الخليج الجديد:
2024-07-06@14:04:25 GMT

فيديوهات جنود الاحتلال: نزوع إبادة غرائزي؟

تاريخ النشر: 12th, February 2024 GMT

فيديوهات جنود الاحتلال: نزوع إبادة غرائزي؟

فيديوهات جنود الاحتلال: نزوع إبادة غرائزي؟

فقرات التقرير تشير لأشرطة تُظهر جنود الاحتلال وهم يعيثون تخريباً في متاجر محلية وغرف مدرسية، مع تعليقات تحقيرية بحقّ الفلسطينيين.

فيديوهات الجنود ليست وحدها الدليل على اتساع ظواهر العنف إذْ سبق لوزير الدفاع الإسرائيلي أن أطلق صفة «الحيوانات البشرية» على سكان القطاع.

تحقيق نيويورك تايمز يبدأ باقتباس عبارة: «توقفتُ عن إحصاء عدد المساكن التي محوتُها عن وجه الأرض»، التي تركها أحد أولئك الجنود وشاهدها مئات الآلاف.

تظهر الفيديوهات انخراط بلدوزارات الاحتلال في تدمير منشآت مدنية؛ وهتافات تدعو لإعادة استيطان قطاع غزّة، وتستعيد خطاب ساسة اليمين الإسرائيلي المتطرف.

صرح رئيس إسرائيل: «أمّة غزة مسؤولة بأكملها»، وطالب وزير التراث باستخدام السلاح النووي لمحو غزة؛ وهرع نتنياهو للتوراة ليربط الإبادة بالعماليق والفلسطينيين.

أحفاد الفاشيين الصهاينة، كالجندي الذي ملّ من إحصاء الخرائب، سئموا كبح الغرائز الجامحة فأطلقوا عنانها: ضدّ مدرسة أو مكتبة أو مستشفى؛ ما دامت الأنفاق تستعصي عليهم.

* * *

خمسة من صحافيي «نيويورك تايمز» الأمريكية عكفوا على دراسة مئات من أشرطة الفيديو التي سجّلها جنود الاحتلال الإسرائيلي، بأنفسهم ولأنفسهم أو لأصدقائهم وأقربائهم (الأطفال خصيصاً) ونسائهم (زوجات أو حبيبات)، وذلك منذ بدء حرب الإبادة ضدّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة.

ثمّ عمد كثيرون منهم إلى تحميل تلك المشاهد على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، وخاصة TikTok وتحقيق الصحيفة يبتدأ من اقتباس هذه العبارة: «توقفتُ عن إحصاء عدد المساكن التي محوتُها عن وجه الأرض»، التي تركها أحد أولئك الجنود، وشوهدت من مئات الآلاف.

ليست نيويورك تايمز مناوئة لدولة الاحتلال، والعكس التامّ هو الصحيح بالطبع، وهذا اعتبار أوّل قد يصحّ الانطلاق منه لتلمّس أسباب الصحيفة وراء نشر مادّة بغيضة منفّرة، تبلغ بعض فقراتها مستوى من التفضيح يداني تجسيد همجية عنفية حشوية، غريزية أحياناً وحيوانية في أمثلة أخرى ودموية غالباً. صحيح أنّ هذه التوصيفات لا تُستخدم من الصحافيين الخمسة، ولكن عدم اللجوء إليها حرفياً لا يطمس في شيء ما يحتشد بين سطورها من دلالات صريحة لا ريب في استقراء معانيها.

صحيح أنّ الفقرة الثانية في التحقيق تسارع إلى الإيضاح بأنّ بعض هذه اللقطات «تخرق تعليمات قوات الدفاع الإسرائيلية»، غير أنّ الفقرات التالية لا تعفّ عن الإشارة إلى أشرطة تُظهر جنود الاحتلال وهم يعيثون تخريباً في متاجر محلية وغرف مدرسية، مع تعليقات تحقيرية بحقّ الفلسطينيين، ومشاهد انخراط بلدوزارات الاحتلال في تدمير منشآت مدنية؛ مترافقة مع هتافات تدعو إلى إعادة الاستيطان في قطاع غزّة، وتستعيد خطاب ساسة اليمين الإسرائيلي المتطرف.

