوقي السوري فضل عبد الغني إن "شهادة الوفاة لا يمكن للعائلة أن تستخرجها بسهولة"، وأن الأمر يحتاج "لدفع أموال ووساطات".

ويضيف بالقول: "النظام بعدما قتل المواطن المختفي قسريا يعمل على إذلال عائلته ويحاول ابتزازها من أجل المعلومة والبيان".

ويشير تحقيق سابق للشبكة الحقوقية التي يديرها عبد الغني إلى أن النظام السوري بدأ في تسجيل الوفيات من المختفين قسريا لديه في دوائر السجل المدني منذ عام 2013، لكنه لم يكشف عنها سوى مع بدايات عام 2018. 

ويوضح أن هذه الآلية بيروقراطية معقدة، تتورط فيها مؤسسات حكومية عدة، في مقدمتها الأجهزة الأمنية.

وتتلخص في قيام مكتب الأمن الوطني، وهو أعلى سلطة أمنية وعسكرية في سوريا، ويترأسه رئيس الجمهورية، بالطلب من مترأسي الأفرع الأمنية والسجون العسكرية إرسال التقارير الخاصة للذين ماتوا في مراكز الاحتجاز، والبيانات المتعلقة بهم، وأسباب الوفاة، إلى الشرطة العسكرية. 

وبعد وصول هذه التقارير والبيانات من قبل الشرطة العسكرية لمكتب الأمن الوطني على شكل دفعات بمراحل زمنية متتالية، يتولى المكتب تنظيمها وإرسالها إلى وزارة الداخلية السورية على شكل دفعات. 

وبدورها تعيد وزارة الداخلية إرسال التقارير والبيانات إلى أمناء دوائر السجل المدني، بحسب ارتباط كل أمانة سجل مدني بالشخص المتوفي، وبناءً على ذلك يتولى موظفو السجل المدني تثبيت وقائع الوفاة، ضمن سجلاتهم، بناءً على التعليمات التي وردتهم. 

"تحولوا إلى أرقام"

وبحسب ما وثقت منظمات حقوقية سورية عدة، يقول أمين سر مجلس المعتقلين والمعتقلات السوريين، مروان العش، إن أعداد المختفين قسريا في معتقلات النظام السوري يصل لنحو 160 ألف.

"هذا الرقم يكشف عن مشهد مرعب على مستوى عالمي وخلال القرن الحادي والعشرين"، حسب الحقوقي السوري، ويضيف أنه لم يسبق أن سجلت أرقام قريبة من هذا إلا في مذابح كمبوديا ورواندا.

ويعتبر تسجيل وقائع وفاة المختفين قسريا والأرقام المذكورة "سابقة سورية" منذ تولي نظام البعث عام 1963، خصوصا بعد استيلاء حافظ الأسد على الحكم ووريثه بشار، وفق الحقوقي السوري.

ويَعتبر العش أن "هذه السياسة الممنهجة التي يتبعها النظام صممت من رجال المخابرات السورية بعد 2011 لطمس معالم الجريمة مكتملة الأركان".

ويوضح أن غالبية الشهادات يكتب فيها أن الشخص (المعتقل) توفي لأسباب مرضية مثل "توقف الكلية أو القلب أو أسباب تنفسية، دون ذكر مطلق لأي جريمة تنفيذ إعدام أو قتل تحت التعذيب، أو بسبب الأمراض المتفشية بمعتقلات وأماكن الاحتجاز البدائية". 

المصدر: الحرة

كلمات دلالية: النظام السوری عبد الغنی

إقرأ أيضاً:

مجزرة حماة 1982.. هل تعيد الحكومة السورية الجديدة فتح التحقيق؟

تُمثِّل مجزرة حماة عام 1982 واحدةً من أفظع الجرائم الجماعية التي شهدتها سوريا في تاريخها الحديث، حيث أودت بحياة عشرات الآلاف من المدنيين، وتركت في الذاكرة الوطنية جرحًا عميقًا لم يلتئم بعد.

وقد اكتسبت هذه المجزرة أبعادًا إضافيةً في ضوء التطورات السياسية الأخيرة التي شهدتها البلاد، والمتمثِّلة بسقوط نظام الأسد وتشكيل حكومة انتقالية جديدة. ففي ظل هذا التحول الجوهري، يصبح فتح ملفّ المجزرة واستجلاء حقائقها ومحاسبة المتورطين فيها شرطًا أساسيًا لبناء دولة قائمة على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان.

