هل تعكس وثيقة العدل والإحسان المغربية تدشينها لمراجعات سياسية علنية؟ (1من2)
تاريخ النشر: 12th, February 2024 GMT
الوثيقة السياسية للعدل والإحسان.. في تفسير السياق
من المثير للانتباه أن الجماعة وهي تعرض وثيقتها السياسية، حرصت على أن تجعل منها حلقة من حلقات التراكم في تطوير مشروعها السياسي، وساقت الوثيقة ضمن مسار من المبادرات والأوراق السياسية التي أصدرتها الجماعة بدءا من "حلف الإخاء" في دجنبر 2006، و"جميعا من أجل الخلاص" في دجنبر 2007.
تحرص الجماعة أن تجعل من هذه الوثائق امتدادا للمضمون السياسي لمذكرة الشيخ عبد السلام ياسين لمن يهمه الأمر (2000)، التي حددت فيها مطلبها للعهد الجديد (حكم الملك محمد السادس)، وتعتبر أن وثيقة ّحلف الإخاء" جاءت لتقدم تقييما للوضع السياسي المغربي، ولتطلق نداء من أجل "تأسيس جبهة واسعة لمواجهة الطغيان والاستبداد ولإيقاف النزيف والخراب المستشري بفعل المفسدين والمبذرين" (النداء)، وأن وثيقة نداء من أجل الخلاص هي استمرار لنفس المضمون، في الدعوة إلى تكوين جبهة سياسية تقطع مع الاستبداد وتدخل المغرب على المسار الديمقراطي الحقيقي.
لكن في الواقع، ينبغي التشكيك في رواية الامتداد والتراكم، وذلك من جهات عدة، أولها الفوارق الزمنية غير المطردة بين الوثائق الأربع، فما بين مذكرة الشيخ ياسين ووثيقة "حلف الإخاء" ست سنوات، وبين هذه الوثيقة ووثيقة جميعا من أجل الخلاص سنة واحدة، بينما تمتد المسافة الفارقة بين الوثيقة السياسية التي صدرت مؤخرا وبين آخر وثيقة جميعا من أجل الخلاص بحوالي 16 سنة. وإذا كان توالي وثيقة الإخاء والخلاص مفهوما في سياقه السياسي بالصدمة التي تلقتها الجماعة بعد رؤية 2006، وحاجة الجماعة إلى ترميم صورتها والخروج من عزلتها، بعد فشل سياسة الأبواب المفتوحة التي اضطلعت بالوظيفة التواصلية، فإن الفارق الزمني الطويل بين الوثيقة الأخيرة وبقية الوثائق، يطرح علامات استفهام كثيرة، حاولت الجماعة أن تقدم جوابا بشأنها (وجود وثائق داخلية)، لكن دون أن تجيب عن سؤال سبب عدم الإعلان، خاصة وأن من طبيعة الجماعة الوضوح، والخروج للعلن.
مؤكد أن وفاة الشيخ ياسين والخلاف الداخلي حول خط الجماعة التربوي والحركي والسياسي، كان وراء هذا التأخير، وربما لم يسلم ترتيب الإعلان عن الوثيقة من مراعاة هذه الاعتبارات، فالوثيقة تم إنضاجها شهورا قبل إصدارها، وارخت بأكتوبر 2023، ولم تصدر إلا في فبراير 2024.
التفسير الذي نميل إليه أن اللجوء إلى خيار الإعلان عن المبادرات، هو مرتبط أساسا بتدبير أزمات داخل الجماعة أكثر منه رغبة في طرح مبادرة سياسية، فإذا كان قصد وثيقتي "حلف الإخاء" و"جميعا من أجل الخلاص" هو محاولة الخروج من العزلة التي وقعت فيها الجماعة بعد رؤية 2006، وفشل الخيارات التي لجأت إليها للتفاعل مع تداعيات عدم تحقق هذه الرؤية، فإن الوثيقة السياسية، جاءت في سياق الجواب عن أزمتين اثنتين، تخص الأولى، تجديد العرض السياسي بعد فشل الجماعة في توجيه حراك 20 فبراير في اتجاه الحسم التاريخي مع الاستبداد، وتخص الثانية، تقديم خطاب سياسي موحد يعكس وجهة الجماعة بعد وفاة الشيخ عبد السلام ياسين، فطوال المدة التي فصلت الجماعة عن وفاة الشيخ ياسين، لم يتمكن الداخل التنظيمي للجماعة من توفير شروط إنتاج جواب موحد، بلغة سياسية موحدة، وهو التحدي الكبير الذي لم تنجح الجماعة طوال أكثر من عقد من الزمن في الجواب عنه.
