ميشيل عفلق، مفكر وأديب وسياسي قومي سوري، ولد في دمشق عام 1910، كان أحد مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي، ومن أبرز منظريه، جمع مفاهيم القومية والوحدة والحرية والاشتراكية في بوتقة فكرية واحدة، وقدمها عبر العديد من المصنفات، وظلت كتاباته لأكثر من عقدين من الزمن تمثل النص العقائدي المركزي لهذا الحزب.

شغل منصب أمين عام حزب البعث في سوريا ثم العراق، وتولى وزارة المعارف عام 1949، وساهم وحزبه في اتحاد سوريا ومصر عام 1958، وقد تعرض مرارا للسجن والملاحقة مما اضطره لمغادرة سوريا، واللجوء إلى دول أخرى، وتوفي عام 1989 في باريس، ودفن في بغداد.

النشأة والتكوين العلمي

ولد ميشيل يوسف عفلق يوم 10 ديسمبر/كانون الأول 1910 في حي الميدان بدمشق، ونشأ في عائلة متوسطة من الطائفة المسيحية الأرثوذكسية، وتعود أصول والده إلى راشيا الوادي في لبنان، أما والدته سمية زيدان فهي من مدينة حمص.

وكان مثقفا واسع الاطلاع، قد قرأ كثيرا في الأدب العربي والتاريخ والفلسفة، وقرأ روايات جرجي زيدان في التاريخ الإسلامي، وشمل اطلاعه التراثي على ديوان اللزوميات لأبي العلاء المعري وديوان أبي الطيب المتنبي، وتأثر بأدب المهجر وكتابات إسماعيل مظهر وشبلي الشميل، وكان لذلك كله أثر في صياغة عقله وفكره.

تزوج من الطبيبة أمل بشّور، وأنجبا 4 أبناء: بنت وأسماها رزان وثلاثة ذكور هم إياد ونزار وزياد.

الاشتراكية الماركسية

وقد تلقّى تعليمه بالمدارس الفرنسية في سوريا أثناء الانتداب الفرنسي، ونال شهادة الدراسة الثانوية من مدرسة "التجهيز".

وقد تفوق في دراسته، فأوفدته الحكومة إلى جامعة السوربون في باريس عام 1929، حيث نال شهادة البكالوريوس في التاريخ مع مرتبة الشرف عام 1933.

وتأثر بالحضارة الغربية، وخلال سنوات دراسته الجامعية اعتنق الفكر الاشتراكي الماركسي، وكان يدعو لتحرير العرب من القوى التقليدية الأرستقراطية ومن الهيمنة الأوروبية.

التوجه الفكري

كان عفلق فيلسوفا ومفكرا وأديبا، وكانت له رؤى فكرية تنظم عمله السياسي، وقد حاول التوفيق بين القومية العربية والاشتراكية والعلمانية والإسلام.

وبدأ فكره بالتشكل في باريس، حيث اطلع على أعمال كتّاب وفلاسفة أمثال فريدريك نيتشه وكارل ماركس وفيودور دوستويفسكي وليو تولوستوي وهنري برغسون وأناتول فرانس وأندريه جيد.

واتسم فكره بنزعة "إنسانية مثالية" أقرب إلى الصوفية، وتأثر بالفكر الاشتراكي، وكان يرى أن الاشتراكية حل لكل المشكلات العربية.

وكان من رواد الفكر القومي المعاصر ومن أبرز منظريه، وكان فكره قوميا وحدويا، يميل إلى الاندماج والاتحاد، على وجه ليس معتادا في تاريخ الحركة الحزبية العربية.

كما تحدث بإيجابية على الدوام عن رسالة الإسلام بوصفها من "مكونات القومية في الأمة العربية" فهو ينظر إلى الإسلام من منظور قومي، إذ أن الإسلام عنده مرتبط بالعروبة ارتباط الروح بالجسد، ويرى في تجربة الإسلام وحياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم "استعدادا دائما للنهضة العربية، وأن الحركة القومية يمكن أن تستلهم تلك التجربة الإنسانية الفذة".

وكان يعلن رفضه للإلحاد تحت ستار العلمانية، ولكن رغم ذلك سمح للحزب الشيوعي بالعمل والنشاط عقب انقلاب عام 1963 في سوريا، وحظر الأحزاب والجماعات ذات المرجعية الإسلامية.