ولا يمكن فهم ضرورة إعادة فتح ملف مجزرة حماة بمعزلٍ عن مبادئ العدالة الانتقالية، تلك المنظومة التي طُوِّرت خصيصَى لمساعدة المجتمعات الخارجة من نزاعاتٍ داخلية أو أنظمةٍ حكمٍ استبدادية على تجاوز إرث الماضي القمعي، والانتقال إلى مرحلة جديدة قوامها الحقيقة والمحاسبة وجبر الضرر وضمان عدم تكرار الانتهاكات.

ومن منطلق هذه المبادئ، يغدو الاعتراف الرسمي بالجرائم السابقة والانتهاكات الممنهجة خطوةً مفصليةً في تحقيق المصالحة الوطنية والسِلم الأهلي.

سياق سياسيّ مختصر

شكّلت تجرِبة استيلاء حزب البعث على السلطة في سوريا عام 1963 نقطةً مفصلية في التاريخ السياسي المعاصر للبلاد، إذ أُجهِضت حينها كلُّ الآمال ببناء نظامٍ دستوريٍّ برلمانيٍّ تعددي، وجاء "انقلاب الثامن من مارس/ آذار" ليضع مقاليد الحكم بشكلٍ شبه مطلق في يد اللجنة العسكرية لحزب البعث.

إعلان

وفي خضمّ التغييرات التي أعقبت تلك المرحلة، برز حافظ الأسد بوصفه أحد أبرز أعضاء هذه اللجنة، ثم انتزع السلطة لنفسه عام 1970 فيما عُرف بـ«الحركة التصحيحية»، ليحكم قبضته على المؤسسات الرئيسة، مُحكِمًا السيطرة على مفاصل الدولة والمجتمع.

خلال تلك الحقبة، أحكم نظام الأسد سيطرته على السلطات الثلاث: (التنفيذية والتشريعية والقضائية) عبر منظومةٍ من القوانين والإجراءات الأمنية المكثفة. فقد جرى ضرب ركائز الحياة السياسية الحقيقية بمؤسساتها وأحزابها المستقلة، ودمج النقابات والاتحادات المهنية ضمن أُطُر رسمية حزبية.

وفي ظلّ هذا المناخ الخانق، هيمن نمط "حزبٍ واحدٍ، قائدٍ واحد"، وتلاشت أيّ منافذ للمعارضة السياسية أو للتعبير الحرّ.

ومع انعدام الرقابة الدولية الفعّالة وتداعيات الحرب الباردة، وجد نظام الأسد نفسه مطلق اليد في التعامل مع من يعتبرهم خصومًا، الأمر الذي مهّد الطريق لوقوع انتهاكات كبرى على غرار مجزرة حماة عام 1982، والتي ما كانت لتصل إلى هذا المستوى من العنف المنهجي، لولا استقرار نظامٍ يفتقر إلى أي التزام حقيقي بحقوق الإنسان، أو بالضوابط الدستورية والرقابية.

مجزرة حماة فبراير/ شباط 1982

على وقع التوترات السياسية والأمنية التي شهدتها البلاد أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات، اندلعت في مدينة حماة مواجهات عنيفة بين قوات النظام السوري ومسلحين معارضين (بينهم من انضوَوا تحت جماعة الإخوان المسلمين أو تعاطفوا معها).

وقد استغلَّ النظام هذه المواجهات المحدودة ليشنَّ حملةً أمنيةً وعسكريةً واسعة النطاق على المدينة بأسرها، بدءًا من مطلع فبراير/ شباط 1982، واستمرت نحو شهرٍ كامل، مُوظِّفًا أقصى درجات العنف والتوحش.

حجم القوات المشاركة والطابع "الممنهج" للهجوم

وجَّه النظام السوري آنذاك تشكيلات عسكرية ضخمة نحو مدينة حماة، شملت قوى الوحدات الخاصة وسرايا الدفاع وبعض ألوية الدبابات، إضافةً إلى أجهزة الأمن والمخابرات.

