الروائي حسونة المصباحي: ثرت على الحبكة وانتصرت للريف التونسي المهمش
تاريخ النشر: 12th, February 2024 GMT
يشكل الكاتب والروائي حسونة المصباحي حالة فريدة داخل الوسط الثقافي العربي نظرا لأن مختلف أعماله القصصية ونظيرتها الروائية تجعل من الواقع التونسي مختبرا للتفكير، بل إن أدب المصباحي عبارة عن خطاب أدبي ينتصر للهامش وعوالمه المتخيلة.
كما أنه خطاب لا يعيد اجترار الأشكال الأدبية وقوالبها الفنية، بل يقوم على بنية أدبية متماسكة تثور على الأشكال الأدبية التقليدية، ويجد القارئ لمختلف أعماله الروائية هذا النوع من النزوع صوب شكل جمالي لا يعترف بـ"الحبكة" الروائية.
هذا النوع من الكتابة الذي تنتفي فيه بعض شروط العمل الروائي لكنه يقدم نفسه ككتابة حرة ومتحررة من ربقة الأساليب القديمة، ذلك إنها نمط من تجريب الكتابة المفتوحة والعابرة للأجناس الأدبية وفنونها.
زاوج صاحب "كتاب التيه" بين الكتابة الروائية والقصة والنقد وأدب الرحلة، وانتقل بين مختلف هذه الأجناس الأدبية كما لو أنه ينتقل من بادية تونس صوب جغرافيات مختلفة من العالم.
هذا التعدد الذي مارسه حسونة منذ بواكيره الأولى جعله كاتبا محبوبا لدى قرائه ويمتلك قدرة هائلة على الحكي والتنقل بين جنس وآخر، وفي هذا الحوار تقف الجزيرة نت عند حدود تجربة حسونة المصباحي ومدى علاقتها بالبيئة التونسية وأحوالها:
تعدد أدبي أولا، كيف تعيش هذا التعدد بين كتابة القصة والرواية والنقد الأدبي والرحلات؟لست الوحيد في هذا التعدد، كثير من الكتاب العرب والأجانب برعوا في مجالات مختلفة فكتبوا القصة والرواية وأدب السيرة وأدب الرحلة والمسرح وغير ذلك، ولعلي من سلالة هؤلاء، وقد بدأت بكتابة القصة، ونلت شهرة بفضل هذا اللون الأدبي داخل بلادي وخارجها، وترجمت العديد من قصصي إلى اللغتين الألمانية والإنجليزية وحزت على إعجاب القراء والنقاد.
وواحدة من هذه القصص وهي بعنوان "السلحفاة" اعتبرتها لجنة جائزة "كاين" التي كان يرأسها الكاتب الكبير كوتزي (الحائز على جائزة نوبل للآداب) واحدة من أفضل 5 قصص في القارة الأفريقية، وكان ذلك سنة 2000.
وكان عليّ أن أنتظر سن الأربعين لكي أكتب روايتي الأولى "هلوسات ترشيش"، وبعدها لم أتوقف عن كتابة الرواية، ومؤخرا عدت إلى كتابة القصة القصيرة وسوف تصدر قريبا في مجموعة.
وبحكم عملي صحفيا سافرت كثيرا، ومن وحي تلك الأسفار كتبت نصوصا عن مدن وعن بلدان زرتها، عربية وأجنبية، وقد صدرت هذه النصوص في كتاب بعنوان "كتاب التيه"، كما كتبت في أدب السيرة وفي النقد وفي أدب اليوميات، وكل هذا لاستيعاب عوالم مختلفة وتجارب متعددة عشتها في حياتي.
"كتاب التيه" يضم أسفار ويوميات رحلات حسونة المصباحي (الجزيرة)وليس لي تفسير واضح لهذا التعدد، فقط أقول إني أنجدب إلى كل هذه الألوان الأدبية لأنها توفر لي فرصة لا يمكن أن يوفرها لي لون أدبي واحد، أحب أن أكون بألوان مختلفة ومتعددة مثل طيور الجزر، هكذا أنا.