وكان شديد الحرص على حرية الرأي والتعبير، ومن أكثر المنظرين للحرية بوصفها منهج حياة ينبغي ترسيخها في الواقع السياسي والاجتماعي، وإن ظهرت كثير من تجليات التناقض بين فكره وسلوكه فيما يتعلق بالحرية والديمقراطية.

وجمع مفاهيم القومية والوحدة والحرية والاشتراكية في بوتقة فكرية واحدة، وقدمها بلغة بلاغية مميّزة، وأسلوب خاص ومنهج فكري له طابعه الشخصي ومنحاه الذاتي.

كما أنه قرَن الفكر بالممارسة السياسية، وأعطى الفكر القومي العربي مضمونا اجتماعيا معبّرا عنه "بتلازم القومية والاشتراكية" وتفاعلهما، والنزوع الروحي الإنساني والمنحى الرومانسي التصوّفي.

عفلق في شبابه (الفرنسية) التجربة العملية والمهنية

بلْور عفلق أفكاره الحزبية في فرنسا، وبدأ نشاطه السياسي هناك، حيث كان يدعو الشباب العرب المشارقة والمغاربة إلى الوحدة والقومية العربية، وقد وجدت هذه الدعوة استجابة لدى بعض الشباب العرب وبخاصة أصدقاءه، ومنهم صلاح الدين البيطار الذي كان يَدرس الفيزياء آنذاك، فتعاهدا على العمل معا.

وبعد عودة عفلق والبيطار من باريس عام 1933 عملا بالتدريس في ثانوية "التجهيز الأولى" أكبر مدارس دمشق وأهمها حينها، وأخذا يبثان أفكارهما بين الزملاء والشباب والطلاب، كما نشطا في محاربة الانتداب الفرنسي.

وقام عفلق مع كامل عياد وصلاح الدين المحايري بتأسيس مجلة "الطليعة" التقدمية، التي ضمت شيوعيين ويساريين، وكانت البذرة الأولى لتأسيس الحزب الشيوعي السوري اللبناني، ووجد فرصته بالكتابة في مجلتها "الدهور" وكانت التوجهات الأدبية واضحة لديه إذ نشر عددا من القصص القصيرة والمقالات والقصائد، وكان يطمح أن تكون على مستوى عال من الإبداع والحداثة، إذ حاول نشر أفكاره من خلال الأدب.

وقد نشر في أحد أعدادها الأولى قصيدة، ضمّنها أسئلته الفلسفية التي كان يجاهد للوصول إلى أجوبة لها.

وكتب عفلق في جريدة "الأيام" التي كان يغلب عليها الطابع الشيوعي أيضا مقالات وقصصا قصيرة مثل "الرجل الجديد" و"الصفعة" و"رأس سعيد أفندي".

وبالفعل أخذت هذه أفكاره تستقطب حولها عددا من الشباب من طلبة المدارس والجامعات وفئة المثقفين.

الانخراط في السياسة

عام 1938 تعرّف عفلق إلى المفكر السوري زكي الأرسوزي الذي يعد الأب الروحي لحزب البعث وعقيدته وأحد قادة "عصبة العمل القومي" ومفكريها، ويتحلق حوله مجموعة من الطلاب والمثقفين، ممن صاروا من المؤسسين الأوائل لحركة البعث العربي.

وانخرط مع صلاح الدين البيطار في أوساط المثقفين القوميين، وبادرا في فبراير/شباط 1941 إلى تأسيس "حركة الإحياء العربي".

وهنا هجر عفلق الأدب، ودخل معْمعة السياسة المباشرة، بما تنطوي عليه من مساومات وتسويات لم يروّض نفسه عليها، وقد تعرّض لاختبارات صعبة أجهد نفسه لمواجهتها، لكنه انهار عند اعتقاله إثر انقلاب حسني الزعيم نهاية الأربعينيات، وكتب من السجن رسالة تذلّل وخضوع، أعلن فيها ندمه على موقفه من الانقلاب.

وقد ترشح عفلق للانتخابات التشريعية عام 1943 في سبيل نشر أفكار الحركة وبرنامجها، وكان البرنامج الانتخابي الذي تقدم به أول محاولة لتحديد معالم الرؤية الأيديولوجية والسياسية التي تمخضت عن حزب البعث العربي الاشتراكي.

