البودكاست العربي: من الثرثرة الفارغة إلى مفترق طرق السابع من أكتوبر
تاريخ النشر: 12th, February 2024 GMT
منذ أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وتبعاتها، انتشرت العديد من حلقات "البودكاست" التي تناقش جوانب مختلفة لا تنتهي، تتناول صفحةٍ ما من تاريخ القضية الفلسطينية الواسع.
أثر ذلك كثيرًا في إعادة تشكيل الوعيّ لدى شريحة مستمعي البودكاست والذين هم عددٌ ضخم يتزايد مؤخرًا، كما أن الحديث عن القضية الفلسطينية في البودكاست، أثرى محتوى "البودكاست" العربي الذي كان يواجه فقرًا في المحتوى السياسي ورواجه كفئة مستخدمة للاستماع في البودكاست.
جيل الأيبود
يعود تاريخ أول "بودكاست" إلى عام 2004 في الغرب، حين خرجت تلك الظاهرة كامتداد لاختراع الآيبود، وبسبب عدم تطور منصات العرض للمحتوى المرئي بعد، آنذاك، كان سهلًا استخدام المعدات الأساسية من تقنيات بسيطة تتعلق بالتسجيل وميكروفون فقط لصناعة محتوى، وهو ما يتوفر لأي شخص ذو ثقافة بسيطة في الكمبيوتر حينها، دون أي تعقيد يوازي تعقيد عملية المونتاج والتصوير والإخراج وخلافه في المحتوى المرئي، بالإضافة إلى سهولة رفع الملف الصوتي الذي لم يكن كبير الحجم حتى في أفضل الجَوْدات.
ستكون تلك الأسباب فيما بعد سببًا لرواج الـ "بودكاست Podcast" في الوطن العربي، حيث يطمح الكثيرين لصناعة المحتوى الذي يتيح لهم فرصة التعبير عن أفكارهم ووجهة نظرهم، بالإضافة إلى أن البودكاست قد يستدر ربحًا ماديًا في بعض الأحيان على صاحبه، كما أن المُستهلك العربي العادي لا يملك بالكاد الأموال التي يستطيع من خلالها تجهيز ستوديو لتسجيل محتوى مرئي، وبذلك يصبح البودكاست عامل أسهل لتقديم المحتوى المطلوب.
كانت فترة وباء كورونا والحجر المنزلي هي فترة منعشة لصناعة البودكاست بالنسبة للمحتوى العربي الذي شهد إرتفاعًا في معدلات صناعة البودكاست حيث أصبح التقاء الأشخاص وتسامرهم عن بُعد هو حل آخر لتجنب اللقاء الحي في الواقع، كما أن البودكاست تميز بسهولة الاستخدام حيث يتيح للمستمع أن يختار الموضوع الذي يريد أن يستمع له بالإضافة إلى عدم اشتراط الاتصال بالإنترنت من خلال التحميل المُسبق، لذلك انتشر البودكاست بكثرة كوسيلة للاستماع أثناء قيادة السيارات أو التمشية.
بإمكاننا نستدل على طفرة فترة الكورونا من خلال موقع "البودكاست العربي"، وهو موقع إحصائي شبه رسمي للبودكاست العربي. يعد العام 2007 انطلاقة للبودكاست العربي وفقًا للموقع، حين خرجت 3 برامج فقط، وحتى العام 2016 لم يصل العدد سوى إلى 36 برنامج.
لم تعرف صناعة البودكاست العربي صعودًا مُلفت للأنظار إلى عام 2018 الذي كان بداية لصعود السهم الذي سيصل ذروته منفجرًا في عام كورونا 2020. في هذا العام، سجلت منصة "أنغامي" زيادة في عدد البودكاست بنسبة 25%. حينها تم تسجيل 515 بودكاست جديد بالموقع، ومن وقتها يتنامى البودكاست العربي حيث ينشط 458 بودكاست بينما توقف 1072 بودكاست ويسجل الموقع ما يقارب 70 ألف حلقة بودكاست.