كذلك لا يغفل التحقيق الإشارةَ إلى أنّ واحداً من هذه الفيديوهات عُرض خلال مداولات قضية جنوب أفريقيا ضدّ دولة الاحتلال أمام محكمة العدل الدولية، كما اقتُبست خمسة أشرطة أخرى، في سياق البرهنة على نزوعات الإبادة.

كما يشدد على عنصرَيْن ضمن مسعى الموضوعية المهنية (والحرص على ردّ اعتبار دولة الاحتلال أيضاً، غنيّ عن القول): أنّ الصحافيين تحققوا، جيداً، من صحة مواقع تصوير الأشرطة وأنها تقع بالفعل في مناطق القطاع المختلفة؛ وأنّ أياً من الجنود الإسرائيليين، أصحاب الأشرطة، لم يقبل التعليق على شريطه عند التواصل معه.

ورغم أنّ هذه السطور لا تعتمد التعميم الإطلاقي، حول تأصّل نزوعات الإبادة على نحو غريزي وحشوي لدى كلّ وأيّ جندي إسرائيلي؛ إلا أنّ مئات الفيديوهات التي توثّق أعمال الاحتلال الهمجية، وأكثر من 27 ألف شهيد حتى الساعة في صفوف الفلسطينيين المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة، تبيح مقداراً غير ضئيل من حقوق توسيع ظواهر التوحش العسكري الإسرائيلي خارج النطاقات الفردية، نحو ما يمكن اعتباره سلوكاً جَمْعياً مَرَضياً، لا تغيب عنه الهستيريا.

ما يعفّ عنه صحافيو «نيويورك تايمز» هو التذكير بأنّ فيديوهات الجنود ليست وحدها الدليل على اتساع الظواهر العنفية هذه، إذْ سبق لوزير الدفاع الإسرائيلي أن أطلق صفة «الحيوانات البشرية» على سكان القطاع، ولم يتردد رئيس دولة الاحتلال في التصريح بأنّ «أمّة غزة مسؤولة بأكملها»، وطالب وزير التراث باستخدام السلاح النووي ضدّ القطاع؛ وأمّا بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة الاحتلال، فقد هرع إلى التوراة ليقيم الصلة الإبادية بين العماليق والفلسطينيين.

وفي عشرينيات القرن العشرين كان أبا أخيمئير، أحد مؤسسي الحزب «التنقيحي» الفاشي صحبة زئيف جابوتنسكي، يستهوي تشبيه الأخير بأمثال موسوليني، ويطلق عليه لقب «دوتشي يهودا والسامرة»؛ أمّا في عشرينيات القرن الحالي فلعلّ أحفاد هؤلاء، أمثال الجندي الإسرائيلي الذي ملّ من إحصاء الخرائب، سئموا أيضاً كبح الغرائز الجامحة فأطلقوا لها العنان: ضدّ مدرسة أو مكتبة أو مستشفى؛ ما دامت الأنفاق لا تستعصي عليهم في قليل، بل في كثير معقد مديد.

*صبحي حديدي كاتب سوري مقيم بباريس

المصدر | القدس العربي

المصدر: الخليج الجديد

كلمات دلالية: غزة فيديوهات إسرائيل التوراة الأنفاق الحيوانات البشرية جنود الاحتلال نيويورك تايمز جنود الاحتلال نیویورک تایمز قطاع غز ة

إقرأ أيضاً:

إبادة عرقيّة وإبادة مجتمعيّة

إيهاب بزاري*

مرّت الحركة الصهيونيّة بمجموعة من المحطّات المفصليّة في تاريخ تطوّرها، بداية من وضع يهود أوروبّا الشرقيّة الخاصّ الّذي شكّل دافعًا للبحث عن ’الخلاص الاجتماعيّ‘؛ إذ كانوا يعيشون بعزلة اجتماعيّة ضمن نطاق الجيتو، واقتصرت أنشطتهم على العمل في بعض الحرف، على العكس من يهود أوروبّا الغربيّة الّذين عاشوا حياة أفضل من حيث الحقوق والمواطنة، إلّا أنّ الحرب العرقيّة المتزايدة في أواخر القرن التاسع عشر حالت دون محاولات اليهود في الاندماج، ودفعت بالصهاينة الاشتراكيّين إلى الخروج بخطاب الخلاص الاجتماعيّ، وهو العودة إلى فلسطين[1].