لكن مع هذا التفسير، ينبغي الإشارة إلى ملاحظة جوهرية تتعلق بالفروق الكبيرة بين وثيقتي حلف الإخاء وجميعا من أجل الخلاص، والوثيقة السياسية، فالوثيقتان الأولى والثانية، اتجهتا إلى التأسيس لجبهة ديمقراطية تقطع مع الاستبداد، أي أنها أشبه ما تكوت بأرضية وميثاق يجتمع عليه الفضلاء الديمقراطيون، بينما الوثيقة الثالثة، هي أشبه ما تكون ببرنامج سياسي، يتضمن تشخيصا للوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بل تشخيصا قطاعيا، يسلط الضوء على الإشكالات الجوهرية في كل قطاع على حدة، ويقدم مقترحات وإجراءات برنامجية للمعالجة، وذلك على فاعلة ما تقوم به الأحزاب السياسية، وهوم ما يطرح سؤال الجدوى بعد أن كانت الجماعة في السابق، ترفض أن تسير في هذا الاتجاه.
الجماعة.. في الجدوى من البرنامج السياسي
عادة ما يرتبط البرنامج السياسي بالمشاركة السياسية ورغبة الحزب في تقديم عرضه السياسي، وأحيانا يكون التفكير في تقديم برنامج سياسي إحدى المقدمات الأساسية لتحول الفاعل المدني إلى حزب سياسي، لكن في حالة العدل والإحسان، ثمة غموض كبير يكتنف تفسير الجدوى من اللجوء إلى إنتاج وثيقة تحمل المضمون السياسي الذي يحمله البرنامج السياسي.
مرجع هذا الغموض عاملان اثنان، الأول أن العدل والإحسان عادة ما تنفي نيتها تأسيس حزب سياسي، وتشترط لذلك شروطا سياسية ودستورية تلخص هذه الوثيقة كثيرا من حيثياتها، وأما الثاني، فيعود لرفض الجماعة عبر أدبياتها، وبخاصة مرجعيتها التأسيسية (كتابات الشيخ ياسين) فكرة عرض البرنامج السياسي التفصيلي على شاكلة ما تفعل الأحزاب. فالجماعة منذ بدأ الحديث في أدبياتها عن فكرة الميثاق وأرضية الحوار مع الفضلاء الديمقراطيين، وهي تضع نضب عينها العموميات والمبادئ التي يمكن ان تجمع الطيف الديمقراطي المختلف لتنحية الاستبداد وحكم الفرد الواحد، وتعتبر أنه ليس من الصعب أو المستحيل أن يتداعى خبراء الحركة الإسلامية لإنتاج هذه البرامج التفصيلية، ولكنها ترى أن الوقت المتعين لذلك، هو يوم يكون الإسلاميون على عتبة الحكم.
عادة ما يرتبط البرنامج السياسي بالمشاركة السياسية ورغبة الحزب في تقديم عرضه السياسي، وأحيانا يكون التفكير في تقديم برنامج سياسي إحدى المقدمات الأساسية لتحول الفاعل المدني إلى حزب سياسي، لكن في حالة العدل والإحسان، ثمة غموض كبير يكتنف تفسير الجدوى من اللجوء إلى إنتاج وثيقة تحمل المضمون السياسي الذي يحمله البرنامج السياسي.وثيقة العدل والإحسان، تقول إن قصدها التفاعل مع الواقع بتحدياته وفرصه لبناء المستقبل، وترى أن ما تضمنته من مقترحات وإجراءات عملية وواقعية جاء في سياق تجنيب البلاد من الأخطار المحدقة، وأنها جاءت خيارا وسطا بين الخطاب الاستراتيجي العام وبين العرض التفصيلي التنفيذي.