إعلان

فرضت هذه القوات حصارًا خانقًا على المدينة، فقطعت عنها الماء والكهرباء وخطوط الاتصال، لتتحول حماة إلى منطقةٍ معزولةٍ عن العالم الخارجي. وفيما كان الدافعُ المعلن هو القضاء على "جيوبٍ مسلحةٍ"، فإنَّ حجم الانتشار العسكري والأساليب المتبعة أظهرا أن الهدف الحقيقي كان معاقبة المدينة وسكانها، وذلك بالنظر إلى استخدام أساليب، مثل: القصف بالمدفعية والطيران، وعمليات الإعدام الميداني، والنهب المنظَّم للأحياء السكنية.

تكشف الشهادات التي جمعها باحثون وحقوقيون (انظر تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان بمناسبة الذكرى الأربعين لمجزرة حماة في فبراير/ شباط 2022)، خلال السنوات اللاحقة – على ندرتها وصعوبة التحقق منها آنذاك بسبب التعتيم الإعلامي – عن نهجٍ ممنهجٍ في الهجوم، اتُّبع فيه نمط "التدمير الشامل" للأحياء التي عُدّت حاضنة للمعارضة المسلحة، دون تمييزٍ فعليٍّ بين مدنيين ومسلحين. وبذلك تحوَّل ما وُصف أول الأمر بـ"عملية أمنية محدودة" إلى أضخم الحملات القمعية في تاريخ سوريا الحديث.

تقديرات الضحايا وحجم الانتهاكات

يصعب الوصول إلى أرقامٍ دقيقةٍ بشأن حصيلة القتلى والمفقودين جراء التعتيم الشديد الذي فرضه النظام على المدينة. ومع ذلك، تتقاطع التقديرات الحقوقية والدراسات اللاحقة لتشير إلى مقتل ما بين 30.000 و40.000 مدني خلال تلك الحملة، علاوةً على نحو 17.000 شخصٍ يُرجَّح أنهم تعرّضوا للاعتقال التعسفي أو الإخفاء القسري، ولا يزال مصير معظمهم مجهولًا حتى اليوم. وانتشر في المدينة العديد من المقابر الجماعية.

الدمار الشامل ونهب الممتلكات

لم تقتصر الانتهاكات على القتل والاعتقال الواسع فحسب، بل شملت أيضًا التدمير الكبير لقطاعاتٍ واسعةٍ من أحياء المدينة، خاصة الأحياء التاريخية في مركزها وأطرافها القديمة.

وقد تصاعدت عمليات القصف المدفعي والجوي لتسوِّي مبانيَ بأكملها بالأرض، ومنها مساجد وكنائس وأسواق تقليدية تُمثِّل ذاكرةً تراثيةً طويلة للمدينة.

إعلان

وبالتوازي مع ذلك، سُجِّلت حوادثُ كثيرةٌ للنهب المنهجي، حيث جُرِّد العديد من المنازل والمتاجر من محتوياتها على يد عسكريين أو عناصر ترتدي بزّاتٍ مدنية تابعة لأجهزة الأمن، ثم جرت عمليات إحراقٍ متعمدة في بعض الأسواق والمحال والمنازل.

تركت هذه الحملة العسكرية المدمرة تأثيراتٍ بعيدة المدى على النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمدينة؛ إذ نزحت عائلاتٌ بأكملها من حماة؛ هربًا من العنف، وصودرت منازل ومحال تجارية، واختُبِرت أجيالٌ عديدةٌ بمشاعر الخوف والصدمة والإحساس بالظلم.

تجاهل المجزرة دوليًا ومحليًا

رغم ضخامة الجرائم التي ارتُكِبَت في حماة عام 1982، لم تشهد تلك الفترة أي تحرّك رسمي أو دولي يمكن وصفه بالفاعل؛ إذ غاب تمامًا عن المشهد أي تحقيق أممي مستقل لتقصي الحقائق، بل حتى في المنظمات الحقوقية الدولية كان التناول شبه معدومٍ. ففي ذروة المجزرة، كانت سوريا تخضع لتوازناتٍ إقليمية ودولية متشابكة: إذ انقسم العالم بين معسكرين أثناء الحرب الباردة، ما جعل كثيرًا من الانتهاكات الحقوقية في الشرق الأوسط تمرّ دون مساءلة حقيقية.

