العراق .. لعنة الجغرافيا والتاريخ
تاريخ النشر: 12th, February 2024 GMT
كتب: علي البيدر
من سوء حظ العراقيين أن بلدهم يقع في المسافة الفاصلة بين المعسكرين الشرقي والغربي، اي في الارض الحرام التي تمثل مسرحا لجرائم بشعة في الحروب والمعارك ومناطق اضطرابات وفوضى مستمرة يصعب تجاوزها او جعلها محطة راحة واستقرار.
اذ يحاول الشرقيون جرنا إلى خانتهم او جعلنا حائط صد وهكذا يفعل الغربيون وفق ايدلوجيا حادة جعلت المواطن العراقي والتيارات السياسية والمجتمعية تكون الأكثر تطرّفا في المنطقة والعالم ربما.
عندما تلقي نظرة على شخصية الفرد العراقي نخبويا ، ستجده حاد الميول والانتماءات فشيوعينا اكثر شيوعية من كارل ماركس وعربينا اكثر قومية من زكي الارسوزي وشيخ عشيرتنا يتصور نفسه انه يعيش في عمق التاريخ ويريد فرض واقع معين على مرحلة لا تتلاءم معه دافعا المجتمع إلى عمق النفق.
وحين نتحدث عن متدينينا فيتصور أصغرهم انه الحاكم بأمر الله . اما ملحدنا فيريد تجريد الآخرين من دينهم غير مكتفياً بتركه للدين وحده ، فها هو يبشر بالحاده جهارا نهاراً. كل تلك الاتجاهات المتناقضة وجدت في هذه الجغرافيا المعقدة التي جعلت من العراقيين رؤوس حراب لتنفيذ اجندات ليس للعراق ناقة او جمل فيها.
ولم تكتف الجغرافيا لوحدها في فرض واقع معقد على ارض بلاد الرافدين , بل للتأريخ هو الاخر الدور الاكبر في رسم الاحداث التي تعيشها البلاد اليوم بعد توريث سلسلة من الصراعات والعقد المختلفة التي توارثها الجيل الحالي من العراقيين دون غيرها من جينات اجدادهم. إن أحداث أول حرب مدوّنة في التاريخ كانت بين بلاد سومر وعيلام عام 2700 قبل الميلاد؛ رغم الاعتقاد في أنه كانت هناك مواجهات عسكرية لم يتم تدوينها قبل ذلك التاريخ .
عند هذه النقطة أدرجت الحرب في النظام السياسي لبلاد الرافدين والتي كان للجغرافيا الدور الاكبر في صناعتها بعد التنافس على الموارد الطبيعية ومواقع المناخ المناسب للسكن.
اذ تقدم النقوش والكتابات والأعمال الفنية والقطع الأثرية الأدلّة عن نشوب نزاعات مسلّحة بانتظام في مناطق مختلفة من بلاد الرافدين قبل صناعة التاريخ وكأن هذه الارض تمثل حلبة نزال للبشرية او ان من يتواجد عليها مسخر للحرب لا للعيش .
حيث اهتم العراقيون القدامى بتفاصيل الحروب عبر تخليدها في نفوس الشعب من خلال بناء النصب التذكارية كما حصل بعد انتصار “إنّاتوم” ملك مدينة لگش على "أوش" ملك مدينة أومّا وهذا ما يؤشر اهمية الحروب والمعارك في نفوس المجتمع الذي تعايش معها وكأنها جزء منه برغم عدم معرفته بفنون الحرب وتنظيم الجيوش كما في الحروب الاكدية التي كانت تخوض غمارها الميليشيات أو فصائل المحاربين المتطوعين وهو ما يؤكد ان هذه الاض قد عرفت وتعاملت مع مفهوم المليشات قبل التاريخ لتبدأ سلسلة حروب وصراعات قامت على انقاضها امبراطوريات تقدس المعارك والقتال كما في الحروب الآشورية التي برروها باعتبارها إرادة الآلهة راعية للجيوش .
لكن الحروب على ارض السواد امتدت إلى ما ابعد من ذلك حيث احتضنت ارض العراق " الكلاسيكو" العالمي للحروب قبل ان يرى الميلاد النور والتي دارت رحاها بين الإمبراطورية الأخمينية، وجيش الإسكندر الأكبر , لتبدأ فيما بعد مراحل عديدة من الصراع في حقب ما بعد التأريخ بدءًامن الفتح الاسلامي الذي استمر في توريث الصراعات من عهد الخلفاء الراشدين حتى الامويين والعباسيين الذين انتهى حكمهم بإجتياح مغولي قضى على مركز السلطة لعاصمة العالم بغداد حينها .
اما التأريخ الحديث فهو الاخر يخبرنا بالحروب والصراعات التي حصلت في العراق بعد تناوب الفرس والاتراك السيطرة على البلاد قبل ان يحسمها الاحتلال العثماني الذي جثم على صدور بلاد الرافدين لأربعة قرون قبل تسليمها للبريطانيين الذين اسسوا الدولة المعروفة اليوم بأسم العراق واستوردوا لها حاكمًا تحت عنوان الملك الذي جاء من خلف الحدود في مشهد شبيه بما حصل في العام 2003.
منح المحتل الاستقلال للعراق العام 1932 بناء على إلحاح الملك فيصل، على الرغم من الإبقاء على القواعد العسكرية البريطانية وحقوق العبور لقواتها , لتشهد البلاد مرحلة استقرار استمرت لتسع سنوات قبل ان يعكر صفوها انقلاب رشيد عالي الكيلاني وهو ما اجبر المملكة المتحدة على غزو العراق ثانية واستعادة الملكية, وبقي الاحتلال العسكري البريطاني حتى العام 1947 .