استقراء الوثيقة يبين أن البعد الإجرائي يوجد بكثافة (777 إجراء)، ويبين في المقابل محدودية التنظير الاستراتيجي، بل محدودية الإحالة على الأبعاد الفكرية والاستراتيجية في مشروع جماعة العدل والإحسان، والاكتفاء بصياغات عامة، تذوب كثيرا من المفردات المركزية التي تعرف بها جماعة العدل والإحسان.
واضح من هذا الاختيار، أن الجماعة تحكمها اعتبارات داخلية صرفة، ولعلها تحاول أن تستبق الجواب عمن يمكن أن يعتبر هذه المحاولة كأنها تمهيد لإنشاء حزب سياسي، أو تستبق الجواب عمن يقول بأن تحولا قد وقع في موقف الجماعة منم رفض "التورط" في إنتاج البرامج السياسية التفصيلية، ولذلك اختارت هذا المنهج الوسط لتكست الانتقادات المفترض خروجا من الداخل، وخاصة من الجهة المحافظة التي تتوجس من أي تغيير أو تحول يطال المرجعية الياسينية في فكر الجماعة ومشروعها السياسي.
ما يفسر ذلك، أن مقدمة الوثيقة ربطت ربطا فغير مفهوم بين السياق الذي تندرج فيه الوثيقة، باعتبارها حلقة ضمن حلقات سابقة، وبين "رص الصف وتوحيد الجهود وبناء القوة المجتمعية" فمن الواضح جدا، أن المقصود بالصف ليس الصف الديمقراطي، أو الجبهة من أجل الخلاص، فهذا الصف لم يبن بعد حتى يتم رصه، والقوة المجتمعية التي تتحدث عنها الوثيقة مشروطا بخروج القوة الداعية للميثاق من عزلتها، وتسوية خلافاتها، وبناء جاهزيتها. ولذلك، أميل إلى تسمية هذه الوثيقة بالبرنامج السياسي لجماعة العدل والإحسان، واميل لتفسير تحفظ الجماعة عل تسميتها بهذا الاسم للدواعي الداخلية، وتجنبا لانتقادات القوة المحافظة داخل الجماعة التي لا تزال متمسكة بمواقف وأطروحات الشيخ ياسين ومنها تأكيده على فريضة الوقت بالنسبة للجماعة هو إعداد أرضية التقاء الفضلاء الديمقراطيين والتواصل بشأنها وتوضيحها لا بناء برنامج سياسي تفصيلي يعرض على الشعب بقصد إقناعه بالعرض السياسي للجماعة.
وإذا كانت طبيعة الوثيقة وهويتها تشبه أو تطابق البرنامج السياسي مع ملاحظات يمكن أن تبدى على الطابع المقتضب للتشخيص وعمومية كثير من الإجراءات المقترحة وتشابهها مع مقترحات بعض الأحزاب اليسارية والإسلامية، فإن السؤال الضروري المطروح هو وماذا بعد البرنامج السياسي؟ وهل تتهيأ الجماعة لتأسيس حزب سياسي؟ أم انها تعيد تكرار نفس تجربة حلف الإخاء 2006 وجميعا من أجل الخلاص 2007، أي تجربة الفشل في بناء الجبهة الديمقراطية الواسعة لمناهضة الاستبداد؟
ليس هناك من جواب نهائي، لكن، مدخل التحليل لا يمر من ملاحظة تطور الوثيقة والجهد المبذول فيها، والمراجعات التي دشنتها الجماعة من خلالها، وإنما يتم من خلال ربط كل ذلك، بحالة الجماعة الداخلية، وحراكها التنظيمي، والعلاقات البينية القائمة بين مناشطها الرئيسة لاسيما منها المنشط الدعوي والسياسي.