البيئة التونسية وأحوالها في مجمل أعمالك الأدبية تأخذ البيئة التونسية أهمية بالغة على مستوى الفضاء والخطاب والشخصيات.. إلى أي حد يستطيع الأديب أن يخلق نوعا من التماهي بين الذات والواقع والتاريخ؟كل كاتب أصيل هو ابن بيئته فلا ينفصل عنها أبدا.
ومبكرا اكتشفت أن الأدب الحقيقي ينبثق من تربة ومن بيئة هذا الكاتب أو ذاك ليكون عاكسا لواقع ولتاريخ ولثقافة ولعادات وتقاليد.
فمن خلال هوميروس نحن نتعرف على بلاد الإغريق في العصور القديمة، ومن خلال ثيربانتس نتعرف على إسبانيا في عصر النهضة، ويمكننا أن نحصل على صورة حية عن روسيا في القرن الـ19 من خلال قصص وروايات تشيكوف وتولستوي ودستويفسكي وغوغول وتورغينييف وغيرهم.
وكان الفيلسوف الألماني كارل ماركس يقول إن روايات الكاتب الفرنسي بالزاك هي أفضل ما يمكن الاستناد إليه للتعرف على المجتمع الفرنسي في زمن بروز البورجوازية الرأسمالية.
و"ثلاثية" نجيب محفوظ تقدم لنا صورة حية عن المجتمع المصري بين ثورة 1919 ونهاية النظام الملكي في مطلع الخمسينيات، وأنا حرصت منذ البداية على أن تكون قصصي ورواياتي نابعة من القرية الصغيرة التي فيها ولدت ونشأت ومن واقع بلادي وتاريخها القديم والحديث ومن واقعها في مختلف تجلياته وأشكاله وتضاريسه.
وقد عشت فترة طويلة بعيدا عن بلادي إلا أني لم أنفصل عنها أبدا، بل كانت ولا تزال تسكنني، ومنها أستوحي كل قصصي ورواياتي، ولعلي نجحت في ذلك إلى حد بعيد.
الأدب وسؤال الهامش مجموعتك القصصية "جنون ابنة عمي هنية" حققت لك شهرة واسعة وساهمت بتكريسك كواحد من الأدباء المنشغلين بمفهوم الهامش داخل الأدب التونسي.. كيف تنظر إلى هذا النوع من الأدب؟ وما قيمته وخصائصه الفنية والجمالية؟قبل صدور مجموعتي "حكاية جنون ابنة عمتي هنية" كانت القصة التونسية حبيسة المدن الكبيرة، خصوصا العاصمة، وجل شخوصها بورجوازيون صغار يعيشون القلق والحيرة والاضطرابات النفسية.
ونادرا ما قرأت في تلك الفترة، أي الستينيات والسبعينيات قصة تدور أحداثها في الأرياف، حتى أن الكتاب القادمين من الأرياف كانوا يعتقدون أن الكتابة عنها فعل عقيم، بل قد يكون مخالفا للأدب في معناه الحقيقي، لكأن سكان الأرياف كائنات غبية وحقيرة وسطحية لا تستحق الاهتمام.
عدت إلى قريتي في شتاء 1978 هاربا من أجواء العاصمة ومن أمراض مثقفيها، وانتبهت عندئذ إلى أن قريتي يمكن أن تكون فضاء للعديد من القصص التي كانت تختمر في ذهني
وأذكر أني عدت إلى قريتي في شتاء 1978 هاربا من أجواء العاصمة ومن أمراض مثقفيها ومن شعارات اليساريين الفارغة، وعلى مدى 3 أشهر غرقت في قراءة مؤلفات كبار الكتاب الروس والأميركيين وانتبهت عندئذ إلى أن قريتي يمكن أن تكون فضاء للعديد من القصص التي كانت تختمر في ذهني.
ولما نشرت قصتي الأولى في جريدة الصباح اليومية وجدت في الحين تجاوبا كبيرا من قبل القراء، إذ إنهم وجدوا فيها ما كشف لهم عن واقع كان مغيبا ومحتقرا ومهملا من قبل الكتاب ورجال المسرح والسينما وغيرهم.
وقد ازداد القراء إعجابا بقصصي لما صدرت في مجموعتي "حكاية جنون ابنة عمي هنية" التي شكلت منذ ذلك الحين وثيقة مهمة عن الريف في الوسط التونسي وعن واقعه وعن عاداته وتقاليده.