إن كان لتلك الأرقام أن تُعبر عن شيء، فهي بالطبع خير معبر صعود ثقافة البودكاست في الوطن العربي مؤخرًا، والذي تُعد فيه نوعية "الاجتماعي والحواري" هي النوعية الأكثر إثارة للاهتمام وفقًا لموقع البودكاست العربي، وبسبب سيادة تلك النوعية، كان هناك لومًا يُوجه دومًا للبودكاست العربي، بأنه فرصة ممتازة لثرثرة غير مفيدة بقيّم ومحددات الإعلام الرسمي. ويشيع "البودكاست" وفقًا لإحصاء موقع "البودكاست العربي" بالأخص في جيل "الأيبود" والـ "سبوتيفايّ"، أي جيل الشباب، حيث يُعد أكثر مستمعي البودكاست من فئة الشباب بين عاميّ 18-34 عامًا وهم يشكلون 82% من نسبة المستمعين. وتشيع أيضًا تلك الثقافة بين حاملي المؤهلات العليا فـ 80% من المستمعين هم من حملة البكالوريوس.
تشكل ثقافة "البودكاست" في منطقة الخليج العربي، أحد مظاهر مستجدات المشهد الإعلامي في الخليج. في الإمارات، هناك مليون شخصًا يستمعون للبودكاست أي 10% من جموع السكان، وفي السعودية يستمع 5 مليون شخص بشكل منتظم، كما أن دول الخليج تكثر فيه المبادرات الفردية التي تقوم على منصات إنتاجية للبودكاست مثل تجربة "ثمانية" الشهيرة، وبودكاست "فنجان" الخاص بها والذي ظهرت إلى جانبه العديد من البرامج الأخرى تتبع لنفس المنصة.
يهتم صناع البودكاست في الخليج بمأسسة تلك الصناعة أيضًا، فبشكل دوري، تُعقد المؤتمرات التي تهتم بتطوير تلك الصناعة ونشرها خارج نطاق الخليج وتوجيهها باللغة الإنكليزية. كمؤتمر "Dubai PodFest" الذي عُقد عام 2021 ولازال يُعقد بشكل سنوي من بعدها.
تتوفر في دول الخليج البنى التحتية الجيدة الخاصة بالإنترنت، والخاصة بتسهيل شراء معدات الإنتاج لو أراد الفرد أن ينتج بذاته لذاته، كما أن حال السكان ميسورة إلى حد كبير مما يجعل من البودكاست سلعة تُباع كمنصات المشاهدة مثل نتفليكس وهولو وأمازون، لذلك تُعد تلك الصناعة في الخليج مُدرة للربح من خلال الاشتراك وليس الإعلان وعدد المشاهدات فقط في القنوات المجانية على يوتيوب كحال باقي الدول العربية. مما شجع اتجاه الاستثمار في قطاع البودكاست المتنامي هناك من شركات أجنبية ومحلية ضمنت الربح في هذا المجال، الذي لا يُنبئ بأن نجاحه مجرد فقاعة وستنفثأ، بل شيء ربما يستمر.
القمع والمساحات الآمنة
تقوم فكرة الكثير من برامج البودكاست على مذيع يستضيف شخص للحديث عن مجال عمله واهتمامه ونجاحه فيه، وفي الواقع يساعد هذا النوع من محتوى "الحكيّ لأجل الحكيّ" صاحب البودكاست حيث أنه يحرره من مهام الإعداد التحريرية للحلقة والمؤثرات الكبيرة. سر الخلطة أن الحلقة تعتمد على قدرة الضيف على سرقة اهتمام المستمع بالحديث عن تجربته في الحياة إن كان من المشاهير أو المختلفين في أحد المجالات، حتى لو كان ما يفعله غير هام وغير مؤثر على الإطلاق.
لذلك يسود ذلك النمط على حساب أنماط تعليمية وتثقيفية، وندرة للانواع السياسية، ولا شك أن ذلك نتاجًا طبيعيًا في المجتمع العربي الذي يُنتج فيه القمع بوارًا، ونزوع الشباب إلى اللعب في المساحات الآمنة، سواء في الدول البوليسية ذات القمع المترسخ مثل مصر، أو في الدول الريعية التي تقدم مجتمع رفاه مقابل احتكار الفعل السياسي وحرمان الجماهير منه في الخليج العربي.