منذ أن بدأت الهجرات الصهيونيّة إلى فلسطين، وبعد إعلان تشكيل الدولة الإسرائيليّة، ظلّ التيّار الصهيونيّ اليساريّ مهيمنًا على الساحة السياسيّة حتّى سبعينات القرن الماضي، حيث عمل على بناء القواعد الأساسيّة للدولة، وخاض أبرز معاركها، وهما معركة ’التطهير‘ في عام 1948، وإعلان استقلال الدولة، ومعركة ’التطهير‘ الثانية في عام 1967، والاستيلاء على كامل فلسطين. وفي ظلّ الحكم الصهيونيّ الاشتراكيّ، حاولت الصهيونيّة الدخول بمجموعة من الاتّفاقيّات للتسوية مع الفلسطينيّين، أوّلها الترحيب باتّفاق التقسيم الصادر عن «الأمم المتّحدة» في عام 1947[2]، وآخرها عند عودة اليسار الصهيونيّ الأخيرة للحكم، وإبرام «اتّفاق أوسلو» مع «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» بين 1992-1996[3].

ومع نهاية التسعينات خرج تيّار الصهيونيّة الاشتراكيّة من الساحة السياسيّة مفسحًا المجال لولادة الصهيونيّة الجديدة بقيادة الحركات اليمينيّة. وبغضّ النظر عن اليمين واليسار الصهيونيّين، فهم يشتركون معًا بالتطهير العرقيّ للسكّان الأصليّين؛ من أجل بناء دولة الخلاص الاجتماعيّ لتحقيق الفكرة الصهيونيّة، إلّا أنّهم يختلفون بتكتيك عمليّة التطهير العرقيّ؛ إذ يرى اليسار أهمّيّة الغطاء الدوليّ والطرق المثلى لعمليّة التطهير العرقيّ، بينما لا تهتمّ الصهيونيّة اليمينيّة للمواقف الدوليّة وصورتها أمامهم؛ فهي مكتفية بالدعم المسيحيّ-الصهيونيّ المحافظ، وأنّ النهاية المنطقيّة للصهيونيّة اليمينيّة هي النهاية المنطقيّة للمشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ في فلسطين[4].

مع نهاية التسعينات خرج تيّار الصهيونيّة الاشتراكيّة من الساحة السياسيّة مفسحًا المجال لولادة الصهيونيّة الجديدة بقيادة الحركات اليمنيّة…

تتقاطع الحركة الصهيونيّة مع أنظمة الاستعمار الإحلاليّ حول العالم، وتتفوّق عليها في أحيان كثيرة؛ إذ إنّ فعل التخلّص من السكّان الأصليّين صفة مشتركة بين الأنظمة الإحلاليّة عبر التاريخ، مثل النموذج الأمريكيّ والأستراليّ بإبادة السكّان الأصلانيّين. في فلسطين، تمارس الدولة الصهيونيّة فعل التطهير العرقيّ من خلال مختلف الوسائل المتاحة والممكنة للتخلّص من أكبر قدر من الفلسطينيّين، والاستحواذ على أكبر قدر من الأرض. وقد حوّلت هذه الشهوة الجغرافيّة فلسطين التاريخيّة إلى أكبر سجن في العالَم، وذلك ليس لمساعٍ أمنيّة تهدّد الكيان الصهيونيّ؛ بل لأسباب متعلّقة بأيديولوجيّتها الّتي تسعى إلى تفريغ الأرض من ساكنيها؛ بهدف تهويد فلسطين ونزع عروبتها[5]. وبالإشارة إلى فعل التطهير المستمرّ للفلسطينيّين، نطرح تساؤلنا: ما أشكال التطهير الّتي يتعرّض لها الشعب الفلسطينيّ من منظور سوسيولوجيّ؟

