ماكس فيبر في الخرطوم: الديمقراطية أم الدولة؟ (1-2)
تاريخ النشر: 12th, February 2024 GMT
عبد الله علي إبراهيم
جاءت مينا العريبي رئيسة تحرير مجلة "الناشيونال" بأبوظبي، في لقاء أخير لها مع فريد زكريا بالـ"سي أن أن" بفكرة عن السياسة الأميركية في المنطقة العربية نافعة في تحليل الحرب المشتعلة في السودان. فذكرت مواجهات أميركا الراهنة مع الجماعات المسلحة من غير الدولة (الحوثيين، الحشد الشعبي العراقي، حزب الله) لتقول إن على أميركا أن تقدم في سياساتها الخارجية وجود الدولة-الأمة نفسها على ما سواه.
فليس واضحاً في السياسة الأميركية أنها جعلت من الدولة مركز دائرة سياساتها الخارجية. فبقول الرئيس بايدن إن "السياسة العالمية نزاع بين الديمقراطية الليبرالية والطغيان" وضعت أميركا الديمقراطية في ذلك المركز نجحت في المسعى أم لم تنجح. فاكتفت في التعامل مع هذه الكيانات المسلحة من غير الدولة بالجزرة والعصا. فتسمي الجماعة إرهابية وتفرض مقاطعتها ثم تترك العصا إلى الجزرة في توقيتها المناسب. فكانت فرضت المقاطعة على الحوثيين ثم رجعت عن ذلك في يناير 2017 على عشم استصحابهم في جهود السلام في اليمن.
ولعل أبلغ مظاهر استهانتها بوجود الدولة هو حل جيش دولة البعث بعد غزو العراق في 2003 وتفكيك نظام البعث. ولا يزال النقاش دائراً حول من أمر بتفكيك الجيش لكن من المؤكد أنه لا الجيش الأميركي ولا وكالة الاستخبارات الأميركية. فكانا معاً مع إعادة العسكرية العراقية على جذع الجيش العراقي البعثي. وبجانب بول بريمر الثالث، حاكم العراق بعد احتلاله، فإن أوضح من دعا له هو المعارضة العراقية بقيادة أحمد شلبي شديدة العقيدة في إزالة كل أثر لصدام حسين والبعث. وكان شلبي يريد حل جيش صدام لتأخذ قواته، قوات العراق الحرة، محله. لكن من حل محله حقاً كان جيشاً من صنع المالكي، رئيس الوزراء (2006-2014) وهو جيش قيل عنه إنه مجرد ميليشيات طائفية تتلقى أوامرها من بطانة المالكي.
وهكذا رمى بريمر بـ250 ألف شاب عراقي عاطل وغاضب ومسلح إلى الشارع. وهم من كانوا نواة تنظيم "داعش". فمن 40 قيادياً في التنظيم كان منهم 25 من ضباط جيش صدام. قاوموا الاحتلال لثماني سنوات وقتلوا من العسكريين الأميركيين نحو 4500. ومعلوم اضطرار أميركا أخيراً لمواجهة التنظيم في العراق وسوريا على رأس حلف كان الأضعف فيه دولتي العراق وسوريا. ففي العراق حل الحشد الشعبي مكان الجيش العراقي الذي هزمه "داعش". وكانت حرب الخلافة في سوريا مناسبة لتمكين روسيا نظام بشار الأسد بغض النظر. فاستشرت الأجسام المسلحة من غير الدولة.
فإذا ما كان الدولة ومنزلتها موضوع الحديث فلا مندوحة من الرجوع إلى منظرها الألماني بلا منازع ماكس فيبر ( -1920). ومن الصدف أن استدعى جيمس بفيفنر، أستاذ العلم العسكري بجامعة جيمس ماديسون بأميركا، اسم فيبر وهو ينعي على بريمر فصل ما بين 80 و100 ألف موظف من الخدمة المدنية العراقية. ففيبر هو من نظر للبيروقراطية كأداة للدولة الممركزة. والبيروقراطية عند فيبر نظام عقلاني من موظفين يسيرون أمور الدولة بيسر بعد احتلالها. فلم يكن بريمر يحتاج سوى لإزاحة قادتها في القمة. فالبيروقراطية تظل تعمل لأن خدماتها مما يحتاج إليه الجميع بما فيها الجيش الغازي.