بينما كان هدف البودكاست خلق إعلام بديل وتعدديه في الآراء والأصوات، لازالت السياسة تشكل "بعبعًا" لمقدمي البودكاست، وفي الخليج مثلًا، يتم استخدام البودكاست للتساوق مع سياسة الدولة واتجاهها ففي حالة السعودية مثلًا نجد إن بودكاست "ثمانية" ينصب على مجاراة التحديث ومواضيعه التي يطرحها من وجهة نظر الأمير محمد بن سلمان.
يشتهر في السعودية والوطن العربي بودكاست "فنجان" آنف الذكر، والذي يحقق أعلى نسبة للاستماع على الإطلاق في كافة المنصات سواء بمحتواه المرئي أو المسموع، حيث تحقق حلقاته باستمرار أرقامًا غير معقولة بالنسبة للصناعة الناشئة، فأكبر حلقاته على الإطلاق لياسر الحزيمي عن العلاقات العاطفية قد حققت 82 مليون مشاهدة على موقع يوتيوب فقط. ورغم تلك الشهرة المُدوية للبودكاست، تتمثل فيه آفة البودكاست العربي في الخليج في السياسة التي تم احتكارها من قبل الأنظمة، فقد مرت مائة يوم على الحرب على غزة، ورغم انشغال البودكاست بمواضيع فلسفية وتاريخية، إلا أنه لم يقدم حلقة واحدة عن فلسطين! وإذاعة "ثمانية" بصفة عامة لم تقدم سوى حلقة واحدة باهتة عن القضية الفلسطينية تحت عنوان "لماذا فشلنا في حل القضية الفلسطينية؟".
ولا تحتاج حالة البودكاست في الإمارات بالطبع إلى توضيح في هذا الشأن، فكما هو متوقع، لن تنطلق مناصرة فلسطين من قبل عاصمة التطبيع الدبلوماسي والثقافي. وتنصب مواضيع "البودكاست" داخل الإمارات على "البيزنس" والـ "جيندر" وبودكاست " KERNING CULTURES كيرنينج كلتشرز" الذي تهتم مقدمته المصرية الأمريكية المقيمة في الإمارات "هبة فيشر" بمناقشة قضايا الهويات والتابوهات الجنسية والمُحرم في الثقافة العربية السائدة المحافظة، وتلك مساحات آمنة يمكن الاشتباك معها بدلًا عن المواضيع الجادة التي يعاني منها ملايين من مواطني الدول العربية.
وإن كان ذلك الحال في مناقشة قضية عروبية عامة تتشاطرها الجماهير العربية جميعها، فما حال مواضيع الشأن السياسي الداخلي؟ بالطبع تكاد تنعدم في دول مثل دول الخليج العربي، وفي مصر، تضييق الخناق والترهيب المستمر يُفقر المشهد الإعلامي والثقافي على حد سواء، في الراديو والتلفاز والبحث العلمي والكتب. وينحصر "البودكاست" المُقدم من الداخل في مصر في استضافة شخصيات عامة مشهورة، اشتهرت عن طريق الـ "تيك توك" الكثير منهم تافه وغير ذا قيمة، بالإضافة إلى نجوم كرة القدم الهامشيين أو المنسيين والذين يسعون إلى العودة لأن يكونوا ترندًا من خلال الحديث عن فضائح لاعبون آخرون والتلفظ بألفاظ نابية حتى أصبحت بعض برامج "البودكاست" في مصر أشبه بـ "غُرزة" حشيش! .
ما بعد السابع من أكتوبر؟
رغم ذلك، لا يُعد الحديث عن فلسطين محظورًا في بعض الدول مثل مصر، وإن كان له خطوطه الحمراء، ومنذ أن اندلع العدوان على غزة، ظهرت العديد من برامج "البودكاست" التي تهتم بمناقشة الوضع في فلسطين، كحال بودكاست "ألف باب" لمقدمه "عبده فايد" والذي قدم العديد من الحلقات عن الشأن الفلسطيني وعن تاريخ الإبادات العنصرية الأوروبية والإمبريالية في سياق نفاق المجتمع الغربي فيما يتعلق بمعاداة السامية، وقد حققت حلقات البودكاست زخمًا كبيرًا ومشاهدات تزيد وتتنامى حلقة بعد أخرى حتى وصلت أحد حلقاته إلى مائة ألف مشاهدة.