أربع مراجعات أساسية
مع الملاحظات الكثيرة على هذه الوثيقة يمكن أن نقر بحصول تطور مهم، نقرأه في ثلاث مستويات:
المستوى الأول، أن لغة الوثيقة، خارج المدخل التمهيدي، هي أقرب إلى لغة التداول السياسي الحديث، فقد بدا واضحا تركيزها على مفهوم الدولة المدنية، ودولة المؤسسات، ودولة المجتمع بدل مجتمع الدولة، وغيرها من الاصطلاحات التي يظهر بشكل كبير تأثير التخصصات العلمية القانونية والدستورية والحقوقية في صياغتها، إذ غابت في الوثيقة رهانات دولة الخلافة، والخلافة على منهاج النبوة، والقومة وغيرها.
وثيقة العدل والإحسان، تقول إن قصدها التفاعل مع الواقع بتحدياته وفرصه لبناء المستقبل، وترى أن ما تضمنته من مقترحات وإجراءات عملية وواقعية جاء في سياق تجنيب البلاد من الأخطار المحدقة، وأنها جاءت خيارا وسطا بين الخطاب الاستراتيجي العام وبين العرض التفصيلي التنفيذي.المستوى الثاني، تمثل في حرص الوثيقة على التمايز بين الجانب الدعوي والجانب السياسي في مشروع الجماعة، وأن الوثيقة تشكل حلقة من حلقات تطور المشروع السياسي كما طورته الدائرة السياسية، وهي لغة لم تكن معهودة عند الجماعة من قبل، وهو ما يعني، إذا ما تم ضم هذا المستوى لسابقه، بدء المسافة مع المشروع الفكري للشيخ عبد السلام ياسين، وإن كان المدخل يحرص على التأكيد على الانطلاق من هذه المرجعية وبخاصة مرجعية "المنهاج النبوي".
وأما المستوى الثالث، فيمثل في تجاوز اللغة التي كانت تكتب بها وثائق الجماعة، فلم يعد الميثاق المطلوب لجمع الفضلاء الديمقراطيين، يشترط أرضية مرجعية مسبقة، بقدر ما أضحت اللغة السياسية والديمقراطية والحقوقية قاعدة لهذا الاجتماع، ولم تعد الظرفية السياسية شرطا للمبادرة بالنسبة للجماعة، وإنما تجاوزت كل القيود التي كبلت بها نفسها سابقا، لتعرض وثيقتها التي قد يقرأ تأخر عرضها على أنه محاولة للتغطية على الخلاف في التقدير أو الخلاف في الصياغة (الوثيقة تم بلورتها في الأربع سنوات الأخيرة، وأرخت بشهر أكتوبر 2003)، فقد اختارت الجماعة أسوأ ظرفية سياسية، لتعرض وثيقتها، أي الظرفية التي تراجعت فيها مختلف القوى الديمقراطية، بل تراجعت فيها الحركات الإسلامية نفسها فيما أضحى يعرف بخريف الإسلاميين، وهو ما يعكس في الجوهر التناقض بين الواقع (التراجع) والأفق (لقاء الديمقراطيين) والظن، أن الجماعة وبسبب الخوف من تقادم الوثيقة، لم تر ضرورة لانتظار الظرف السياسي الموائم أكثر من اللازم، لعرض تصورها، وأن الدافع الذاتي، أي الرغبة في تحقيق أعلى قدر من التمايز بين السياسي والدعوي، ألزمها بهذا الخروج الذي لم يعهد في تاريخ الجماعة ترتيبه من غير تخير للظرفية السياسية المناسبة.