والحقيقة أني كنت منذ البداية منحازا إلى أدب الهامش وإلى كتّاب ينتصرون في أعمالهم إلى المهمشين والمهملين والمنسيين والضائعين في دروب الحياة الشائكة والمتشابكة.
النص المفتوح ثمة شيء مثير للانتباه في عدد من أعمالك الروائية، ويتمثل في خصوصية النص الروائي الذي تكتبه.. كيف اهتديت ووعيت ذاتك من خلال مفهوم النص المفتوح العابر للأجناس؟الكتابة حرة أو لا تكون، وأنا حرصت منذ البداية على أن أكون دائم التمرد على كل أشكال التقيد بأسلوب محدد أو بطريقة معينة في الكتابة، وكنت وما زلت أسخر من الذين يتحدثون عن الحبكة في الرواية أو في القصة.
لذلك تجدني دائما بصدد البحث عن شكل جديد يتلاءم مع القصة أو مع الرواية التي أكتبها، بل قد تجد في هذه القصة أو في هذه الرواية مزيجا من الأشكال المختلفة في الكتابة، ومن التقنيات المستوحاة من الأدب الشفوي أو من كبار الكتاب الحداثيين من أمثال جويس وفوكنر وغابرييل غارسيا ماركيز وغيرهم.
ويحلو لي كما هو حالي في روايتي الجديدة "ليلة حديقة الشتاء" أن يكون شخوصي واقعيين لا متخيلين.
لذا يحضر "الكاتب العاري" الذي قد يكون محمد شكري، و"الشاعر العراقي الحزين" الذي قد يكون عبد الوهاب البياتي، و"مهيار الدمشقي" الذي قد يكون أدونيس.
وهناك من احتفظت بأسمائهم مثل الفنان التونسي فاضل الجزيري الذي ترتبط مسيرته الفنية بأهم مراحل التاريخ التونسي منذ الاستقلال وحتى هذه الساعة.
وأنا أحاول أن تكون رواياتي متنوعة في مواضيعها في أساليبها الفنية واللغوية وغيرها، ولا أتوقف عند رواية أحداث بل أذهب بعيدا لاستحضار أعمال فلسفية وروائية وشعرية وسينمائية لها تأثير على الشخوص.
الحبكة لا تهمني ولا أفكر فيها إطلاقا وأنا أكتب، ولا أرى أنها شرط أساسي في الكتابة الروائية كما يزعم ذلك كثيرون في العالم العربي، وأنا أسأل: أين الحبكة في "أوليسيس" جيمس جويس، وفي جل روايات هنري ميللر، وفي "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست وفي العديد من الأعمال الروائية الأخرى؟
ألا تخاف من ضياع مفهوم الحبكة الروائية التي قد تعتبر شرطا أساسيا في الصناعة الروائية المعاصرة؟لقد سبق أن ذكرت أن الحبكة لا تهمني ولا أفكر فيها إطلاقا وأنا أكتب، ولا أرى أنها شرط أساسي في الكتابة الروائية كما يزعم ذلك كثيرون في العالم العربي.
وأنا أسأل: أين الحبكة في "أوليسيس" جيمس جويس، وفي جل روايات هنري ميللر، وفي "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست وفي العديد من الأعمال الروائية الأخرى؟
لذلك، أنا أعتقد أن الحبكة ليست شرطا، ولا يمنحها أهمية إلا من تعودوا على الرضوخ وليست لهم القدرة على التمرد وعلى القدرة على الخلق والابتكار، لذا هم يرتبكون ويفقدون الصواب حالما يجدون أنفسهم خارج القطيع، أن يشغل الكاتب نفسه بالحبكة يجعله في النهاية حبيس السطح بحيث لا يمكنه أن يذهب بعيدا في الابتكار.
جماليات أدب الرحلة إلى جانب الرواية، كتبت مجموعة من المؤلفات في أدب الرحلة، وتتمتع هذه النصوص بجاذبية خاصة.. ما السر وراء تعلقك الدائم بأدب الرحلة؟ وإلى أي حد يمكن اعتباره أدبا؟أدب الرحلة قديم في الأدب العربي، وهناك مؤلفات عظيمة في أدب الرحلة مثل رحلة ابن بطوطة ورحلة ابن فضلان، وكانت جل أعمال الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي ثمرة تجارب روحية قام بها خلال رحلاته الكثيرة من الأندلس إلى بلاد المشرق، ويمكن اعتبار "المقامات" ثمرة رحلات متخيلة أو حقيقية.