الإبادة المجتمعيّة مقابل الإبادة الجماعيّة

تشكّلت بدايات تناول فعل التطهير العرقيّ والإبادة رسميًّا من قِبَل «الأمم المتّحدة» في عام 1948، وذلك من خلال إصدار «قانون تجريم الإبادة»، الّذي تخلّله محادثات متكرّرة عن ممارسات للتطهير في فلسطين، وفي الهند وباكستان واليابان، وغيرها من الدول الّتي خضع شعبها للتطهير، إلّا أنّ القانون برمّته خرج لتلبية نداء أبيض؛ فجرائم الهولوكوست النازيّة ضدّ اليهود دفعت «الأمم المتّحدة» إلى بلورة «قانون تجريم الإبادة الجماعيّة». على الرغم من ذلك، لم يُعْجِب هذا القانون المركزيّ الأبيض المفكّر اليهوديّ أرنو ماير، الّذي يرفض حصر ما حصل لليهود في إطار الهولوكوست والإبادة العرقيّة، إنّما استبدال مفهوم أكثر وقعًا به، وهو إبادة/ قتل اليهود؛ لكيلا تتساوى إبادة اليهود بأيّ إبادة أخرى، وتبقى الحالة اليهوديّة حالة استثنائيّة ومركزيّة. لذلك سنتطرّق إلى مفهوم أوسع من الإبادة العرقيّة (Genocide)، وهو الإبادة المجتمعيّة، الّذي يشير إلى تدمير جميع المقوّمات المجتمعيّة، مثل القرى والمدن، والتشييد الحضريّ والعمرانيّ والتاريخيّ، والبنى التحتيّة، والثقافة، والاقتصاد، وغير ذلك[6].

لقد عَمِلَ الاستعمار الإسرائيليّ على استخدام مجموعة كبيرة من أدوات الإبادة على الشعب الفلسطينيّ من أجل إنجاح المشروع الصهيونيّ؛ فاستكمالًا للمشروع الاستيطانيّ لفلسطين التاريخيّة منذ ما قبل النكبة، وتهجير ما أمكن من السكّان الأصليّين من المناطق الّتي وقعت تحت السيطرة الإسرائيليّة خلالها، اتّخذ الاستعمار قرارًا ببناء المستوطنات إبّان حرب حزيران (يونيو) عام 1967؛ من أجل ضمّ أكبر قدر ممكن من الأراضي الفلسطينيّة، وبناء مشهد جيوسياسيّ مجتزأ ومشتّت في الضفّة الغربيّة. وذلك في سياق تحقيق ما عجزت إسرائيل عنه في حرب 1948، وستعوّضه في بناء المستوطنات ومصادرة الأراضي في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، على الرغم من دخولهم حيّز المفاوضات؛ للنظر في واقع الفلسطينيّين القاطنين فيهما، دون اهتمام المستعمِر لضمّهم إلى الدولة الاستعماريّة، أو تهجيرهم الكثيف كما حدث خلال عامي 1947-1949 وعام 1967[7].

اتّخذ الاستعمار قرارًا ببناء المستوطنات إبّان حرب حزيران (يونيو) عام 1967؛ من أجل ضمّ أكبر قدر ممكن من الأراضي الفلسطينيّة، وبناء مشهد جيوسياسيّ مجتزِئ ومشتّت في الضفّة الغربيّة…

تشكّل عمليّة بناء المستوطنات في الضفّة الغربيّة وغربيّ القدس – ما تُعْرَف بمنطقة ’غوش عتصيون‘ –  والمناطق الحدوديّة مع الأردنّ، مواجهة للسكّان الأصليّين، وتحديد أماكن تجمّعهم عبر الإقصاء والمحاصرة من جهة، وهندسة معماريّة حضريّة أمنيّة للدولة من جهة أخرى؛ إذ عَمِلَ النظام الإسرائيليّ بعد انهيار «خطّ بارليف» في عام 1973، على إعادة النظر في الحدود الموسّعة الّتي حصل عليها إبّان حرب 1967، وإمكانيّات السيطرة على هذه ’البحبوحة‘ الجيوسياسيّة غير المتوقّعة في مخيالهم الاستعماريّ، وذلك عبر الهندسة الحضريّة الأمنيّة الّتي ستشكّل مأسسة واضحة لحدود الدولة، وذلك مثل شريط المستوطنات الحدوديّ مع الأردنّ، وشريط المستوطنات المتعرّج في الضفّة الغربيّة حول المدن والقرى الفلسطينيّة[8].