وتفارق السياسة الأميركية فيبر في موضوع الدولة. فالديمقراطية في الدولة مقدمة في هذه السياسة على الدولة، أو هي شرط وجود الدولة. فالتزمت أميركا منذ ثورة السودان في ديسمبر (كانون الأول) 2018 بحماية التحول الديمقراطي بعد إزالة ديكتاتورية دولة الإنقاذ (1989-2019). وجسدت هذا الالتزام في "قانون الانتقال الديمقراطي في السودان، والمساءلة، والشفافية" لعام 2020 مجدداً في عام 2021. وعين القانون القوات المسلحة و"الدعم السريع"، ضمن قوات نظامية أخرى، ممن قاما معاً بانقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 الذي أطاح الحكومة الانتقالية بقيادة عبدالله حمدوك، كخصمين مؤكدين للانتقال الديمقراطي. وخصص القانون باباً مستقلاً للعقوبات التي بوسع رئيس الجمهورية الأميركية فرضها عليهما لكي يشل أيديهما من دون تعويق هذا الانتقال. وتواترت الأخبار من قريب عن عقوبات، سبقتها أخريات، فرضت على الطرفين لحربهما المعدودة تخريباً للتحول الديمقراطي.
بدا باندلاع الحرب بين القوات المسلحة و"الدعم السريع" أنه ربما احتاج الموقف من أميركا إلى شيء من المراجعة. فإننا لن نسلم من الخطأ، والمزلزل، إن واصلنا النظر إليها كحرب بين جنرالين، الفريق أول عبدالفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو، سواء في طمعهما في السلطان أو خصومة التحول الديمقراطي. فعظمة النزاع تغيرت. فلم تعد بين الديمقراطية والديكتاتورية التي فيها الجيش و"الدعم السريع" سواء، بل هي عن أن تكون الدولة أو لا تكون.
ونواصل
IbrahimA@missouri.edu
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
الحراك الجنوبي السلمي يهاجم التحالف السعودي الإماراتي ويدعو لعودة شرعية "هادي"
هاجم تجمع القوى المدنية الجنوبية (الحراك الجنوبي السلمي) سياسات التحالف بقيادة السعودية في اليمن، داعيا لعودة الشرعية الممثلة بالرئيس هادي وحمايتها، وإلزام الجماعات المسلحة بتنفيذ الاتفاقات والقبول بمؤسسات الدولة والاندماج فيها، وبناء نواة مؤسسات الدولة برئيس وجيش وأمن واحد.
وقال بيان صادر عن القوى المدنية الجنوبية، تابعت ما تشهده الساحة اليمنية عامة والجنوبية بشكل خاص، وتشعر بالقلق من استفحال الفشل والإخفاق، واتساع نطاقه، وتعدد أدواته، واستمرار غياب المعالجات الحقيقية والشجاعة لكل ذلك الانهيار على كافة الأصعدة، وهو الأمر الذي أطال أمد الحرب في اليمن، وأضعف آمال تحقيق هدف التدخل العربي في هذا البلد المنكوب، والمتمثل في استعادة مؤسسات الدولة ودحر الانقلاب الحوثي.
وأدان البيان، العدوان الصهيوني الأمريكي على اليمن، معبرا عن حزنه تجاه ما يحدث، من غياب للموقف الوطني الموحد تجاه كل ما يمس الوطن وسيادته، مهما كانت أسبابه ومبرراته.
وعبر عن قلق القوى المدنية، من انتقال معركة الحوثي لتصبح ثنائية مع دول العدوان الصهيوني الأمريكي، والذي انعكس "على المعركة الرئيسية للتحالف، وتسبب في جمود معركة استعادة الدولة التي جاء من أجلها التدخل العربي، والتي تحولت بفعل صراع أدوات التحالف في الداخل إلى معارك جانبية بين جماعات مجلس مشاورات الرياض وما يتفرع عنها من جماعات وهيئات شكلية وغيرها".