وويزخر كتاب "ألف ليلة وليلة" بعشرات الرحلات الغريبة والعجيبة، وفي العصر الحديث نحن نجد كتابا كبارا استوحوا مواضيع أعمالهم الروائية والقصصية من خلال رحلاتهم عبر العالم.
وهذا ما فعله أندريه مالرو في روايته "الوضع البشري" المستوحاة من رحلته إلى بلدان آسيوية.
ونجد تأثير الرحلات أيضا في رائعة مالكون لاوري "تحت البركان"، وفي قصص وروايات همنغواي ولوي فارديناد سيلين وبريس شاتوين وغيرهم، وأنا استفدت كثيرا من أسفاري من الناحية المعرفية، وفي كل رحلة أقوم بها إلى هذه المدينة أو تلك أحاول أن أنفذ إلى تاريخها وإلى ما تختزنه في تاريخها من أحداث ومن أعمال فنية وفكرية وغيرها.
معنى هذا أني لا أسافر كسائح يكتفي بزيارة المعالم التاريخية والتجول في الحدائق والشوارع، بل أحاول أن تكون رحلتي معرفية أولا وأخيرا.
لذلك، حين أسافر أحمل معي كتبا عن هذه المدينة أو تلك لتكون غذائي الروحي أثناء طوافي فيها، ولعل أجمل ما كتبت في أدب الرحلة كان عن رحلتي إلى الأندلس وعن زيارتي لقرية فوانتا فاكيروس حيث ولد فريدريكو غارسيا لوركا، كما أعتبر كتابي "الرحلة المغربية" الذي فيه دونت أحداثا ومراحل مهمة في تاريخ وفي ثقافة المغرب من أهم كتبي على جميع المستويات.
رواية "نوارة الدفلي" تضم مجموعة من الحكايات أبطالها نساء (الجزيرة) إلى أي حد ساهمت غربتك في المنفى لسنوات طويلة في تحقيق نوع من التكامل الأدبي بين ما نتعلمه من الكتب وما يقترحه علينا الواقع اليومي من تصورات؟في العديد من الحوارات التي أجريت معي أشرت إلى أني أصبحت كاتبا بالمعنى الحقيقي للكلمة في غربتي الألمانية، إذ تمكنت من التعرف على ثقافات العالم ومن التوحد بنفسي بعيدا عن الأجواء التونسية الخانقة حيث تكثر الثرثرة الفارغة والصراعات المدمرة ويكاد ينعدم الجدل المفيد والعميق.
كما أدركت الأبعاد الحقيقية للكتابة والثقافة بصفة عامة لأستفيد من الموسيقى من المسرح ومن الفنون التشكيلية ومن السينما بالخصوص.
وفي الغربة تعلمت أن أكون نفسي أولا وأخيرا، لذا عندما عدت إلى قريتي بعد غياب طويل وجدت نفسي محملا بتجارب مهمة جعلتني قادرا على مواصلة العمل في الصمت والوحدة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: فی الکتابة العدید من من خلال قد یکون أن تکون عدت إلى فی أدب
إقرأ أيضاً:
الربيع التونسي.. كيف أضعفت الأزمة الاقتصادية الديمقراطية؟
بلال مرزق.. باحث وناشط سياسي ـ أكاديمية المجلس العربي
مثلت الثورة التونسية تجربة فريدة من نوعها هي الأولى في العالم العربي والتي كانت بمثابة رياح عاتية اهتزت لها قلاع الديكتاتورية والتي طالبت بالحرية، وطالبت بالكرامة وبإقامة نظام حكم جديد أساسه الديمقراطية. ونجاح الثورة التونسية من خلال تتويجها في 14 كانون الثاني / يناير 2011 بسقوط نظام بن علي وهروبه طالبا اللجوء من المملكة العربية السعودية هو والعديد من أفراد عائلته مثل مصدر إلهام لبعض بلدان العالم العربي في انتشار "عدوى" الثورة على الأنظمة الديكتاتورية والمطالبة كذلك بحقهم في الحرية والديمقراطية والتغيير، حيث برهنت الثورة التونسية أن التغيير ممكن وأن حلم الديمقراطية قابل للتحقق في البلدان العربية وهذا ما أدى إلى وصول شرارة الاحتجاجات إلى ليبيا ومصر وسوريا واليمن والسودان، وحفزتهم لافتكاك حريتهم كشعوب تتوق إلى التحرر..