المستوى الرابع: وتمثل في تجاوز الجماعة منطق الاكتفاء بعض المبادئ التي تمهد لاجتماع الفضلاء الديمقراطيين، إلى تقديم تشخيص عام للوضعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل تشخيص قطاعي يعرض لأهم الإشكالات الي تعاني منها القطاعات الحيوية، والمعضلات التي تسببت فيها السياسات العمومية السائدة، والتدابير الإجرائية التي ترى الجماعة ضرورتها للخروج من الأزمة. يتمثل هذا التحول في الانتقال من اللغة الراديكالية، التي تهيئ شروط القطع مع الوضع السياسي، إلى تبني اللغة الإصلاحية المرحلية، التي تعالج الوضع الراهن، وتشتبك مع السياسات العمومية في كل قطاع على حدة، وتعرض للمقترحات العملية التي تقدر أنها كفيلة بالخروج من الأزمة. وهو تحول كبير بالنظر إلى أدبيات الجماعة السابقة، التي كانت تعتبر البرامج السياسية في ظل الوضع الاستبدادي القائم مجرد برامج ترقيعية، وأن الجماعة معنية بتقديم تصورها مشروع مجتمع ينهض من أجل القومة على الحجم الجبري وإقامة الخلافة على مناهج النبوة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير المغربي سياسة مراجعات المغرب سياسة اسلاميون مراجعات سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة البرنامج السیاسی العدل والإحسان هذه الوثیقة الشیخ یاسین الجماعة من أن الجماعة حزب سیاسی فی تقدیم
إقرأ أيضاً:
العائلة في سربرنيتسا.. وثيقة حنين لأطلال مدينة يتلاشى سكانها بعد الإبادة
سراييفو– ما الذي يحدث لمدينة تفقد أهلها بالإبادة الجماعية ثم تضع الحرب أوزارها؟ هل تعود الحياة لتدب في أوصالها، أم تنزوي بهدوء كأنها جرح عميق ذهب ألمه، لكنه لم يندمل؟
كانت سربرنيتسا، المدينة الواقعة في شمال شرق البوسنة والهرسك، في منتصف عام 1995 مسرحا لإحدى أفظع الجرائم في تاريخ أوروبا الحديث. شهدت المدينة، وفقا للسجلات الرسمية، مقتل أكثر من 8 آلاف شخص، في عملية تطهير عرقي منهجي جسّدت وحشية الإبادة الجماعية التي عادت لتطل بوجهها بعد الحرب العالمية الثانية.
واليوم، بعد حلول السلام ومرور 3 عقود على تلك المجازر، تسير المدينة بخطى ثابتة نحو التلاشي. هذا المصير المأساوي وثّقه المؤلف والمخرج دافورين سيكوليتش في فيلمه الوثائقي "العائلة"، الذي عرض للمرة الأولى في قاعة ممتلئة عن آخرها بمهرجان الجزيرة بلقان السابع للأفلام الوثائقية في العاصمة البوسنية.
ومثل عديد من الأفلام المميزة في المهرجان السينمائي لم يستطع كاتب هذه السطور أن يجلس على كرسي في القاعة الكبيرة الممتلئة فافترش السلالم، محاولا ألا يفوته الجزء السفلي من شاشة السينما ليقرأ الترجمة الإنجليزية، رغم أن تعبيرات وجوه أفراد العائلة تروي بذاتها الكثير، وأخبرني حمزة وهو أحد الشباب البوسنيين المتطوعين لتنظيم المهرجان أنه توقع امتلاء القاعة في هذا العرض، "فالناس هنا يحبون النوستالجيا ولا يملون القصص القديمة أبدا، رغم أني شخصيا أعتقد أن زمن الإبادة قد ولى بلا رجعة".
إعلانبطلا الفيلم هما نرميانا البوشناقية وزوجها مارينكو الصربي، وهما زوجان عاشا معا 39 عاما. بعد انتهاء الحرب، قررا العودة إلى سربرنيتسا في محاولة لإحياء حياتهما كما كانت قبل النزاع، والسعي لتربية أبنائهما الخمسة الذين غادروا المدينة واحدا تلو الآخر، بل إن بعضهم غادر البلاد بأكملها.
من خلال الألبومات العائلية واللقطات الشخصية والأرشيفية، وكذلك الحوارات مع الأبناء والأصدقاء، يرسم الفيلم صورة مزدوجة للحنين والألم. يتطلع الزوجان إلى استعادة ماضي المدينة المزدهر، حين كانت مليئة بالحياة والنشاط الاقتصادي. لكن الواقع المفجع هو مدينة مهجورة، وأشباح الماضي تطارد كل زاوية فيها، حتى إن أبسط الاحتياجات تتطلب السفر إلى القرى المجاورة.