وعلى الصعيد المحلي، فرض النظام السوري تكتيمًا إعلاميًا مُحكَمًا؛ أغلقت الصحف المستقلة في وقت مبكر من عهد البعث، وسيطر الخطاب الرسمي على المنافذ الإعلامية القليلة المتبقية.

ومع استمرار قانون الطوارئ المفروض منذ عام 1963، ضاقت إلى الحدّ الأقصى مساحة أي حراك سياسي مستقلّ يمكنه أن يُطالب بالتحقيق أو المحاسبة. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تحوّل الحديث عن مجزرة حماة إلى "تابو" يُعرِّض مَن يتجاوزه للملاحقة والاعتقال. وهكذا تعذّر على الناجين أو أهالي الضحايا إيصال معاناتهم، وفقد الكثيرون الثقة بإمكانية تحصيل العدالة في ظل هيمنة السلطة المطلقة على القضاء والبرلمان والإعلام.

أسهم هذا التجاهل، محليًا ودوليًا، في ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب على مدى العقود اللاحقة. فقد وجّه النظام رسالة مفادها أنه قادر على ارتكاب انتهاكات جسيمة ضد المدنيين دون خشية من أي عقابٍ داخلي أو دولي. وخلَق هذا الوضع فراغًا استمرت تبعاته مع تفاقم انتهاكاتٍ مشابهة، حيث افتقد السوريون – ولا سيما أبناء حماة – إلى أي فرصة للمساءلة أو جبر الضرر.

إعلان

لقد أدّى هذا التجاهل إلى تشجيع نظام الأسد على ارتكاب مزيدٍ من الانتهاكات في السنوات والعقود اللاحقة، مستندًا إلى التجربة السابقة في الإفلات من العقاب.

فحين يغيب الردع الخارجي تزداد الجرأة لدى السلطة الحاكمة على توظيف الوسائل العنيفة كلما ارتأت في ذلك صيانةً لبقائها. ولم يكن لقضية حماة أن تظلّ عالقةً في الذاكرة السورية كجرحٍ مفتوحٍ فقط، بل تحوّلت أيضًا إلى نموذجٍ يذكرُ من خلاله المواطنون والمعارضون على حدٍّ سواء، كيف يمكن للنظام أن يستخدم قوته المطلقة في غياب المحاسبة الدولية.

أهمية استعادة هذا الملف اليوم

عندما اندلعت الاحتجاجات الشعبية عام 2011، عادت ذاكرة حماة لتطفو على السطح، سواء على مستوى المجتمع الذي استحضر ماضي المجزرة كرمزٍ للبطش السلطوي، أو على مستوى السلطة الأمنية التي لجأت مجددًا لمنهج القمع العنيف.

وبهذا المعنى، يمكن القول إن أحداث 2011 لم تكن سوى استمرارٍ لتاريخٍ قمعيٍّ ظلَّ بلا رادع، نتيجة التقصير الدولي، وغياب المساءلة عن الجرائم الكبرى لنظام الأسد، بدءًا من حماة وصولًا إلى الانتهاكات الموثّقة حديثًا.

في ظل التحولات السياسية الراهنة وسقوط نظام الأسد، تصبح إعادة فتح ملف مجزرة حماة خطوةً ضروريةً لأجل إنصاف الضحايا، ولضمان عدم تكرار مثل هذه الممارسات مستقبلًا.

وعلى المستوى الدولي، يتطلَّب هذا التصحيح تحرّكًا فعليًا من قِبَل المنظومة الأممية ومنظمات حقوق الإنسان، سواء عبر تشكيل لجان تحقيق دولية مختصة قادرة على الوصول إلى الحقائق، أو من خلال دعم الحكومة السورية الجديدة في إرساء أسسٍ قانونيةٍ وإداريةٍ للتعامل مع إرث المجزرة.

دور الحكومة السورية الجديدة

تواجه الحكومة السورية الجديدة مسؤولية تاريخية في إرساء أسس العدالة الانتقالية، والتي تبدأ بإلغاء القوانين التي كرّست ثقافة الإفلات من العقاب، لا سيما تلك التي منحت عناصر الأجهزة الأمنية حصانة قانونية ضد الملاحقة القضائية.

إعلان

فالمراسيم التشريعية، مثل المرسوم رقْم 14 لعام 1969، منعت أيضًا تحريك أي دعوى ضدهم دون إذنٍ رسميٍّ من القيادة العليا، مما أدى إلى ترسيخ شعورٍ بالحصانة المطلقة لدى الجهات الأمنية والعسكرية.