ومن موقعها في تركيا وشراكتها مع العديد من المنصات الأخرى أبرزها "الجزيرة"، تُقدم منصة "الشرق" العديد من الحلقات في برنامجها "بودكاست الشرق" تهتم بمناقشة الوضع في فلسطين تجاوزت احدها مليون مشاهدة، بل وتطورت إلى مناقشة الوضع السياسي في مصر والبحر الأحمر وليبيا واليمن بشكل عام بعد أن جذبت الانتباه من خلال قضية فلسطين، وتحققها حلقات العديد من المشاهدات الكثيرة أيضًا. كذلك حققت حلقة "حسام زملط" في بودكاست "أثير" عن القضية الفلسطينية أكثر من مليون مشاهدة.
ويقوم "فيصل عبد الرحمن العقل" في بودكاست "بدون ورق" بدورًا هامًا في مناقشة العديد من الجوانب الهامة في القضية الفلسطينية من خلال موقعه في الكويت، وقد استضاف العديد من الشخصية الهامة من أمثال "سلمان أبو ستة" و"مصطفى البرغوثي" واللذان تجاوزت مجموعة مشاهدات حلقاتهما المليون ونصف المليون وتلك أرقام أيضًا غير مسبوقة في مشاهدات هذا البودكاست على اليوتيوب.
وتلك الأمثلة هي غيض من فيض من حلقات البودكاست العربي بعد الحرب في فلسطين، والتي تُقدم جُهدًا محمودًا في تشكيل الوعيّ للشباب وجعلهم على مستوى مواكبة الحدث، وربما تُعد واحدة من الأثار الجانبية الإيجابية للحرب المأساوية، هي أنها تُعيد تقديم موضوعًا هامًا وجادًا تحتاجه بالفعل تلك الصناعة الآخذة في التصاعد، والتي كادت أن تغرق في التفاهة والمحتوى المُدجن، فهل تكون تلك إنطلاقة أخرى للبودكاست العربي؟
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي تقارير القضية الفلسطينية البودكاست العربي القمع القضية الفلسطينية القمع الثرثرة البودكاست العربي سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القضیة الفلسطینیة البودکاست العربی بالإضافة إلى تلک الصناعة فی الخلیج العدید من العربی ا من خلال فی مصر الذی ی کما أن
إقرأ أيضاً:
كيف ستكون طبيعة علاقات ترامب رجل الصفقات مع السعودية ودول الخليج؟
نشر موقع "أي نيوز" تقريرا أعده جورجيو كافيرو، الأستاذ المشارك بجامعة جورجتاون، حول العلاقة بين النفط والسلاح وحاجة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للسعودية.
وقال إنه لا توجد علاقات قليلة في الجيوسياسة الحديثة مثيرة للجدل تركت تداعيات وخيمة مثل العلاقة الأمريكية- السعودية التي تطورت إلى شراكة تعاقدية أو معاملاتية لم تتردد في تحطيم التقاليد القديمة وإعادة تشكيل أولويات السياسة الخارجية. فمن صفقات الأسلحة الخيالية إلى المناورات الاستراتيجية في الشرق الأوسط، أصبحت المخاطر في ولاية ترامب الثانية أعلى من أي وقت مضى.
وفي الوقت الذي تحاول فيه الرياض وواشنطن الإبحار وسط المصالح المتبادلة وبعض التوترات العميقة الجذور، يظل السؤال: ما الذي سيحققه ترامب وولي العهد محمد بن سلمان حقا لبعضهما البعض؟
وأضاف، أن ترامب كسر التقاليد المتعارف عليها في السياسة الأمريكية وهي أن تكون أول زيارة خارجية للرئيس المنتخب بعد توليه المنصب هي لبريطانيا. وقرر زيارة السعودية في عام 2017، وفي ولايته الثانية، سيقدم الرئيس ترامب أولوية لتقوية العلاقات مع المملكة.
واقترح ترامب قبل فترة من أنه قد يزور السعودية مرة أخرى ويختارها كأول مكان لرحلته الخارجية الرسمية، لو وافقت المملكة على تقديم تعهد باستثمارات جوهرية في الاقتصاد الأمريكي.
وتحدث ترامب مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في الأسبوع الماضي والذي هنأ ترامب على تنصيبه وتعهد باستثمار 600 مليار دولار طوال فترة ولايته. ومع ان الرقم ليس واقعيا، إلا انه يمنح منظورا عن "نصر" مهم مبكر لترامب.
