سوف يتذكر السودانيون أن أقسى أيام الحرب هي تلك الأيام التي انقطعت فيها خدمة الاتصالات عن البلاد
تاريخ النشر: 12th, February 2024 GMT
إنتر نوط!
● سوف يتذكر السودانيون أن أقسى أيام الحرب هي تلك الأيام التي انقطعت فيها خدمة الاتصالات عن البلاد.
استمعت خلال هذه الأيام إلى مقابلات تلفزيونية مع خبراء وصفوا الاتصالات بأنها (عصب الحياة).
● في هذه المناسبة هنا نتذكر بعض وسائل الاتصالات التي عرفناها في مقتبل عمرنا، مما قد يدخل العجب على جيل الألفية عندما يسمع عنها.
● أذكر في منتصف الستينيات اجتمع المواطنون في مسجد قريتنا واتفقوا على إرسال برقية (تلغراف) إلى الجمعية التأسيسية يطالبون بالدستور الإسلامي. ووقع الاختيار على شخصي لأتولى حمل البرقية إلى مكتب البوستة، فركبت حمارا مدة ساعتين لكي أصل إلى (بوستة فريج) كما كان اسم فرّيق يكتب في تلك الأيام.
● التلغراف هو وسيلة الاتصالات السريعة في ذلك الوقت. كان المواطن لو تعذر عليه الدخول إلى مسؤول حكومي بسبب تعنت سكرتاريته أو لانشغال مكتبه يذهب إلى مكتب البوستة ويبعث بتلغراف إلى المسؤول يحمل عبارة واحدة: مظلوم بالباب.
● وكانت الخطابات البريدية تأخذ أياما وربما أسابيع حتى تصل. والخطابات نوعان: عادي ومسجل (مسوكر)، والمسجل عادة يحمل تحويلا ماليا أو يحمل وثيقة مهمة، ولذلك يسمونه البريد المضمون.
وهناك الخطاب المغرم الذي يكون مرسله قد كتب على الظرف حرف T والخطاب عندئذ لا يتسلمه المرسل إليه إلا بعد دفع ثمن طابع البريد (قرشين). واليوم الذي يصل فيه البريد إلى مدرستنا يوم مشهود. يقف أحد عمال المدرسة يحمل رزمة الخطابات وينادي على الأسماء، وكل من يسمع اسمه يتقدم إلى العامل في زهو شديد ليأخذ خطابه بيمينه.
● الباخرة النيلية التي ترسو في محطة مدينة الدبة ونحن طلاب هناك، يسمونها (البوستة)، لأنها تحمل البريد فيما تحمل، ومندوب مكتب البريد هو أول من يصعد للباخرة يسلم الطرود المسافرة ويتسلم طرود البريد الواردة وينقلها إلى مكتب البريد.
● في فترة لاحقة رأينا الإرسال بالتلكس وهو مبرقة حديثة، أدخل نقلة في عالم الاتصالات لأن الرد غالبا يأتي على الفور.
أذكر كيف أنني أردت الحصول على مرجع من جامعة باث البريطانية، فذهبت إلى مكتب البريد في مدينة الرياض وبعثت ببرقية جوابية إلى أمين المكتبة بتلك الجامعة، فردت المكتبة في الحال بمعلومات تفصيلية عن المرجع الدراسي.
وحين أردت الحصول على معلومات من رسالة ماجستير في جامعة مصرية، لم أجد بدا من السفر للقاهرة للاطلاع على ذلك المرجع بعد أن قدمت طلبا إلى عميد الكلية. وقيل لي لا بد من وضع ورقة دمغة على الطلب، فسألت: أين أجد الدمغة؟ فيسر الله أمري حين وجدتها لدى عاملة من عاملات الكلية.
● ثم جاء عصر الفاكس، وصار من أعجب العجب أن تدخل ورقة في جهاز، فتخرج صورة طبق الأصل منها في مكان آخر.
● ثم جاء الانترنت وتوابعه، وما نزال نرقب التطور الهائل في الاتصالات حتى غدا البحث في موضوعها هو شأن المختصين في تخصص (الأعصاب)… ألم يقل الخبراء أن الاتصالات هي (عصب الحياة). كتبت العالمة سوزان قرينفيلد المتخصصة في دراسة الأعصاب كتابا فريدا عن الاتصالات عنوانه: التغير العقلي كيف تترك التقنيات الرقمية بصمتها على عقولنا.