وقال البيان: "لقد أثبتت الأيام والتجارب التي مر بها اليمن خلال أكثر من عشر سنوات من الحرب، التي أتت على الأخضر واليابس، أن الحلول للمشكلات العالقة، سواء تلك التي كانت سببًا لانهيار الدولة أو تلك المشكلات المستجدة التي خلقتها الصراعات البينية بين الجماعات المسلحة التي أنتجتها دول التحالف كأدوات لعملها في الداخل، لم تعد مجدية. بعد أن أصبحت حياة الإنسان مهددة تهديدًا مباشرًا بغياب الأمن والانعدام الكلي لمقومات الحياة اليومية، وغياب الأمن، وانتشار الفساد والجريمة، وتلاشي آمال الخروج من هذه الأوضاع المتردية".
وأوضح أن موقف تجمع القوى المدنية الجنوبية كان واضحًا منذ الوهلة الأولى تجاه المعالجات غير المدروسة وغير المجدية، ومحاولات الترقيع، والاعتماد على أدوات ترفض الاعتراف بالدولة ومؤسساتها، والاندماج في إطارها، وتتمرد على الاتفاقات الموقعة برعاية دول التدخل في اليمن. في الوقت الذي "حذر مرارًا منها، وها نحن اليوم، وبعد أكثر من عشر سنوات، نجد أنفسنا جميعًا في وضع أسوأ بكثير من وضع الشهور، بل والأيام الأولى لسقوط الدولة في اليمن واندلاع الحرب فيها".
وأكد أن تدوير أدوات الفساد والفشل، والإصرار على صناعة الوكلاء على أسس الولاء للداعمين الإقليميين والتعدي على الشرعية اليمنية المستندة على الدستور اليمني والتي دعمتها المبادرة الخليجية وقرارات المجتمع الدولي، والمتمثلة بالرئيس هادي، واستبدالها بجماعات لا شرعية لها، كانت القشة التي قصمت ظهر بعير آمال إصلاح الخلل وتحقيق الانتصار على جماعة الحوثي، بل واستحالتها.
وأردف: "إن أي إصلاحات تهدف إلى عودة الأمور إلى نصابها وتهيئة الأرضية للمعركة الحقيقية الهادفة إلى استعادة مؤسسات الدولة ودحر الانقلاب، لن تأتي من بوابة صناعة المليشيات المماثلة، ولا بالتكوينات الوهمية الداعمة لها، والتي لا تختلف في سلوكها وأدواتها وتوجهاتها عن جماعة الحوثي في رفضها للدولة والتعدي على مؤسساتها والتبعية للخارج، ولا من خلال التوسع والتمادي في الاعتداء على الشرعية الدستورية واستبدالها بشرعيات تمثل قنابل موقوتة" مضيفا: "ولكنها تأتي في رأينا، من خلال معالجات موضوعية وشجاعة، تتمثل أولاً في عودة الشرعية الممثلة بالرئيس هادي وحمايتها، وإلزام الجماعات المسلحة بتنفيذ الاتفاقات والقبول بمؤسسات الدولة والاندماج فيها، وبناء نواة مؤسسات الدولة برئيس واحد، وجيش واحد، وأمن واحد".
ولفت إلى أن "ما شهدته محافظة حضرموت وما ستشهده تبعاً لذلك بقية المحافظات الجنوبية المحررة يمثل تهديداً للوحدة الوطنية والمجتمعية، ويمثل إخفاقاً صنعته التوجهات والتصرفات الرعناء وغير الواعية لخطورة الأوضاع، وغير المتحلية بالمسؤولية للجماعات المسلحة المبنية على الأسس المناطقية والفئوية والحزبية، التي يصر التحالف على تمكينها من مستقبل تلك المناطق ومعيشة أهلها وحريتهم في إدارة شؤونهم".
وأدان تجمع القوى المدنية، أي عنف ضد المدنيين العزل المطالبين بحقهم في توفير الخدمات الضرورية، والرافضين لاستمرار فشل الجماعات المسلحة في إدارة الحياة اليومية لهم محذرا مليشيا الانتقالي "من مغبة التمادي في الاعتداء على المتظاهرين السلميين".
ودعا البيان،، السعودية كقائدة للتحالف بتحمل مسؤوليتها القانونية والأخلاقية في حماية المواطنين وتوفير الحياة الكريمة لهم.