إن رمزية الثورة التونسية مهمة جداً بصفتها البذرة الأولى في مسار التغيير، وهي من تجر قاطرة بقية دول الربيع العربي، ونجاح تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس سوف يعود إيجابا على بقية دول الثورات العربية لتكون مصدر إلهام ونموذج يحتذى به ورسالة مفادها أن حلم الديمقراطية في البلدان العربية أمر ممكن وليس بالأمر المستحيل.. والعكس صحيح فإن فشلها سيفشل بقية الثورات وقد يصيب هذا العصب الثوري الشعبي بالارتخاء والضمور فمصدرة ثورات التحرر العربي قد تلهم بقية الدول سلبا أو إيجابا.
لكن للأسف الشديد، وبعد قرابة عشر سنوات على اندلاع شرارة الثورة في تونس، عرفت الثورة التونسية انتكاسات كبيرة وعديدة على جميع المجالات وعلى عدة مستويات ولم تترسخ ثقافة الديمقراطية وتتغلغل داخل عقل الشعب التونسي ولم نلاحظ أو نلمس أثرا واضحا لالتصاق ثقافة الديمقراطية بالمواطن التونسي وربما هناك من "ارتد عنها أو كفر" بها، أو انكسرت في مخيلته تلك الصورة التي مفادها أن الثورة ستكون ذلك الحل السحري للعديد من مشاكل الشعب التونسي وعلى رأس تلك المشاكل المسائل المتعلقة بالتقدم والازدهار الاقتصادي والرخاء الاجتماعي بالأساس.
إن رمزية الثورة التونسية مهمة جداً بصفتها البذرة الأولى في مسار التغيير، وهي من تجر قاطرة بقية دول الربيع العربي، ونجاح تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس سوف يعود إيجابا على بقية دول الثورات العربية لتكون مصدر إلهام ونموذج يحتذى به ورسالة مفادها أن حلم الديمقراطية في البلدان العربية أمر ممكن وليس بالأمر المستحيل.. والعكس صحيح فإن فشلها سيفشل بقية الثورات وقد يصيب هذا العصب الثوري الشعبي بالارتخاء والضمور فمصدرة ثورات التحرر العربي قد تلهم بقية الدول سلبا أو إيجابا.وبالعودة إلى الوراء قليلا، وعندما نقرر مراجعة مسار الثورة التونسية نجد العديد من الأسباب المختلفة تقف وراء هذه الانتكاسة الثورية وربما مجالها الأساسي أسباب اقتصادية، بمعنى آخر؛ أي عدم تحقق إنجازات اقتصادية ملموسة تجعل من الشعب التونسي عموما يؤمن بأن الثورة هي حقا باب للإصلاح والرفاهية ويعمق إيمانه بها.
صحيح أن تونس والطبقة السياسية الحاكمة بعد الثورة كانت مركزة بشكل كبير على تثبيت أعمدة الديمقراطية من خلال مؤسسات دستورية قوية تضمن توزيع السلطة، وتضمن عدم استفراد أي جهة بالحكم بهدف تحصين الثورة وضمان عدم عودة حكم الفرد الواحد وإقامة مؤسسات دستورية مستقلة تدعو لتدعيم آليات الرقابة، لكن كل ذلك كان على حساب المسألة الاقتصادية التي كانت مهمة ومفتاح من مفاتيح نجاح أولى ثورات الربيع العربي، لكن للأسف ولعدة أسباب فإن عامة الشعب لم يلمسوا استفادة واضحة وملموسة من ثورة الحرية والكرامة بحيث يقتنع بأن الثورة ستحقق له كرامته في قوت عيشه.