● ونتذكر كيف أن البداية جاءت صعبة في أول ظهور الانترنت خاصة في الدول النامية.
كنا عام ٢٠٠٥م نزور دولة إفريقية، ونجري اتصالاتنا في الفندق الذي نقيم فيه بغرفة رجال الأعمال حيث وضعت أجهزة كمبيوتر. كان الدخول إلى الانترنت عملية شاقة جدا، إذ ينتظر طالب الخدمة أمام الكمبيوتر و(إنت وحظك). جلس إلى جواري على الجهاز أوروبي، أجرى عدة محاولات دون جدوى، وفي الأخير نهض ساخطا وهو يقول:
This is not Internet, this is INTERNOT.
● وفي الختام أذكر ما شاهدته في قصر الحجر بصنعاء، وهو القصر الشهير لإمام اليمن. في الطابق الأعلى من هذا القصر العجيب المبني فوق صخرة عظيمة، يوجد المكان الذي خصص للحمام الزاجل، ومنضدة كان يجلس إليها الشخص المكلف بإرسال البريد وتلقيه. وهو مكان مفتوح على الفضاء العريض.
ذكر الجاحظ (ت 255هـ) في كتابه “الحيوان” اهتمام العرب وولعهم بالحمام الزاجل الذي كانوا يُسمونه “حمام الهدّي”، بل كان عندهم دفاتر بأنساب الحمام كأنساب العرب، يقول: “ولولا الحمام الهدي (الزاجل)، لما جازَ أن يعلم أهل الرّقّة والموصل وبغداد ما كان بالبصرة وحدث بالكوفة في يوم واحد، حتى إن الحادثة لتكون بالكوفة غدوة (صباحا) فيعلمها أهل البصرة عشية ذلك.
رحم الله الجاحظ، ليته يعرف أنه بسبب الحرب انقطعت الاتصالات في كل بلاد السودان، فليس هناك شيء، لا فاكس ولا خطابات مسوكرة، ولا حتى حمام زاجل.
✍️ عثمان أبوزيد
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: إلى مکتب
إقرأ أيضاً:
دروس من تجربة الحرب الراهنة
دروس من تجربة الحرب الراهنة
تاج السر عثمان بابو
1أشرنا سابقا إلى أن الحرب اللعينة الراهنة، جاءت بهدف الصراع على السلطة وتصفية الثورة، وبدعم إقليمي ودولي لطرفي الحرب بالمال والسلاح بهدف نهب ثروات البلاد، وإيجاد موطئ قدم لها على ساحل البحر الأحمر.
فهي حرب كما أكدت التجربة بين مليشيات الإسلامويين وصنيعتهم الدعم السريع، كما في التهجير والنزوح الواسع الجاري لسكان ولايات الخرطوم، الجزيرة، دارفور، وبقية الولايات، وتدمير المصانع ومواقع الإنتاج الزراعى والخدمي و البنية التحتية، والنهب الكبير للأسواق والبنوك وممتلكات المواطنين ومنازلهم وعرباتهم، ومحاولات محو آثار البلاد الثقافية، وإضعاف البلاد ومواقع القوى الثورية المؤثرة في الحراك الجماهيري، فهى حرب ضد المواطنين وقوى الثورة كما في القمع وحملات الاعتقالات والاغتيالات والتعذيب الوحشي والمحاكمات الجارية، والبلاغات الكيدية التي يقوم بها طرفا الحرب ضد المعارضين السياسيين ولجان المقاومة والناشطين في لجان الخدمات.
2إضافة لخطر المجاعة وتحويل الحرب، الى أهلية وعرقية واثنية تهدد أمن المنطقة والسلام الإقليمي والدولي، ودعوات تكوين الحكومة الموازية في مناطق الدعم السريع التي تهدد بتقسيم البلاد، وأدت إلى انقسام في تحالف “تقدم” بسببها ووجدت الدعوة رفضا واسعا من المواطنين، فلا بديل لوقف الحرب، والسماح بمرور الاغاثة والدواء للمتضررين، وخروج الدعم السريع والجيش من السياسة والاقتصاد ومن المدن.