إنّ الإبادة المجتمعيّة متعدّدة السياقات لا تكتفي بالأرض وحدها؛ فهي تحاول تفكيك كلّ مركّبات المجتمع الّتي ستحلّ مكانه؛ ففي اجتياح بيروت في عام 1982 عملت آلة الحرب الإسرائيليّة في رأس بيروت، ولمدّة أسبوع كامل، على مصادرة مقتنيات الأرشيف الفلسطينيّ لـ «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» عبر قوافل من الشاحنات العائدة إلى فلسطين المحتلّة، ودمّروا ما تبقّى في «مركز الأبحاث والأرشيف» في سياسة تسعى إلى إبادة مأسسة الذاكرة الفلسطينيّة وأرشيفها[9].

وخلال «انتفاضة القدس والأقصى»، عملت آلة الحرب الإسرائيليّة على مواجهة المقاومة الفلسطينيّة، وتوجيه ضربات لها عبر الفضاء المدينيّ؛ إذ مثّلت المدينة والمراكز الحضريّة مكانًا ملائمًا لهجمات المقاومة بالعمليّات المختلفة، وأبرزها الاستشهاديّة، الّتي اعتُبِرَتْ إسرائيليًّا حربًا ضدّ المدينة الإسرائيليّة. طبّقت الحكومة الإسرائيليّة آنذاك مبدأ الحرب على المدينة الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة، مثل نابلس وجنين وبيت لحم ورام الله الحديثة، بالهدم والحصار؛ من أجل القضاء على الفعل المقاوم.

ومع نهاية «انتفاضة القدس والأقصى»، عَمِلَ مركز الأبحاث العمليّاتيّ لجيش الاستعمار على طرح تكتيك جديد للعلاقة بالمدينة الفلسطينيّة، عبر استبدال نظام السيطرة المناطقيّة الدائمة إلى آخر يتجاوز حدود المكان[10]؛ أي احتلال للمدينة الفلسطينيّة والهيمنة على ساكنيها، بتكتيكات نفسيّة وعسكريّة تعتمد على القصف الجوّيّ والعمليّات الخاصّة المحدودة عندما يحتاج الأمر إلى ذلك. وما يعزّز عمليّة المراقبة والمداهمة فكرة بناء جدار شريطيّ شفّاف وواهٍ أمام المستعمِر، وخرسانة متينة أمام المستعمَر؛ إذ يتمكّن الإسرائيليّ من الحركة كما يريد منه وإليه، وتقيّد حركة المستعمَر بأذونات ممنوحة أو مسلوبة، وبالتالي يمكن للجيش الإسرائيليّ تنفيذ عمليّاته الحثيثة بشكل دقيق، وبناء نظام حكم ذاتيّ شديد النخر والتهالك للفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة[11].

هندسة الإبادة

تعمل الهندسة الاستعماريّة الجديدة على مبدأ معكوس لما جاء في «انتفاضة القدس والأقصى» (2000-2005) [المعروفة بالانتفاضة الثانية]؛ من انتهاك للمدينة الفلسطينيّة والقتال فيها بشكل مباشر عبر تحويل الداخل إلى خارج والعكس صحيح؛ ما يضاعف من أزمة الجغرافية الفلسطينيّة المشتّتة أساسًا بالمستوطنات؛ من خلال جدار الدولة الّذي يحدّد كلًّا من الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة في الخارج، مع غطاء جوّيّ يسيطر عليه الاستعمار، وإمكانيّات في النفاذ بسهولة، وتعقيدات في الحركة لكلّ مَنْ هم في الخارج، ويصبح جدار الدولة شكلًا من أشكال حدودها الداخليّة.