وعام 1942 قدّم وصديقه البيطار استقالتهما من التعليم، واتجها نحو تشكيل "حركة البعث العربي" التي حملت لواء الدعوة القومية والوحدة العربية، وافتتحا أول مكتب للحزب بدمشق عام 1945، ولم يكن عدد أعضائه يومذاك يتجاوز 400، ثم جرى تنظيم الحزب عسكريا، وعام 1946 أصدرا جريدة "البعث" اليومية، وتولّى عفلق رئاسة تحريرها.

وتأسس الحزب رسميا تحت اسم "حزب البعث العربي" يوم 7 أبريل/نيسان 1947 وافُتتح المؤتمر التأسيسي الأول، وفيه أُقر دستور الحزب ونظامه الداخلي، وضمّ الحزب الجديد عددا من المدرسين والمفكرين والكتاب، وشغل عفلق منصب عميد الحزب.

وقد تعرض للسجن والملاحقة مرات عدة أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، في عهد الرئيس جميل مردم بيك وحسني الزعيم.

وبعد سقوط الزعيم وإعدامه في 14 أغسطس/آب 1949، شُكلت حكومة وحدة وطنية برئاسة هاشم الأتاسي، ضمّت جميع الأحزاب، سُمّي فيها عفلق وزيرا للمعارف، وكانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي يتولّى فيها منصبا حكوميا، ومكث في منصبه حتى 14 ديسمبر/كانون الأول 1949.

تمثال عفلق في بغداد الذي هدمته قوات الغزو الأميركي عام 2003 (قصور عراقية-فيسبوك) تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي

في عهد الرئيس السوري أديب الشيشكلي عام 1952، فرّ عفلق إلى لبنان هربا من الاضطهاد السياسي، ولكن السلطات اللبنانية خرقت مبدأ حرية اللجوء السياسي بسبب ضغوط سورية رسمية، وأخرجت عفلق من لبنان إلى روما، حيث تابع من العاصمة الإيطالية نشاطاته واتصالاته إلى حين سقوط الحكومة.

وفي المنفى اندمج "حزب البعث" و"الحزب العربي الاشتراكي" الذي كان يقوده أكرم الحوراني عام 1952 في حزب واحد أسمياه "حزب البعث العربي الاشتراكي" وأصبح عفلق رئيسا له عام 1954، ثم أصبح الحزب بعد ذلك يقوم بأدوار فاعلة في الحكومات التي تعاقبت والانقلابات في سوريا.

وقد أسهم عفلق وحزبه في اتحاد سوريا ومصر عام 1958، وتولى جمال عبد الناصر زعامة القومية العربية وسحب البساط من تحت البعث، وكان قد طلب منهم حل أنفسهم كشرط لقبول الوحدة، مما أدى إلى انشقاقات وتصفيات بين الناصريين والبعثيين من جانب وبين البعثيين أنفسهم من جانب آخر.

وخلال الفترة بين عام 1963 و1966، حكم عفلق سوريا بشكل غير مباشر عن طريق البيطار الذي أصبح رئيسا للحكومة، والفريق أمين الحافظ حليفهما الذي بات رئيسا للدولة، وفي عهدهم صدرت قرارات عزل مدني بحق معظم السياسيين القدامى، وألغيت تراخيص 47 مطبوعة: ما بين مجلّة أسبوعية وصحيفة يومية، باستثناء جريدة البعث.

كما صدر قرار بحلّ كل الأحزاب السياسية، باستثناء "البعث" الذي أصبح حزبا حاكما للدولة، دون أن يُذكر ذلك في الدستور المؤقت، وصدرت قرارات تأميم بحق أكثر من 200 مؤسسة اقتصادية من مصارف ومصانع وشركات خاصة.

وعام 1966 حصل انقلاب بقيادة اللواء صلاح جديد، وأُجبر عفلق بقوة السلاح على الاستقالة من منصبه زعيما للبعث، وأصبح مضطرا للهروب إلى بيروت.

وقد تعرّض عفلق للاضطهاد، واضطر للتخفي والانتقال إلى دول عدة، خوفا من التصفية الجسدية، وتنقّل بين منازل كثيرة، خصوصا في لبنان، من الحمرا إلى الأشرفية إلى شملان، واضطر في أحيان كثيرة إلى عدم كشف هويته الحقيقية.