وقال ترامب إنه طلب من محمد بن سلمان الذي وصفه بـ "الرجل الرائع" زيادة الرقم إلى تريليون، وأكد ترامب أن السعوديين سيستجيبون لطلبه "لأننا جيدون جدا معهم". وترى الصحيفة أن ترامب سيكون أكثر معاملاتية في ولايته الثانية من الأولى، كما قال أندرياس كريغ من كلية كينغز كوليج في جامعة لندن حيث قال إن "النهج المعاملاتي والذي ينتهجه ترامب يصب في صالح سياسات الخليج، فقد عبر قادة دول الخليج عن سعادتهم الكبيرة بهذا النهج، إنه أمر يمكن التنبؤ به. فأنت تدفع مقابل شيء ما، وعادة ما تحصل عليه".
وقد اعتمدت السعودية منذ فترة طويلة نهجا فعالا في علاقاتها مع الدول الأفريقية والآسيوية والأوروبية.
ورغم أن العديد من شركاء المملكة يؤكدون على "الطبيعة التاريخية لعلاقاتهم" مع الرياض، فقد أوضح نيل كويليام، الزميل المشارك في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تشاتام هاوس، لصحيفة آي نيوز قائلا إن: "القيادة السعودية أصبحت أكثر حرصا على المعاملاتية، وهي مهتمة في نهاية المطاف بالنتائج النهائية وما يمكن أن يقدمه الشركاء".
وأشار كريغ من كينغز كوليج أن دول الخليج ترى في ترامب"صانع صفقات ورجل أعمال جديرا بالثقة" ويلتزم بها. وهي تفضل أسلوبه في القيادة على سلفه الذي كان من الصعب على قادة دول الخليج العربية فهم "مجموعة القيم الغامضة" التي كان يدعو إليها.
وبناء على كل ما حققه خلال ولايته الأولى، إلى جانب خطاب حملته والإجراءات التي اتخذها منذ بداية ولايته الثانية، فإن ترامب عازم على المضي قدما في دعم استراتيجيته "أمريكا أولا".
ويقول مهران كامرافا، استاذ علم الحكومات في جامعة جورجتاون- فرع قطر: "إذا كان بإمكان السعودية، أو أي جهة أخرى، أن تقدم لترامب سيناريوهات مربحة للجانبين من شأنها أن تعود بالنفع على الجانبين، فمن المرجح أن يتبناها الرئيس الأمريكي.
وأوضح، "لا يوجد سبب للاشتباه في أن السعوديين لن يفعلوا ذلك". وتعلق الصحيفة أنه في غياب الغضب في واشنطن على مقتل الصحافي في واشنطن بوست جمال خاشقجي ولعبها دور وسيط السلام في أوكرانيا، أصبحت السعودية في وضع جيد يمنحها لعب دور متزايد في مستقبل السياسة الخارجية الأميركية في ظل رئاسة ترامب".
ويرى باتريك ثيروس، السفير الأمريكي السابق في قطر، فقد تحاول القيادة السعودية استخدام تأثيرها لوضع المملكة: "في مركز النشاط الأمريكي بالمنطقة" وترسيخ مكانة الرياض كشريك "أكثر راحة لإدارة ترمب من أي دولة إقليمية أخرى، بما في ذلك إسرائيل".
وفي الوقت الحالي، تمتلك السعودية المزيد من المزايا التي تريدها الولايات المتحدة أكثر من العكس. وتظل المصالح الأمريكية في المنطقة ثابتة وتتعلق بحرية تدفق النفط والغاز إلى الأسواق العالمية، كما وتظل السعودية واحدة من الأسواق العالمية البارزة للصادرات الأمريكية، وبخاصة الأسلحة والسلع الرأسمالية. وتمتلك السعودية قدرا هائلا من النقود لتعرضه على ترامب"، كما قال ثيروس لصحيفة آي نيوز.
وعندما يتعامل مع السعوديين، سيركز ترامب بالطبع على الصفقات التجارية المربحة للشركات المرتبطة بعائلته، وهو ما سيخلق المزيد من التداخل بين مصالح ترامب التجارية الخاصة والسياسة الخارجية لواشنطن. وتتمتع دار الأركان (الشركة الأم لدار جلوبال) بعلاقات عميقة مع منظمة ترامب بحسب التقرير.