نهج مختلفيتحدث دافورين سيكوليتش عن الدافع وراء الفيلم، موضحا أن مسيرته الصحفية التي تمتد لأكثر من 13 عاما جعلت قصة والديه دائما مثيرة للاهتمام بالنسبة له، لكنه احتاج وقتا طويلا لتحويلها إلى فيلم وثائقي.
"رغم إدراكي أن قصة والديّ كانت تستحق السرد، فإنها بقيت مجرد فكرة. ربما لأنهما والديّ، شعرت بصعوبة في الاقتراب منها كموضوع عمل. أردت أن يكون هذا الفيلم ذكرى لنا نحن الأبناء، لكنه تطور ليصبح شيئا أكبر"
الفكرة ظلت تتخمر في ذهنه على مدار سنوات دون أن تتحول إلى خطوات عملية حتى قبل عامين. خلال مشاركته في تدريب لصناعة الأفلام الوثائقية باستخدام الهواتف الذكية، طُلب منه كتابة ملخص لفيلم يرغب في تنفيذه.
ويتابع سيكوليتش "نظرا لانشغالي الشديد، استرجعت فكرة كنت أفكر فيها مسبقا – فيلما عن عائلتي. أرسلت الملخص، ونال إعجاب نيرا كوزاريتش (منتجة المهرجان) وسياد كريشيفلاكوفيتش (عضو لجنة البرنامج). دعوني للاجتماع، وسألوني إذا كنت أرغب في تحويل الفكرة إلى فيلم. كان دعم شركتي الأم كليكس (Klix) والجزيرة بلقان كمنتج مشارك خطوة حاسمة في تحقيق المشروع".
على الرغم من أن الفيلم يُعد عمليا مشروعا عائلياـ إذ إن "أبطاله ونجومه" نرميانا ومارينكو، فإن دافورين سيكوليتش يوضح أن والديه لم يكن لديهما علم بتفاصيل ما يجري داخل الفيلم.
بطلا الفيلم نرميانا البوشناقية وزوجها مارينكو الصربي يودعان ابنهما المغادر (لقطة من الفيلم)يقول سيكوليتش للجزيرة بلقان "كانا يعلمان أنه فيلم عن العائلة، لكنهما لم يشاهدا أي جزء من الفيلم بعد. الشخص الوحيد من العائلة الذي شارك في تطوير الفيلم هي أختي تاتيانا، التي كتبت سيناريو الفيلم ومن منظورها رويت القصة كاملة عن عائلتنا. حتى هذه التفاصيل لم يعرفها والداي، لأن فكرتي كانت أنه بهذه الطريقة فقط يمكن الحفاظ على أصالة القصة التي أردت أن أحكيها. سيشاهدان الفيلم لأول مرة في العرض الأول، مثل الجميع، وبعدها سنرى إن كانا راضيين أم لا".
إعلانعند الحديث عن سربرنيتسا، عادة ما تُروى القصص عن أحداث صيف 1995 أو تُعرض في سياق مسيرة السلام السنوية، التي تجمع الآلاف لتكريم الضحايا وحفظ ذكراهم عبر مسيرة تستمر 3 أيام.
المخرج تبنى نهجا مختلفا؛ فقد أراد توضيح كيف تبدو المدينة في باقي أيام السنة عندما يغادر المشاركون في مسيرة السلام، ويعود الصمت ليغلف المكان ولا يؤنس ليالي الشتاء الطويلة زوار المدينة
لكن سيكوليتش تبنى نهجا مختلفا؛ فقد أراد توضيح كيف تبدو المدينة في باقي أيام السنة عندما يغادر المشاركون في مسيرة السلام، ويعود الصمت ليغلف المكان ولا يؤنس ليالي الشتاء الطويلة زوار المدينة.
يوضح المخرج "هدفي من الفيلم كان تقديم قصة مدينة تختفي، من خلال قصة عائلة واحدة. كيف كانت المدينة والعائلة تعيشان قبل الحرب، وكيف تعيشان اليوم مع التحديات التي تواجههما. لم أرد التركيز على الحرب أو القصص التي سُردت مرارا، بل أردت أن أروي القصة غير المروية– الحياة اليومية في سربرنيتسا اليوم، حيث يضطر السكان للسفر إلى القرى المجاورة للحصول على أبسط الضروريات".