وعام 1968 قصد بغداد، ثم غادرها إلى بيروت عام 1970، وعند اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عاد إلى بغداد مرة أخرى.

ورغم تعارض أفكار حزب البعث العراقي مع تعاليم عفلق، فإن الرئيس العراقي السابق صدام حسين قلده منصبا شرفيا في حزب البعث العراقي، ولكن البعث العراقي تعامل مع اعتراضات عفلق الحزبية بالتجاهل المتعمّد.

وقَبِل عفلق بموقع الأمين العام لحزب البعث العراقي من دون صلاحيات حتى وفاته، وكان من ممجدي صدّام رغم ما فعله بقادة بعثيين على خلفية مؤامرة مزعومة، وقد رسم عفلق بذلك نهايته قائدا لحزب سياسي فاعل، إلا أنه بقي في نظر العديد مفكرا رومانسيا حالما.

المسؤوليات والمناصب

تولى عفلق العديد من المسؤوليات والمناصب، أهمها:

أستاذ للتاريخ في وزارة المعارف السورية منذ عام 1933 إلى 1942. أمين عام حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا بين الفترة 7 أبريل/نيسان 1947 و23 فبراير/شباط 1966. وزير المعارف الفترة بين 14 أغسطس/آب 1949 إلى 14 ديسمبر/كانون الأول من السنة نفسها. أمين عام حزب البعث العراقي منذ عام 1968 وحتى وفاته. المؤلفات

عُرف عفلق بأنه فيلسوف حزب البعث، وقد بدأ الكتابة عام 1935، وصنّف العديد من المؤلفات إلى حين وفاته، وظلت كتاباته لأكثر من عقدين من الزمن تمثل النص العقائدي المركزي لحزب البعث، ومن أشهر مصنفاته:

كتاب "في السياسة العربية" الذي نشر عام 1948.  كتاب "معركة المصير الواحد" نُشر في بيروت عام 1958. كتاب "في سبيل البعث" وهو عبارة عن 5 أجزاء، جُمعت فيها جميع مقالاته، ونُشر في بيروت عام 1959. كتاب "نقطة البداية" نُشر في بيروت عام 1971. كتاب " البعث والوحدة" نُشر في بيروت عام 1972. كتاب "البعث والاشتراكية" نُشر في بيروت عام 1973. كتاب" الشعب العربي في معركة التحرير" نُشر عام 1975. كتاب "الديمقراطية والوحدة عنوان المرحلة الجديدة" وكان آخر كتبه، ونُشر عام 1989. في مارس/آذار 2004 أحبط الأردن محاولة تهريب شاهد قبر ميشيل عفلق إلى الأردن (الفرنسية) الوفاة

تدهورت حالة عفلق الصحية يوم 10 يونيو/حزيران 1989، مما استدعى نقله إلى باريس، وخضع لعملية جراحية بالقلب، ولكنه لم يستطع مغادرة المستشفى، حيث توفي يوم 23 يونيو/حزيران 1989، عن عمر ناهز 79 عاما، ثم نُقل جثمانه إلى بغداد.

وقد أقامت الحكومة العراقية تأبينا مهيبا لمماته ودفنته في بغداد في قبر مزخرف تحت قبة زرقاء بالحديقة الغربية لمقر القيادة القومية لحزب البعث، وأمر الرئيس الراحل صدام بتشييد تمثال لعفلق بصفته "الأب المؤسس" للبعث، وأعلن أن عفلق اعتنق الإسلام قبل وفاته واتخذ اسم أحمد، ولكن هذا الادعاء بقي محاطا بالشكوك.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2003 قامت قوات الغزو الأميركي للعراق بتدمير قبر وتمثال عفلق، إثر قرار مجلس الحكم الانتقالي باجتثاث البعث، وفي مارس/آذار 2004 أحبط الأردن محاولة تهريب شاهد القبر الخاص به إلى الأردن.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: فی سوریا

إقرأ أيضاً:

الأمن العربي من غزة إلى السودان

 

 

محمد بن سالم البطاشي

تتعاور سهام الكيد والتآمر والغدر جنبات هذه الأمة؛ فأينما تولي وجهك تلاقي أزمة في كل ركن وزاوية ويخرج لك ألف نيرون وألف فرعون وألف دراكولا في شكل استعمار جديد طامع في مُقدرات وثروات هذه الأمة مستبيحًا سيادتها وأمنها وحقوق سكانها، وناهبا لثرواتها وممزقا لوحدتها.