وقد انعكست هذه القوانين سلبًا على بنية النظام القانوني، حيث أصبح من شبه المستحيل فتح أي تحقيق جادّ في الجرائم والانتهاكات الجسيمة التي وقعت خلال العقود الماضية. وعليه، فإن أحد أهم الأدوار التي يجب أن تضطلع بها الحكومة الجديدة، هو إصدار تشريعات صريحة تُبطل مفعول هذه القوانين وتعيد للقضاء استقلاليته، بحيث يصبح من الممكن محاكمة المتورطين في الجرائم الكبرى، وفق معايير المحاكمة العادلة.

إلى جانب الإصلاحات التشريعية، يبرز دور التوثيق وجمع الشهادات كركيزة أساسية للوصول إلى الحقيقة. فالانتهاكات الجسيمة، مثل مجزرة حماة، لا يمكن التعامل معها بفاعلية دون جمع الأدلة وإجراء تحقيقات شفّافة ومستقلة.

في هذا السياق، يصبح تشكيل لجنة وطنية للتحقيق أمرًا بالغ الأهمية، على أن تضم قضاة وخبراء قانونيين مستقلين وممثلين عن أهالي الضحايا، مع منحها صلاحيات واسعة للوصول إلى الوثائق الأمنية، واستدعاء الشهود، وتحليل الأدلة.

إنّ التحديات التي تواجه عمليات التوثيق، مثل: التقادم الزمني، وندرة الوثائق الرسمية، تجعل شهادات الناجين وعائلات الضحايا والمطلعين على الأحداث مصدرًا لا غنى عنه لإعادة بناء الحقيقة.

لذا، فإن الحكومة الجديدة مطالبة بتوفير بيئة آمنة لحماية الشهود، إضافةً إلى دعم إنشاء أرشيف وطني يحفظ شهادات الضحايا والأدلة المتوفرة لتوثيق ما حدث ومنع طمس الحقائق أو تحريفها مستقبلًا.

إلى جانب التحقيقات القضائية والتوثيق، يعد الكشف عن الحقيقة الكاملة لمصير آلاف المفقودين أثناء مجزرة حماة عاملًا حاسمًا في تحقيق العدالة وردّ الاعتبار لعائلات الضحايا.

إعلان

فخلال الحملة العسكرية، اختفى ما يقارب 17.000 شخص، ولا تزال عائلاتهم تجهل مصيرهم حتى اليوم، مما يجعل البحث عنهم واستعادة رفاتهم مطلبًا ملحًّا. يتطلب ذلك تشكيل فرق مختصة في البحث والتحرّي، تضم خبراء في الطب الشرعي والتعرف على الحَمض النووي، بهدف تحديد مواقع المقابر الجماعية، وتحليل الرفات لتحديد هوية الضحايا.

إن تسليم رفات الضحايا لعائلاتهم هو خطوة أساسية في مسار الاعتراف الرسمي بالجرائم المرتكبة، ويساهم في التخفيف من معاناة العائلات التي ظلت لعقود تعيش في حالة من الألم والانتظار.

إضافةً إلى ذلك، فإن اعتراف الحكومة الجديدة بمجزرة حماة ودمجها في السجل التاريخي الرسمي من خلال المناهج التعليمية والمناسبات الوطنية يمثل بُعدًا هوياتيًا ضروريًا، يمنع طمس الحقائق أو تحريفها في المستقبل، ويضمن أن تكون هذه الأحداث درسًا للأجيال القادمة.

علاوة على كشف الحقيقة، يتعين على الحكومة الجديدة اتخاذ تدابير ملموسة لجبر الضرر الواقع على الضحايا وعائلاتهم، سواء على المستوى المادي أو المعنوي. فالخسائر التي تسببت بها المجزرة لم تقتصر على فقدان الأرواح، بل امتدت إلى تدمير الممتلكات ونهب المنازل وتشريد الأسر، مما يستوجب وضع برامج تعويض تعيد بعض الحقوق المسلوبة.