والمتتبع جيدا لمختلف مراحل الثورة التونسية يستطيع أن يفهم الأسباب المختلفة الكامنة وراء هذا الإهمال، أي إهمال الجوانب الاقتصادية، أو لنقل هذا الإخفاق نحو تحقيق نجاحات اقتصادية ملموسة تجعل من المواطن التونسي يؤمن بأنها حقا ثورة كرامة فتقوى بذلك ركائز ودعائم الإيمان الثوري لدى الشعب، وبأنها ثورة حقيقية وفي صالح المواطن التونسي وليست ثورة صورية لا طائل منها.
وهذا الإخفاق في المنجز الاقتصادي يعود لعدة أسباب أدت إلى عدم بناء اقتصاد يتماشى وطموح التونسيين، والاهتمام بالجوانب الاجتماعية التي من شأنها أن تمثل أعمدة صلبة تقوى بها الديمقراطية، فما هي أبرز الأسباب التي أدت إلى عدم تحقيق نتائج اقتصادية تصب في صالح تثبيت دعائم الثورة؟
التركيز المفرط على الجانب السياسي على حساب الجانب الاقتصادي
إن الطبقة الحاكمة ما بعد 2011 والأحزاب التي نالت ثقة التونسيين في أول انتخابات ديمقراطية بعد الثورة التونسية وخاصة منها حركة النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتل الديمقراطي (أو ما يعرف بالترويكا الحاكمة) كانوا مسكونين بهاجس واحتمالية عودة الديكتاتورية وركزوا بشكل كبير على ما اعتبروه أولوية قصوى نحو حماية الديمقراطية وتحصينها دستوريا وعبر نظام حكم تكون فيه السلطة موزعة بين السلطات الثلاثة مما يحقق مبدأ الرقابة بين السلط خوفا من عودة الديكتاتورية، خاصة وأنهم يعلمون جيدا حجم فظاعة الأنظمة الديكتاتورية وهم الذين قاوموها وقاوموا ظلمها راكضين وراء حلم الديمقراطية خائفين من ضياع ذلك الحلم بعد أن تحقق، وساعين لتحويل ذلك الحلم الفتي الى حلم متين يضمن عدم ارتداد هذه الثورة. فكانت الخطوة الأولى صياغة دستور يضمن عدم عودة الديكتاتورية، ويكون فيه توازن في توزيع السلطة والابتعاد عن النظام الرئاسي، وخاصة منه الرئاسوي، الذي يعطي السلطة المطلقة لرئيس الدولة وجعلت من النظام البرلماني أساسا لذلك.
كما أنها ركزت على بناء مؤسسات دستورية قوية تضمن تفعيل آلية الرقابة بين السلط، كما أنها سعت لتركيز مؤسسات دستورية تعنى بكشف وفضح جرائم النظام السابق وما ارتكبته آلة القمع من جرائم في حق معارضي النظام الحاكم عبر تركيز هيئة الحقيقة والكرامة.
وهذا يبرز لنا الانشغال الشديد والهاجس الكبير الذي كان يسكن معارضي الأمس ومخاوفهم من ارتداد الثورة وعودة النظام السابق مركزين على المهم ومتناسين الأهم، والضامن الحقيقي لتحصين الثورة وصاحب الثورة الحقيقية ألا هو الشعب التونسي الذي كان يتطلع أكثر إلى إصلاحات أخرى خاصة اقتصادية تجعل منه ينسى ذلك "الرخاء الاقتصادي" الكاذب الذي كان يروج له النظام السابق، ولتركز الثورة بالانشغال أكثر على العدالة الاجتماعية والقضاء على التفاوت بين الجهات خاصة أن الثورة التونسية انطلقت من الجهات الداخلية التي كانت تعاني الفقر والتهميش والبطالة والتي كانت تتوق لرياح التغيير والمساواة بينها وبين بقية الجهات، لكن صدم كل ذلك الشباب الثائر بواقع يصفونه بمخيب للإنتظارات ومحبط للآمال، مما جعل إيمانهم يضعف وتعلقهم وحماسهم يبلى تجاه ثورتهم التي علقوا عليها آمالا كبيرة، وهذا ما أثر سلبا على المسار الديمقراطي ككل فحين يفقد أصحاب الثورة الحقيقيين ثقتهم تجاه ثورتهم تصبح ثورة بدون حماة وبدون حصانة ومكشوفة تجاه أي ريف تحاول العبث بها.