وكما هو مكتوب على العراق لم يستمر الاستقرار اكثر من عقد قبل ان تدخل البلاد في نفق الحروب والصراعات عبر انقلاب عبدالكريم قاسم الذي لم يدم حكمه اكثر من 5 سنوات قبل ان يعقبه انقلاب عارف الذي لم يدم هوى الاخر سوى 6 سنوات لتبدأ حقبة البعث المعروفة بصراعاتها الداخلية والخارجية قبل ان تسلم البلاد للامريكان لتنطلق مرحلة جديدة من الصراع لم تنته حتى يومنا هذا .
والمتتبع لتاريخ العراق منذ ان عرفت البشرية هذه البقعة من العالم سيجدها موطن للصراعات والحروب التي جعلت كل من يسكنها يكابد الامرين نتيجة ذلك وكأن العراقيين يدفعون ثارات ارتكبتها امم سالفة ضمن جغرافيا تتقاطع عندها جميع الايدلوجيات والثقافات وتنتهي فيها اقطاب العالم المتصارع فوق رؤوس العراقيين بعد فشل قادة اليوم والامس في ابعاد البلاد والعباد عن الصراع او تغيير مجراه لمكان آخر.
المصدر: وكالة بغداد اليوم
كلمات دلالية: بلاد الرافدین قبل ان
إقرأ أيضاً:
ضمن سياسة تفكيك الجغرافيا الفلسطينية وضغطًا على «حماس».. إسرائيل تمحو رفح من الخريطة وتحولها لمنطقة عازلة
البلاد – رام الله
يمضي الاحتلال الإسرائيلي في خطواته لابتلاع مزيد من أراضي قطاع غزة، إذ كشفت مصادر عبرية أن جيش الاحتلال يستعد لتحويل مدينة رفح والأحياء المحيطة بها إلى منطقة عازلة يُمنع السكان من العودة إليها، مع تسوية المباني بالأرض بالكامل، ما يعني فعليًا محو المدينة الفلسطينية من الوجود.
وتقع المنطقة التي تبلغ مساحتها 75 كيلومترًا مربعًا بين محوري فيلادلفيا وموراج، وكانت قبل الحرب موطنًا لحوالي 200 ألف فلسطيني. لكن العمليات العسكرية الإسرائيلية المكثفة، خاصة بعد انتهاء وقف إطلاق النار الأخير، دفعت ما تبقى من السكان إلى النزوح قسرًا، بعد تلقيهم إنذارات بالإخلاء نحو مناطق تُوصف بـ “الإنسانية” في خان يونس والمواصي. وتشير شهادات ميدانية إلى أن القوات الإسرائيلية دمّرت خلال الأسابيع الماضية أعدادًا كبيرة من المنازل والبنى التحتية، ما يجعل العودة شبه مستحيلة.
اللافت أن هذه هي المرة الأولى التي يتجه فيها الجيش الإسرائيلي إلى ضم مدينة فلسطينية كاملة إلى “المنطقة العازلة” التي بدأت تتشكل على طول حدود غزة منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023. وتشير مصادر أمنية إسرائيلية إلى أن القرار يستند إلى توجيهات سياسية عليا باستمرار الحرب، وتعزيز السيطرة على “مناطق واسعة” من القطاع، في محاولة لفرض واقع جديد يخدم مصالح الاحتلال ويقلّص قدرة الفصائل الفلسطينية خاصة حركة حماس على إعادة تنظيم صفوفها.
وبحسب تقارير استخباراتية أوردتها “هآرتس”، يعمل جيش الاحتلال على توسيع محور موراج وتدمير المباني المحيطة به، ليصل عرض المنطقة العازلة في بعض المواقع إلى أكثر من كيلومتر واحد. ويجري النظر في إبقاء رفح بأكملها منطقة محظورة على المدنيين، أو تدميرها بالكامل، في سيناريو يعكس ما جرى في مناطق واسعة من شمال القطاع.
ومع بداية الحرب في أكتوبر 2023، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي عن نيته إنشاء منطقة عازلة على طول حدود قطاع غزة من شأنها إبعاد التهديدات عن المستوطنات المحيطة إلى مسافة تتراوح بين 800 متر إلى 1.5 كيلومتر. هذه منطقة تبلغ مساحتها نحو 60 كيلومترا مربعا، أي أكثر من 16% من أراضي قطاع غزة، والتي كان يعيش فيها نحو ربع مليون غزي حتى السابع من أكتوبر. وكشف تقرير لمركز الأقمار الصناعية التابع للأمم المتحدة، نُشر في أبريل من العام الماضي، أن نحو 90% من المباني في المنطقة العازلة قد دمرت أو تضررت.
هذا التوسع في رقعة المناطق العازلة يحمل تداعيات خطيرة، ليس فقط لكونه يبتلع نحو خمس مساحة القطاع عبر رفح وحدها، بل لأنه، مضافًا إلى المناطق المحيطة بمحوري موراج وفيلادلفيا، والمنطقة الشرقية القريبة من مستوطنات الغلاف، يضع إسرائيل فعليًا في موقع السيطرة على أكثر من نصف أراضي غزة.
النتيجة المباشرة لهذا المخطط هي تفكيك الجغرافيا الفلسطينية وتحويل القطاع إلى جزر معزولة أو “كنتونات” لا يمكن العيش فيها بكرامة. كما أن إغلاق رفح، بوصفها المعبر البري الوحيد مع مصر، يرسّخ خنق القطاع وحرمانه من أي أفق للتنفس.
في ظل صمت دولي مريب، تتواصل عملية محو رفح وتهجير سكانها، في خطوة يرى فيها محللون تصعيدًا غير مسبوق، يهدد مستقبل القطاع بكامله، ويقوّض أي إمكانية لحل سياسي عادل في الأفق.