"هدفي من الفيلم كان تقديم قصة مدينة تختفي، من خلال قصة عائلة واحدة. كيف كانت المدينة والعائلة تعيشان قبل الحرب، وكيف تعيشان اليوم مع التحديات التي تواجههما. لم أرد التركيز على الحرب أو القصص التي سُردت مرارا، بل أردت أن أروي القصة غير المروية– الحياة اليومية في سربرنيتسا اليوم، حيث يضطر السكان للسفر إلى القرى المجاورة للحصول على أبسط الضروريات" المخرج
سيكوليتش: كان العمل على هذا المشروع رحلة عاطفية وتحديا شخصيا في الوقت نفسه (لقطة من الفيلم)يعكس الفيلم الواقع الأوسع في البوسنة والهرسك، حيث تعاني المدن الصغيرة من الهجرة الجماعية للشباب. يُبرز الفيلم هذا التحدي من خلال قصة الأخ الأصغر في عائلة سيكوليتش، الذي غادر المدينة والبلاد أيضا، وككثيرين يلقي باللوم على السياسيين والنظام السياسي البائس الذي يحمله المسؤولية عن هذا الوضع.
يقول سيكوليتش "الحقيقة أن جميع المدن الصغيرة في البوسنة والهرسك تواجه المصير نفسه. يغادر الشباب بلا تردد، وأعتقد أن السياسيين ليست لديهم أي مصالح سوى تحقيق مكاسب شخصية. لا يترددون في فعل أي شيء لتحقيق أهدافهم. لذلك، رسالة الفيلم ليست أن المدن الأخرى ستعيش مصير سربرنيتسا ما بعد الحرب؛ لأنها تعيش هذا المصير بالفعل يوميا. أردت أن أسجل كيف استطاع السياسيون، بسبب مصالحهم الخاصة، تدمير مدينة جميلة أخرى بتاريخ غني وتحطيم عائلة أخرى، وما زالوا مستمرين في ذلك".
إعلانأما العمل على الفيلم نفسه، فيقول سيكوليتش إن هذا كان أصعب مشروع عمل عليه حتى الآن، ويتابع: "كنت أعمل على معظم التفاصيل بنفسي: الإخراج، والتصوير، وتسجيل الصوت، وكل شيء آخر. لم يكن ذلك سهلا، لكنه كان الطريقة الوحيدة للحفاظ على أصالة القصة. استمر التصوير لمدة عامين، وكانت المهمة الأكثر صعوبة هي إقناع والدتي بالمشاركة في التصوير. لذا، تولت شقيقتي المفاوضات لتليين موقفها، وفي النهاية وافقت".
استغرق الأمر وقتا طويلا لجعل عائلته تعتاد على وجود الكاميرا وتتصرف بطبيعتها.
ويضيف المخرج البوسني "كنت أصور لساعات طويلة، أحيانا بكاميرا مطفأة، حتى يصلوا إلى مرحلة يتجاهلون فيها الكاميرا تماما. منذ البداية، كنت أعلم ما أريد تحقيقه، وأعتقد أن معرفتي بهم كانت ميزة كبيرة. لو كنت قد عملت مع فريق كامل، لما احتوى الفيلم على المشاعر نفسها، ولذهبت القصة في اتجاه مختلف".
كان العمل على هذا المشروع رحلة عاطفية وتحديا شخصيا في الوقت نفسه.
"مشاعر مختلفة غمرتني في أثناء العمل؛ من مشاهدة أشرطة فيديو لم أكن أعلم بوجودها، أظهرتني طفلا قبل 30 عاما، إلى وفاة جدتي فاطمة خلال التصوير، بالإضافة إلى مغادرة أخي الأصغر البلاد"
يوضح أن الفيلم لم يكن مجرد مشروع فني، بل كان انعكاسا شخصيا لتجارب وأحداث مؤثرة، وهو ما حاول نقله من خلال أدق التفاصيل في العمل. يقول: "من يشاهد بعناية، سيلاحظ ذلك".