إنَّ المتأمل لما جرى ويجري في كل من غزة والسودان يُدرك على الفور حجم المؤامرة التي تتعرض لها الدول العربية جميعًا بدرجات مختلفة، مؤامرات بعضها خفي وبعضها شاهرًا ظاهرًا ولكنها جميعًا تنبع من مِشكاة واحدة وتهدف إلى الوصول إلى غاية معلومة، ولو تعددت الطرق والوسائل، ولكن الهدف يبقى ثابتًا، ألا وهو تفتيت هذه الأمة ومنع أو إفشال أية محاولة للتقارب أو الاتحاد وقطع سبل الاتصال والتواصل بينها وتجزئة المُجزَّأ وتفتيت المُفتَّت وتشكيك الأمة في ثوابتها ورموزها وتاريخها ودينها، وبث الخلاف والاختلاف والفرقة بين أبنائها وتأصيل سياسة فرق تسد بأساليب شتى لتبقى هذه الأمة منشغلة بخلافاتها فلا تتقدم ولا تتطور  فلا الأمل ينبت في أرضها فضلاً عن أن  يورق أو يزهر ويثمر  كبقية أراضي الأمم؛ بل يُراد لها أن تتقهقر وتنكمش وتتراجع سنة بعد أخرى، لتبقى المصالح والأطماع الخارجية متجذرة متأصلة وتصبح واقعًا لا فكاك منه وكأنه قدرها المحتوم.

ما يحدث في غزة والسودان من جرائم الإبادة الجماعية والنهب وفظائع يُندى لها الجبين وتنفر منها الفطرة السوية وتقشعر لها الأبدان، هو نتيجة طبيعية لهذه التدخلات الخارجية التي تدفعها أهداف اقتصادية ودينية وسياسية وعنصرية، تتحرك ضمن منظومة متكاملة من الغايات والمرامي البعيدة المدى والتي تهدف إلى تكريس الهيمنة الاستعمارية من جديد بعد أن حمل المستعمر عصاه ظاهريا ولكنه نصب تلاميذه ومريدوه وكل عميل وخائن وطامع حكاماً على بعض هذه الدول ليسهل عليه التحكم في مصائرها ومُقدراتها.

لقد تصدَّت غزة لأخطر هجمة في تاريخها وكان العدو- كما أعلن بنفسه- لا يقبل بأقل من القضاء على المقاومة وتهجير أبناء القطاع خارج غزة لتبقى أرض غزة خالصة لقطعان المستوطنين، ليخلو له بعد ذلك وجه غزة وعندها سيجد فرصته لتمرير مُخططات السيطرة على القطاع ونهب ثرواته الهائلة من الغاز، وإقامة خطوط التجارة والإمداد من الهند شرقا إلى أوروبا غربا، لكن الذي حدث كان شيئًا لا يُصدق وفاجأ الصديق قبل العدو؛ حيث أذهل هذا القطاع البشرية بأكملها بفضل صموده الأسطوري وقدرته على رد الصاع صاعين وتكبيد العدو خسائر بشرية ومادية لا تطاق، وغدت المقاومة وأبناء غزة كلهم ظاهرين وقاهرين لعدوهم وله غائظين، فخرجت المقاومة من المعركة وهي مرفوعة الرأس مهيبة الجانب تملي شروطها والعدو يتجرعها وكأنها كأس من حميم أو شجرة الزقوم، وقد رأى كل أحلامه وأهدافه المعلنة والخفية تتبخر بعد أربعمائة وسبعين يوماً من القتال الضاري، ذلك إنه بالرغم من قوافل الشهداء الذين ارتقت أرواحهم الطاهرة إلى بارئها ورغم الدمار والتشرد والمعاناة الشديدة إلا أن الشعب في غزة لم ينكسر ولم يسلم، بل خرج أقوى شكيمة وأصلب عودا وأكثر تمسكا بأرضه وتضاعف التفافه وتفاخره بمقاومته الباسلة، وبدأ إعادة بناء أو ترميم ما هدمته آلة العدوان الغاشم وكله أمل في مستقبل مشرق وغد أفضل.