وفي السنوات الأخيرة، وقعت الشركتان صفقات لإنشاء أبراج فاخرة وفيلات ومنتجع وملعب غولف في السعودية والإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان. ومن المقربين من ترامب ياسر الرميان، المقرب من محمد بن سلمان والذي يرأس صندوق الاستثمار العام السعودي ويرأس "ليف غولف".
وعلق كامرافا قائلا: "في الماضي، لم ير ترامب أي حاجة للتمييز بين مصالحه المالية والمصالح الوطنية للولايات المتحدة، ومن المرجح أن يستمر في السعي وراء كليهما سواء تولى منصب الرئاسة أم لا".
وذكر قويليام من تشاتام هاوس قائلا: " إن التعاملات التجارية للشركات المرتبطة بعائلة ترامب في السعودية على مدى السنوات الأربع الماضية ستؤثر بلا شك على سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة تجاه المملكة.
وقال، إن العلاقات الشخصية بين الاثنين ستشكل نهج الإدارة تجاه السعودية، لكن ترامب سيتوقع من نظرائه السعوديين أن يخدموا المصالح الأوسع لأمريكا أولا، حتى يتمكن الرئيس من عرض فوائد العلاقات الوثيقة مع المملكة لقاعدته السياسية".
ومع ذلك "لا تزال هناك شكوكا عميقة بين النخبة السياسية الأمريكية والرأي العام من السعودية. وإذا كان ترامب سيتغلب على مثل هذه الشكوك، فيجب عليه إثبات أن العلاقات القوية لا تفيد الولايات المتحدة فحسب، بل وقاعدته أيضا، وبهذا، فمن المرجح أن نشهد منح عقود رئيسية للشركات المرتبطة بعائلة ترامب، والتي سيعلن عنها الرئيس على أنها نجاحات للولايات المتحدة" بحسب قويليام.
وعلى العموم، ستظل التوترات الجيوسياسية التي طبعت علاقات أمريكا مع السعودية قائمة ولن تختفي بسبب الطبيعة المعاملاتية لترامب وقبول السعودية لها.
ويقول ريان بول، المحلل البارز للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في شركة "أر إي أن إي" (رين) لتقييم المخاطر ، بأنه على الرغم من كل تعهدات الاستثمار والخطاب الداعم من محمد بن سلمان، فإن الإدارة الأمريكية الجديدة ستواجه تحديا لإقناع الرياض بإجراء تغييرات تعود بالنفع حقا على واشنطن جيوسياسيا.
وأضاف، أن ترامب سيواجه صعوبة في إقناع السعوديين لخفض أسعار النفط، ذلك أن رؤية 2030 تعتمد على مستويات عالية من الإيرادات من قطاع الهيدروكربون في السعودية.
وعلى الرغم من وقف إطلاق النار الهش في غزة، فإن انضمام المملكة إلى اتفاقيات إبراهيم، التي يريدها ترامب بشدة، يظل غير واقعي إلى حد كبير بسبب الرأي العام في المملكة ومدى ارتفاع تكاليف التطبيع مع إسرائيل بالنسبة للرياض بحسب ريان بول.
وفي نفس الوقت، فلن يكون فريق ترامب في وضع يجعلهم قادرين على إبعاد السعودية عن الصين، نظرا للقيمة التي توليها الرياض للعلاقة مع بيجين، وبخاصة في سياق رؤية 2030.
وعلى الرغم من أن تحدي الصين سيكون محور تركيز ترامب في ولايته الثانية، "فقد لا ترغب السعودية في التعاون مع واشنطن في محاولات عزل الصين اقتصاديا"، كما قال بول. و "سترغب السعودية في اللعب على الجانبين قدر استطاعتها".
وعلى نحو مماثل، فإن الكثير مما تريده السعودية من الولايات المتحدة في عهد ترامب، من الدعم الأمريكي الحقيقي للدولة الفلسطينية إلى المساعدة في الصناعة النووية للمملكة ومعاهدة دفاع أمريكية سعودية رسمية، ربما يظل بعيد المنال، بحسب التقرير.
وكما قال ثيروس، السفير السابق: "قد تكون هذه صفقات كبيرة جدا حتى بالنسبة لملك الصفقات".