في ذات الوقت، لا تتوقّف الهندسة الاستعماريّة للإبادة المجتمعيّة على الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة فحسب، بل تطال كلّ ما هو عربيّ وفلسطينيّ في فلسطين التاريخيّة؛ ففي النقب يعمل المشروع الاستعماريّ على تهجير الفلسطينيّين وحصرهم في 7 مناطق سكنيّة مفصولة عن بعضها بعضًا، دون اتّصال جيوسياسيّ وجيواجتماعيّ مباشر بعد مصادرة أراضيهم، البالغة أكثر من مليونين ونصف المليون دونم. وبذلك؛ يتبقّى لهم من مجمل أراضيهم الزراعيّة والرعويّة 150 ألف دونم فقط. واليوم ثمّة 42 ألف منزل في النقب مهدّدات بالهدم في عدد من القرى منزوعة الاعتراف الرسميّ من قِبَل الاستعمار؛ وذلك لاستكمال مخطّط جلب مستعمِرين جدد إلى منطقة النقب والسيطرة على أراضٍ فيه[12]، ومن ضمن ذلك تغيير الأنماط الثقافيّة والاقتصاديّة لسكّان جنوب فلسطين المحتلّة، من حياة البداوة والريف إلى حياة تعتمد على المدينة الإسرائيليّة.

تعمل آلة الإبادة الاجتماعيّة أيضًا على تهويد المعالم التاريخيّة والدينيّة وأسرلتها؛ من خلال الهدم والمصادرة…

كما تعمل آلة الإبادة الاجتماعيّة أيضًا على تهويد المعالم التاريخيّة والدينيّة وأسرلتها؛ من خلال الهدم والمصادرة؛ إذ هدم الاستعمار 41% من المساجد داخل الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948 ما بين عامَي 1948 و1967، وحوّلت العديد من المساجد إلى أغراض أخرى، مثل مسجد قيسارية قضاء حيفا إلى خمّارة، ومسجد عين حوض إلى مرقص، ومسجد الظاهر عمر في الجليل إلى مطعم، وتحويل غيرها إلى معابد يهوديّة[13].

وعلى صعيد الذاكرة والمكان، تعمل آلة الإبادة على تغيير أسماء الأماكن العربيّة والفلسطينيّة؛ من خلال «هيئة تسمية الأماكن الإسرائيليّة»، إلى أسماء تاريخيّة أو عبريّة لأهداف الأسرلة والتهويد. بالإضافة إلى إقامة المشاريع التجاريّة والاقتصاديّة الّتي تهدف إلى تغيير المشهد الحضريّ، واستنزاف الذاكرة الحيّة مثل «مشروع القدس الكبرى» الّذي يبلغ أكثر من 44 ألف دونم، وعَمِلَ على توسعة القدس على حساب رام الله وبيت لحم، وأكثر من 60 قرية عربيّة؛ عبر مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات والطرق والحدائق العامّة، وتحديد النطاق الجغرافيّ للمدن الفلسطينيّة، واستقطاب أكبر قدر ممكن من اليهود إلى القدس؛ ليتصاعد المشهد الاجتماعيّ والحضريّ اليهوديّ للمدينة[14].

وما نشاهده اليوم في الحرب الجارية على قطاع غزّة، حالة هستيريّة من الإبادة المجتمعيّة الّتي تهدّد كلّ مقوّمات الوجود في القطاع، بمَنْ فيهم ساكنوه البالغ عددهم أكثر من مليونَي إنسان؛ إذ ارتكبت إسرائيل مجازر عديدة، ودمّرت المشهد الحضريّ والتاريخيّ؛ من خلال تدمير المعاهد والجامعات والمدارس والمواقع التاريخيّة والدينيّة، مثل المساجد والكنائس والمستشفيات، وحتّى الأراضي الزراعيّة الفارغة؛ من أجل تقويض أيّ عمليّة زراعيّة بعد نهاية الحرب. بالإضافة إلى تدمير موانئ ومرافئ القطاع للتأثير في أنشطة الصيد، وتدمير المكتبات ومؤسّسات المجتمع المدنيّ. إنّ الإبادة المجتمعيّة عمليّة تشمل كلّ مقوّمات الحياة للشعوب، من أنماطهم الاقتصاديّة والثقافيّة، ومعالمهم الحضريّة والعمرانيّة، وحتّى طبيعتهم الجغرافيّة.