دور نقابي سلبي
لم توفر الجهة النقابية مناخا مناسبا لتطوير الاقتصاد كما أنها لعبت دورا سلبيا قائما على الاحتجاج وتعزيز مناخ الإضرابات مما ساهم في تعقيد الوضع الاقتصادي، ولم تمنح الثورة هدنة اجتماعية حتى تستعيد أنفاسها وتستجمع قواتها. كما أنها لم تلعب دورا توعويا أو تدفع نحو الإصلاح، بل كان دورا احتجاجيا مطلبيا مشطا في كثير من الأحيان ومبالغ فيه.
ولم تمنح الثورة هدنة اجتماعية، ولم تساهم في دفع عجلة الاقتصاد بل اقتصر دورها على الاحتجاج، والمطلبية المشطة التي كانت لا تتلاءم وطبيعة المرحلة، في الوقت الذي كانت البلاد تحتاج فيه إلى هدنة اجتماعية لسنوات، أو لنقل عقلنة المطلبية النقابية، لكنها كانت تحركات نقابية وصفت من قبل الكثير من المتابعين للشأن الوطني بأنها تحركات سياسية موجهة في اتجاه تعقيد الوضع الاقتصادي لإفشال الثورة ورموزها التي تقودها وهو دور وصف بغير البريء في اتجاه إحراج أحزاب ما بعد الثورة وخاصة منهم الإسلاميين، وعدم توفير مناخ مناسب للعمل والارتقاء بالاقتصاد التونسي، واتهام بعض قيادات اتحاد الشغل بأنهم يغرقون في الأيديولوجيا وأن جل القيادات النقابية كانت من رموز اليسار والقوميين الذين يعتبرون حكم الإسلاميين خطر على الدولة ـ حسب رأيهم ـ و يجب إسقاطهم وعرقلتهم بكل الطرق المتاحة.
عدم الاستقرار السياسي والتغيير الدائم للحكومات
من العناصر الأخرى التي ساهمت بشكل كبير في عدم تراكم الرؤية الإصلاحية هي مسألة عدم الاستقرار الحكومي، في بعض الأحيان لا تستمر فترة وجود بعض الوزراء في ذلك المنصب إلا أشهرا قليلة مما لا يسمح لهم ولا يعطيهم فرصة فهم الوضع الذي عليه تلك الوزارات وفهم طبيعة مشاكل ذلك القطاع حتى تنطلق عملية الإنتاج أو الإصلاح وكانت فترة ميزتها الأساسية التغيير السريع للوزراء والمديرين وحتى الولاة والمعتمدين فغابت المراكمة وترابط العمل، والأكثر سوءا من هذا أن كل وزير جديد يقطع مع عمل الذي سبقه، فهذا التذبذب والتغيير وعدم الاستقرار الوظيفي أدى إلى تشرذم الجهود وعدم مراكمتها في سبيل تحقيق نتائج ملموسة في بعض الوزارات والقطاعات.
الدور غير البريء للإعلام
طبعا لا يمكن أن ننكر أن هناك الكثير من المحاولات في اتجاه تحقيق مكاسب اقتصادية في كثير منها كانت إيجابية لكن كانت إصلاحات مدفونة لأن الإعلام لم يسلط عليها الضوء، بل على العكس من ذلك فقد ركز الإعلام وبشكل كبير وواضح على كل ما هو سلبي اقتصاديا واجتماعيا دون أي عملية تثمين لما هو إيجابي من قوانين وقرارات وجهود تصب في صالح تحسين وإصلاح الوضع الاقتصادي للشعب، فكانت هناك عملية تعتيم لهذه المكاسب ومحاولة قبرها وتسليط الضوء فقط على كل ما هو سلبي وكل ما له علاقة بالاحتجاج من قبل المواطن.. وهذا كان ملاحظا في أغلب البرامج الإعلامية ذات الطبيعة السياسية ما بعد الثورة في الإعلام التونسي الذي ركز فقط على الصراعات الحزبية والمسائل الأيديولوجية وتقزيم كل محاولة إصلاحية في أي اتجاه. بل على العكس تماما كانت عملية إخراج متقنة ضمن سيناريو محبوك في سبيل إظهار أن كل قرار سياسي متخذ هو قرار يصب في مصلحة البراغماتية السياسية لا في صالح قفة المواطن كما عبر عنه الكثير.