أما السودان فقد تعرض لمؤامرة متعددة الأطراف أفقدته أمنه واستقراره وسيادته وشردت أبناءه في شتى بقاع الأرض بدون أي ذنب أو جريرة سوى إن بلادهم مليئة بثروات وخيرات لم تخطر على قلب بشر، فأضحى السودان مقصدا لكل طامع وناهب ومرتزق وقاطع طريق وموئلا لكل فكر منحرف ضال وأطلت الفتنة بوجهها البغيض لتكون خنجرا في خاصرته وأداة في يد الطامعين والحاقدين الذين لا دين ولا  ذمة لهم، ولكن الشعب السوداني المُثقف الواعي وجيشه المغوار تصدوا لهذه المؤامرة القذرة والهجمة الشرسة بكل بسالة وعزم وتصميم وإيمان وخاضوا المنازلة الكبرى في معارك الشرف والكرامة وقدموا في سبيل ذلك أغلى ما يملكون عن طيب نفس، ولم يفقدوا الأمل ولو للحظة بعدالة قضيتهم وقدرتهم على إفشال المؤامرة والخروج بالسودان الشقيق إلى بر الأمان، وقد استجاب الله لهم وبارك سعيهم وحقق لهم الانتصار بعد عناء وجهد كبير وأحيط بمعاقل الإرهاب فأضحت تتساقط واحدة تلو أخرى وكأنها في قلب الليل البهيم حيث الفراش ينقض على اللهب كأنما يدفعه قدره إلى احتضان الموت، ترى أجنحته تتراقص في الهاوية، حيث تذوب في لهب لا يرحم، ولا غرابة في ذلك فالحق دائمًا أبلج والباطل لجلج باستمرار.

لقد كانت الفرحة لا توصف بخبر فك الحصار عن مقر القيادة العامة من قبل الجيش السوداني الباسل بعد أكثر من سنتين من الحصار المطبق ضرب فيها أفراد القوات المسلحة السودانية أروع الأمثلة على البطولة والاستبسال والتضحية من أجل الوطن والمبادئ في ملحمة وطنية سيسطرها التاريخ بأحرف من نور، وما كان قبل ذلك من تحرير لأجزاء واسعة من السودان الشقيق. ويعد هذا النصر المؤزر خطوة كبيرة  في سبيل إنهاء هذه الحرب اللعينة وقبس من نور في مسيرة السودان التاريخية المُظفَّرة؛ حيث يُواصل الجيش السوداني وخلفه الشعب السوداني تطهير أرضه من المجرمين وأهل الحرابة وأدواتها ممن  تنكبوا الطريق السوي وعاثوا في الأرض فسادًا شديدًا؛ حيث تتواصل مسيرة تحرير باقي المدن والمناطق السودانية واحدة تلو أخرى وبذلك يحكم الجيش قبضته على المزيد من أرض السودان المترامية الأطراف، وإننا في عُمان كلنا أمل وثقة في قدرة الشرعية السودانية على الخروج من هذه الجائحة والفتنة الكبرى سليماً معافى وقد تجاوز آثار ما خلفته الحرب من مآس ونكبات وعبور الطريق إلى بر الأمان الكامل والمستقبل الزاهر.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • يا لها من تجربة
  • فريق الاتحاد الاشتراكي في البرلمان يتهم الحكومة بالوقوف في صف "الباطرونا" بعد تمرير قانون الإضراب
  • كلية الشرطة بدمشق تخرج المئات كل 10 أيام لتعزيز ضبط الأمن
  • العاهل المغربي يهنئ الشرع ويؤكد دعم سوريا لتحقيق الاستقرار
  • سرايا الدفاع ذراع أوصلت حافظ الأسد للسلطة وارتكبت مجزرتين بتدمر وحماة
  • أمير قطر ومستشار ألمانيا يبحثان تطورات غزة وسوريا
  • صحفية أمريكية: إدارة ترامب تريد محاكاة تجربة اجتثاث البعث في العراق بعد الغزو
  • الشرع يزور تركيا اليوم لبحث ملفات الأمن والاقتصاد
  • الرئيس الشرع: النظام الاشتراكي فيه الكثير من السلبيات التي أثرت في المواطن وسنعيد هيكلة الاقتصاد في سوريا ونتخلص من الفساد
  • الأمن العربي من غزة إلى السودان