ويشمل ذلك تقديم تعويضات مالية عادلة لعائلات الضحايا والناجين، إضافةً إلى إعادة الممتلكات المصادرة أو تعويض أصحابها وفق قيمتها السوقية. كما ينبغي أن تشمل عمليات جبر الضرر تقديم اعتذار رسمي من الدولة، وإقامة نصب تذكاري تخليدًا لذكرى الضحايا، وضمان تقديم دعم نفسي واجتماعي للناجين وأسر المفقودين، الذين لا يزالون يعانون من آثار الصدمة.

أما على مستوى الضمانات المستقبلية لمنع تكرار مثل هذه الجرائم، فإن الإصلاح المؤسسي يمثل أحد المحاور الأساسية التي يجب أن تركز عليها الحكومة الجديدة. فمن دون إصلاح جذري للأجهزة الأمنية والقضائية، سيظل خطر إعادة إنتاج الاستبداد قائمًا.

إعلان

يتطلب ذلك إنشاء آليات رقابية مستقلة للإشراف على أداء الأجهزة الأمنية، واستبعاد المسؤولين المتورطين في الانتهاكات الجسيمة من مواقع السلطة، وتعزيز استقلال القضاء ليتمكن من محاسبة أي تجاوزات مستقبلية. كما ينبغي إدماج مبادئ حقوق الإنسان في المناهج التعليمية، لضمان نشوء جيل جديد أكثر وعيًا بقيم العدالة والمساءلة.

إضافةً إلى ذلك، يتعين وضع إطار تشريعي يجرّم بشكل واضح الجرائم ضد الإنسانية، بما يشمل التعذيب، الإخفاء القسري، والاستهداف الجماعي للمدنيين، مع توفير آليات قانونية تتيح ملاحقة المسؤولين عن هذه الجرائم بغض النظر عن مناصبهم. وإلى جانب هذه الإصلاحات الداخلية، ينبغي تعزيز التعاون مع المنظمات الحقوقية الدولية لضمان حيادية التحقيقات، والاستفادة من الخبرات العالمية.

خاتمة

يمثّل ملف مجزرة حماة 1982 اختبارًا حقيقيًا لمدى جدية الحكومة السورية الجديدة في النهوض بمسؤولياتها حيال الماضي وطيِّ صفحته على أساسٍ عادل. فمن دون الشروع في تحقيقٍ شفافٍ وتفعيل آليات محددة لمساءلة المسؤولين وتعويض المتضررين، سيظل الإرث القمعي لنظام الأسد والموالين له حاضرًا، وستتعذر أيّ مصالحةٍ وطنيةٍ.

وفي هذا الإطار، لا بدّ من مدّ جسور التعاون بين الجهات الرسمية السورية الجديدة والهيئات والمنظمات الدولية، بحيث تزوّد الأخيرةُ تلك الجهات بالدعم الفني والقانوني اللازم، وتضفي شرعيةً دوليةً على أي خطواتٍ تُتَّخذ على المستوى الوطني.

وتظلّ هذه الإجراءات مجتمعة السبيل الأمثل لردم الفجوة التاريخية الناجمة عن "التقصير الأممي" في الثمانينيات، والدليل العملي على أن سوريا تختار اليوم مواجهة ماضيها بشكلٍ مختلف.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • مسؤول العلاقات العامة في وزارة النفط والثروة المعدنية الأستاذ أحمد السليمان في تصريح لـ سانا: تؤكد وزارة النفط والثروة المعدنية أن استئناف استجرار النفط والغاز الطبيعي من شمال شرق سوريا جاء وفق عقد كان معمولاً به سابقاً، وقد تم دراسته قانونياً وإجراء التع
  • موعد ومكان عزاء والدة يوسف الخال زوج نيكول سابا
  • موعد ومكان عزاء والدة يوسف الخال زوج النجمة نيكول سابا
  • مجزرة حماة 1982.. هل تعيد الحكومة السورية الجديدة فتح التحقيق؟
  • العسكرية في سوريا: حكايات رعب وهروب.. وجنون النظام في الساعات الأخيرة
  • الأمن السوري يقبض على عنصر تابع لفرقة متورطة بإلقاء براميل متفجرة
  • أحمد حسون.. مفتي سوريا في النظام السابق
  • سقطت من الطابق السابع.. اتهام مصري بقتل زوجته في الأردن
  • سوريا تبدأ حملة أمنية في درعا ضد فلول النظام المخلوع‎
  • بدء حملة ضد فلول النظام وتجار المخدرات جنوب سوريا