ما الذي حملني إلى هذه القذارة، إلى وكر الحشرات؟! لماذا لم تبقوا صامتين، تلتقمون ما نلقي إليكم من بقايا، وما تجود به نفوسنا الشحيحة.. نحاصركم من الأرض والبحر، ونهبط عليكم متى شئنا من السماء؟!
عائلة جدي عانت كثيرا، بل واقتيد بعض أفرادها لمعسكرات الإبادة. كان صراخهم يعلو، ولم يشفع لهم أحد. الألم ليس جديدا، لكن هذه المرة ليس من نصيبنا، فنحن قد اكتفينا.
ليس لنا موطئ قدم إلا هنا، ألم تفهموا، كم يجب أن نسحق منكم حتى تفهموا؟!
كان مناحيم يستذكر أشياء كثيرة وهو متمترس مع جنود آخرين بين ركام المباني التي أنهكها قصف الطائرات. بين فينة وأخرى تمر أمامهم بعض العائلات المذعورة هاربة بحياتها وقليل من متاعها، يظهر رجل عجوز بمشية بطيئة، متكئأ على عصاه، يتبع خطو الهاربين.
- ساعده يا مناحيم (أحد الجنود).
- سأساعده عندما ينهي قطع الشارع العريض.
يقهقه الجميع..
وبعد أن بذل العجوز كل طاقته حتى يصل الناحية الأخرى بأمان، تلقى طلقات عديدة، فتكوّم جثة هامدة.
يعود مناحيم إلى ذكرياته..
جدّي كان مقامرا سيئا وخاسرا، وعندما يثمل في شرابه، كان يعيث في البيت خرابا، كي تعطيه جدتي ما لديها من نقود، كانت قوّادة في حانات برلين. كانت تكسب جيدا. كان بيتهم صغيرا وقذرا، هكذا أخبرني أبي، لكن بالكاد كانت جدّتي تسدّد الايجار وتؤمّن بعض الطعام لها ولأبي.
الآن بيتي كبير، تحيط به حديقة، وُلدت هنا. وقال أبي إنه أحضر جدّي وجدّتي بعد أن وعدتهم الوكالة اليهودية ببيت وعمل. لقد وجد أبي البيت جاهزا ودافئا، كان قد تم بناؤه منذ زمن طويل. لقد كان بيت أحدهم، كانت أوانيهم وفرشهم وأمتعتهم مرتّبة في أماكنها، فقط نزعنا صورهم عن الجدران.
يصعد مناحيم على الدبابة مع آخرين، ينطلقون في شوارع غزة المهجورة والمدمّرة. تصادفهم سيارة مدنية فيها عائلة من النازحين..
- إنها الحشرات ثانية (أحد الجنود).
- ماذا نفعل يا مناحيم؟
- جهّز الطلقات (صمت).
- أطلق..
تستحيل السيارة قطعا متطايرة، وتتبعثر الأشلاء.. يصفق الجنود داخل الدبابة ويضحكون.
فرح جدي كثيرا بالبيت الجديد، أصبح يمضي ساعات النهار في الحديقة، أما أبي فقد عمل في الجيش، كان يؤمّن احتياجات والديه بأريحية.
هل يظنّون أنهم سيعودون لبيوتهم، أو أننا سوف نغادر هذه الأرض؟ ألم يسمعوا الإله عندما وعد؟.. من يشكّك في وعد الإله؟! إنهم كَفَرة وجَهَلة، أو إنهم بلا إله.
- انظروا هناك.. من يختبئ بين الركام.
يتجمّع الجنود، يطلقون النار بكثافة ثم يسود الصمت.
ينطلقون ناحية الركام، بحذر شديد ينتشرون في أنحائه. كان هناك شاب في مقتبل العمر، ملابسه متّسخة، وقد أرهقه الجوع والعطش، انهال الجنود عليه بالضرب. كان مستسلما بلا حول ولا قوة، يخرج أحد الجنود علم إسرائيل من عتاده.
- قبّله أيها الكلب.
لا يستجيب رغم كسوره وأوجاعه..
- قبّله أيها الحشرة.
ينهالون عليه ضربا من جديد، أحدهم ينزع عن المسكين قميصه الصوفي.. يُخرج مناحيم سكينا عسكريا من حزامه، يمررها ببطء على جسد الشاب المستكين، وبتأنّ يرسم النجمة السداسية على ظهره، وتسيل الدماء، يطلقون النار في الهواء وحول الشاب الممدد على الأرض، وفيما هم كذلك تدوي قذيفة من المجهول، تنفجر في الجميع. ماتوا جميعا عدا مناحيم، الذي حملوه وقد قُطعت ساقاه.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات غزة فلسطين غزة الاحتلال قصة مدونات مدونات مدونات مدونات مدونات مدونات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
«سيد» يقضي عيد الحب بجوار قبر زوجته: «كانت عيني اللي بشوف بيها»
بينما تمتلئ الشوارع بالورود الحمراء، وتتزين المحال التجارية بالقلوب والهدايا، وتعج المقاهي والمطاعم بضحكات العشاق، كان «عم سيد» يقضي عيد الحب الأول بدون زوجته، جالسًا بجوار قبرها، يرتل لها آيات من الذكر الحكيم التي كانت تحبها.
في أبريل 2024، رحلت «الحاجة كريمة»، تاركةً وراءها قلب سيد حمادة، البالغ من العمر 69 عامًا، نابضًا بالحب والوفاء، بعد زواج دام 35 عامًا، عاشا خلالها أجمل أيام حياتهما، رغم أنهما كانا كفيفين ولم يريا بعضهما يومًا، لكن أعين قلوبهما كانت دائمًا مفتوحة على الحب.
ساعة بجانب زوجته في عيد الحبيحكي «سيد» لـ«الوطن»، تفاصيل 60 دقيقة، قضاها بجانب زوجته في عيد الحب، موضحًا أنه جلس بجانب قبرها، واضعًا كف يده على بابه، وقرأ لها سورة الفاتحة، ثم بعض الآيات التي كانت تحب أن تسمعها منه، مضيفًا: «ده أول عيد حب ماتكونش موجودة معايا فيه، قرأتلها قرآن، وبكيت على فقدانها وقولتلها سامحيني لو كنت قصرت معاكي في يوم، لأنه تعبت معايا جدا وعافرت علشان نبني بيتنا».
مشاعر مختلطة داخل قلب «سيد»، إذ اختلطت الراحة مع الحنين والحزن، ويحاول الرجل الذي يقطن في مدينة شبين الكوم بمحافظة المنوفية، أن يتأقلم على الحياة بدونها، لكنه فشل حتى الآن.
«عايش في دوامة، ولو أطول أنزلها القبر هعمل كده، لو ينفع أعيش جنب قبرها هعمل ده، كانت الأمل في حياتي وعيني اللي بشوف بيها، وزواجنا استمر 35 سنة، كانت نتيجته إننا خلفنا ابننا الوحيد أحمد».. هكذا وصف «سيد» شعوره خلال حديثه مع «الوطن»، مؤكدًا أنها كانت تتمنى أداء العمرة قبل وفاتها، لكنها لم يقدر على تحقيق حلمها، وبات أمل زوجها هو قيامها بأداء العمرة له ولزوجته الراحلة.
اعتاد «سيد» على زيارة قبل زوجته في الأسبوع مرتين، ليقرأ لها الفاتحة ويجلس بجوارها ساعات طوال: «أمل حياتي دلوقتي إن أحقق اللي كانت نفسها تعمله، وأعملها عمرة».