لم توفر الجهة النقابية مناخا مناسبا لتطوير الاقتصاد كما أنها لعبت دورا سلبيا قائما على الاحتجاج وتعزيز مناخ الإضرابات مما ساهم في تعقيد الوضع الاقتصادي، ولم تمنح الثورة هدنة اجتماعية حتى تستعيد أنفاسها وتستجمع قواتها. كما أنها لم تلعب دورا توعويا أو تدفع نحو الإصلاح، بل كان دورا احتجاجيا مطلبيا مشطا في كثير من الأحيان ومبالغ فيه.ومجمل القول إن هذا التقصير الاقتصادي البريء لا يعفي النخب السياسية ما بعد الثورة ومن حكموا البلاد ما بعد 2011 من مسؤوليتهم تجاه هذا الخلل مهما كانت الأسباب المتراوحة بين أعذار فيها ما هو موضوعي وفيها ما هو مسعى لتغطية تقصير جلي وواضح.
بهذا المعنى نفهم كيف أثر الجانب الاقتصادي والاجتماعي في إضعاف عقيدة الشعب تجاه ثورته، وكذلك أعطى فرصة لكل متربص بثورة الحرية والكرامة للنيل من هذه الثورة مركزا على هذا الجانب الحساس الذي يلامس كل مواطن بمختلف شرائح المجتمع واتجاهاتهم.
ولعل هذا الفهم هو ما أوصل التونسيين إلى ما حصل في 25 تموز / يوليو 2021 وحجم المقبولية التي وجدها الانقلاب على الدستور من قبل فئة لا بأس بها من فئات الشعب التونسي الذين اعتبروا أن تلك الإجراءات بحل البرلمان وتعليق العمل بالدستور، قد يمثل بابا من أبواب الإصلاح على مستويات عدة ومن بينها المستوى الاقتصادي رغم عاطفية وعدم واقعية هذا الرأي.
والأهم من هذا كله هو الاستفادة من هذا الدرس والتواضع تجاه أنفسنا أولا وأمام الشعب ثانيا لنقف وقفة مجردة من كل عاطفة أو انحياز ثوري بغاية فهم الواقع والاستفادة من الدرس وعدم تكرار مثل هذه الأخطاء وسد هذه الثغرات إذا استعاد التونسيون حلم الديمقراطية.
وخلاصة القول إن الثورة التونسية هي حدث على غاية كبرى من الأهمية لم يؤثر فقط في تونس بل أثر في العالم العربي كله، حيث تعبر هذه العدوى التي انتشرت للثورات في عدة البلدان العربية عن شوق هاته الشعوب للحرية وتحقيق حلم الديمقراطية.
لكن شهدت الثورة التونسية تعثرا كبيرا ولم تقدر على المحافظة على بريقها ولم تحقق أهدافها بل شهدت انتكاسات كبيرة وكانت هناك عديد العراقيل تشدها إلى الوراء ومن أبرز هذه العراقيل المسألة الاقتصادية التي كانت أحد أبرز أسباب فشل الثورة التونسية.
يعتبر التركيز المفرط على الجانب الحقوقي والسياسي والدور النقابي السلبي الذي لعبه أساسا اتحاد الشغل وعدم الاستقرار الحكومي والدور السلبي للإعلام أهم الأسباب التي أدت إلى عدم تحقيق نتائج اقتصادية ملموسة مما يساهم في تحسين أوضاع الشعب التونسي الاقتصادية ما بعد الثورة.
ويبقى الحل في وقفة تأمل ومصارحة حقيقية لتحمل مسؤولية هذا الفشل والسعي للاستفادة من أخطاء الماضي في سبيل التطلع لمستقبل أفضل، تكون فيه تونس بلد ديمقراطي، مزدهر اقتصاديا، يطيب فيه العيش، ويتسع لجميع التونسيين بمختلف توجهاتهم.
* باحث وناشط سياسي ـ أكاديمية المجلس العربي