كان التحدي الأكبر هو اختيار اللحظات والجوانب التي ستظهر في الفيلم من بين المواد الكثيرة المتوفرة، مع ضرورة أن تعكس هذه الجوانب القصة التي تخيلها.
ربما لم يكن والدا سيكوليتش ليقبلا أن يصنع أي شخص آخر، بخلاف ابنهما، فيلما عنهما. لكنه واجه صعوبة في إقناعهما بالموافقة. فلعبت شقيقته دورا محوريا في هذا السياق (الجزيرة)يضيف سيكوليتش أن فتح الجروح القديمة وكشف خصوصيات العائلة لم يكن بالأمر السهل، سواء عليه بوصفه مؤلفا أو على أفراد أسرته كونهم أبطال الفيلم.
"ربما لم يكن والداي ليوافقا على أن يصنع أي شخص آخر فيلما عنهما، وحتى بهذه الطريقة كان الأمر صعبا عليهما. حتى شقيقتي كان عليها التفاوض معهما لإقناعهما بالمشاركة في المشروع".
إعلان العائلة والمدينةرغم تركيز الفيلم على عائلة سيكوليتش، فإن المخرج يؤكد أن الهدف الأسمى كان إيصال رسالة أوسع:
"أردت أن يفهم الجمهور كم كانت سربرنيتسا مليئة بالحياة قبل الحرب، وكيف كان الناس يتواصلون بشكل جميل بغض النظر عن الدين أو القومية. كل ذلك اختفى، وبات يبدو كأنه حلم سيئ كان يمكن تجنبه لو استيقظنا قليلا قبل فوات الأوان".
كما يقول دافورين سيكوليتش، ربما لم يوافق والداه على أن يقوم شخص آخر، غير ابنهما، بعمل الفيلم عنهما، وحتى بهذه الطريقة كان من الصعب عليهما الموافقة. وحتى أخته كان عليها أن تتفاوض معهما وتقنعهما بأن يكونا جزءا من هذا المشروع.
رغم أن عائلة سيكوليتش في طليعة الفيلم، فإن المؤلف يشير إلى أنه يرغب في "أن يتمكن الجمهور من فهم كم كانت مدينة سربرنيتسا مليئة بالحياة قبل الحرب المؤسفة، وكيف كان الناس يعيشون ويتواصلون بشكل جميل بغض النظر عن الدين والقومية، وكيف اختفى كل ذلك وأن كل شيء يبدو حلما سيئا كان يمكن تجنبه لو استيقظنا فقط قليلا أبكر".
عندما يتعلق الأمر بالمستقبل، لا توجد حاليا خطط محددة لمشاريع سيكوليتش القادمة، على الرغم من أن بعض الأفكار تتردد في ذهنه بشكل مستمر؛ "كان هذا مشروعا صعبا للغاية وموضوعا جادا جدا يجب معالجته، لذلك أعتقد أنني سأترك كل شيء ليستقر قليلا وسأمنح نفسي بعض الوقت لتحليل كل ما تم إنجازه قبل أن أقبل بأي مشروع مشابه" يقول سيكوليتش.
يختتم الفيلم بأغنية، طلبت مساعدة مدير المهرجان في استخراج كلماتها وترجمتها، وتقول كلماتها:
هيه، هيه يا سريبرينيتسا، الحزن هنا شديد يا حزني
لم أعد موجودا فيكِ منذ وقت طويل
عندما أفكر فيكِ، أشعر وكأنني أطير في السماء
لا نهاية لسعادتي عندما أسمع اسمكِ
هل الأمور كما كانت من قبل؟ وهل يحبكِ الآخرون كما أحبك أنا؟
أفكاري تطير نحوكِ، يا له من مصير ثقيل
هيه، هيه يا سريبرينيتسا، الحزن هنا شديد يا حزني
لم أعد موجودا فيكِ منذ وقت طويل
الليالي ثقيلة جدا، والصباحات أكثر حزنا
الذكريات تأتي إليّ من تلقاء نفسها دائما بعد الفجر
هل تزينكِ نفس الشوارع، ونفس الأصدقاء، ونفس الفتيات؟
أي أغاني يغنون الآن؟ وبماذا يفرحون؟