 

خرّيج علم نفس وعلم اجتماع في «جامعة بيرزيت». يعمل في مؤسّسة «تامر للتعليم المحتمعيّ» منسّقًا للشباب والحملات، يهتمّ بحقل العلوم الاجتماعيّة.

 

[1] شوقي السكري، “الصهونيّة الجديدة”، المجلس الوطنيّ للثقافة والفنون والآداب، عدد 2(1984). 4.

[2] مرجع سابق.

[3] إيلان بابيه، “أصول النيو الصهيونيّة الجديدة ومستقبلها”، مجلّة الدراسات الفلسطينيّة، عدد 108(2016).5.

[4] مرجع سابق.

[5] إيلان بابيه، “أكبر سجن على الأرض: سرديّة جديدة لتاريخ الأراضي المحتلّة”، منظّمة التحرير الفلسطينيّة مركز الأبحاث، عدد 286(2021).7.

[6] باسم الخندقجي، “الإبادة الفرديّة في فلسطين المستعمرة”، مجلّة الدراسات الفلسطينيّة، عدد 136(2023)، ص 8.

[7] إيلان بابيه، “المستوطنات اليهوديّة في الضفّة الغربيّة الاحتلال والتطهير العرقيّ بوسائل أخرى”، مجلّة الدراسات الفلسطينيّة، عدد 91(2012)، ص 4.

[8]  إيال وايزمان، أرض جوفاء: الهندسة المعماريّة للاحتلال الإسرائيليّ (بيروت: الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، 2017) ص 129.

[9] هيئة التحرير، “النهب الإسرائيليّ لمركز الأبحاث إبادة الجنس وإبادة الذاكرة”، منظّمة التحرير الفلسطينيّة مركز الأبحاث، عدد 131(1982)، ص 7.

[10] إيال وايزمان، أرض جوفاء: الهندسة المعماريّة للاحتلال الإسرائيليّ، ص 330.

[11]  مرجع سابق، ص 331.

[12] هشام أسامة منور، “بعد محاولات تهويد القدس تهويد النقب في السياسة الصهيونيّة الرسميّة”، المنتدى الإسلاميّ، عدد 279(2010)، ص 4.

[13] نبيل السهلي، “تهويد المقدّسات في فلسطين”، مركز الدراسات الإستراتيجيّة، عدد 144(2013)، ص 6.

[14] علي السيّد علي محمود، “تهويد القدس العربيّة ثقافيًّا”، اللجنة الوطنيّة القطريّة للتربية والثقافة والعلوم، عدد 154(2005)، ص 15.

 

مقالات مشابهة

  • شاهد.. إغارة من نقطة الصفر لسرايا القدس على قوة إسرائيلية داخل منزل بالشجاعية
  • فصائل فلسطينية: مقتل وإصابة عدد من جنود الاحتلال في استهداف مقر قيادة إسرائيلي برفح
  • أخبار غزة.. الفصائل تعلن قتلها لـ10 جنود والاحتلال الإسرائيلي يبدأ عمليات خاصة
  • فأر يثير ذعر جنود إسرائيليين أثناء اقتحام أحد المباني .. فيديو
  • «فأر» بأحد منازل غزة يتسبب في هلع وخوف الجنود الإسرائيليين (فيديو)
  • جنود الاحتلال يصابون بـ الرعب بسبب فأر خرج عليهم من إحدى بنايات غزة (فيديو)
  • إبادة عرقيّة وإبادة مجتمعيّة
  • كيف يحاول الاحتلال إبادة الوجود الفلسطيني من التاريخ؟!
  • كمين مثير للقسام ضد قوة للاحتلال في حي الشجاعية.. ذخيرة الجنود انفجرت
  • كمين مثير للقسام ضد قوة للاحتلال في حي الشجاعية.. ذخيرة الجنود انفجرت (شاهد)