انفجرت الحرب اللعينة بعد تصاعد المقاومة لانقلاب 25 أكتوبر، ومجازر دارفور والمناطق الطرفية الأخرى، وبعد أن أصبحت سلطة انقلاب 25 أكتوبر قاب قوسين أو أدنى من السقوط، وعقب الصراع الذي انفجر في الاتفاق الإطاري حول الإصلاح الأمني والعسكري في قضية الدعم السريع حول مدة دمج الدعم السريع في القوات المسلحة، فضلا عن توفر الظروف الموضوعية لإسقاط الانقلاب، كما في الثورات والانتفاضات السابقة التي أسقطت الأنظمة العسكرية الديكتاتورية بسلاح الاضراب السياسي العام.
3 وتبقى أهم دروس الحرب اللعينة في الآتي:– طرفا الحرب ارتكبا جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي وعنف جنسي وجرائم ضد الانسانية، وهي امتداد للجرائم السابقة كما في مجزرة فض الاعتصام، والابادة الجماعية والتهجير القسري في دارفور وبقية المناطق، وجرائم الانقاذ ضد الانسانية لأكثر من 30 عاما.
ضرورة المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب، لمنع تكرار تلك الجرائم.
– خطر المليشيات وضرورة حلها وقيام الجيش القومي المهني الموحد الذي يعمل تحت إشراف الحكومة المدنية، كما في (الدعم السريع، مليشيات الإسلامويين، الحركات المسلحة، درع البطانة. الخ)، فهى خطر على وحدتها واستقرارها وأمنها وسيادتها الوطنية، فكان من شعارات ثورة ديسمبر “حرية سلام وعدالة- الثورة خيار الشعب”، و”السلطة سلطة شعب والعسكر للثكنات والجنجويد ينحل”.
– أكدت التجربة خطل الاتفاقات الهشة بتدخل دولي واقليمي لقطع الطريق أمام الثورة، فضلا عن تكريسها للمليشيات وجيوش الحركات كما في الوثيقة الدستورية 2019 التي انقلب عليها تحالف اللجنة الأمنية ومليشيات الإسلامويين والدعم السريع وجيوش حركات جوبا في 25 أكتوبر 2021 الذي تدهورت بعده الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والأمنية، ووجد مقاومة باسلة.
وجاء الاتفاق الإطاري ليكرر خطأ “الوثيقة الدستورية” الذي كرّس وجود الدعم السريع واتفاق جوبا، وهيمنة العسكر، مما أدى لانفجار الأوضاع في البلاد والحرب، وهو في جوهره صراع على السلطة ونهب ثروات البلاد، وانعكاس لصراع المحاور الاقليمية والدولية في السودان، والتدخل الدولي الكثيف فيه.
– بعد وقف الحرب بعد هذه التجربة المريرة لا عودة للاتفاقات الهشة لتقاسم السلطة التي تعيد إنتاج الحرب بشكل اوسع، وتهدد استقرار ووحدة البلاد، كما في الدعوات وورش العمل الجارية برعاية دولية للعودة للاتفاق الإطاري بعد وقف الحرب، ولا بديل عن كامل الحكم المدني الديمقراطي، واستدامة الديمقراطية والتنمية المتوازنة والسيادة الوطنية.
إضافة لمواصلة توسيع قاعدة النهوض الجماهيري لوقف الحرب واسترداد الثورة، ومقاومة جماهير المدن والريف للتهجير والنزوح، ومواصلة المطالبة بالعودة لمنازلهم وقراهم، عدم ترك أراضيهم وممتلكاتهم لمليشيات الدعم السريع و”الكيزان”. وتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والصحية والأمنية التي تدهورت بشكل لا مثيل له.
– مواصلة الوجود والمقاومة في الشارع في الداخل والخارج بمختلف الأشكال، حتى وقف الحرب والانتفاضة الشعبية والاضراب السياسي العام والعصيان المدني لإسقاط الانقلاب، وانتزاع الحكم المدني الديمقراطي، وقيام المؤتمر الدستوري في نهاية الفترة الانتقالية للتوافق على شكل الحكم ودستور ديمقراطي وقانون انتخابات ديمقراطي يفضي لانتخابات حرة نزيهة في نهاية الفترة الانتقالية، وتحقيق بقية أهداف الثورة..
الوسومالإسلامويين الاتفاق الإطاري الجنجويد الدعم السريع السودان اللجنة الأمنية انقلاب 25 اكتوبر 2021 تاج السر عثمان بابو ثورة ديسمبر