الواثق كمير

الشكر والتقدير لمنظمي الورشة على دعوتهم لي للمشاركة بإبداء الرأي والتعليق على مسودة مشروع الخلاص الوطني لحزب الأمة القومي، القاهرة في 10 فبراير 2024.

ظللت متابعاً للمساهمات الوطنية الجادة من حزب الأمة وزعيمه الراحل الإمام الصادق المهدي منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي. فقد جمعني بالحزب وقيادته العمل المشترك لمعارضة نظام الإنقاذ منذ يومه الأول تحت مظلة التجمع الوطني الديمقراطي.

وللمفارقة، كنت المترجم الفوري interpreter لكلمة نائب رئيس الحزب (المرحوم د. عمر نور الدائم) في الجلسة الافتتاحية ل *مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية، 15 يونيو 1995. كما لم ينقطع اتصالي وتواصلي مع الإمام الراحل إما بالزيارة في الخرطوم أو القاهرة، وبالرسائل المتبادلة والمقالات المنشورة حول مواضيع الشأن الوطني.

ولذلك لم استغرب أن يكون لحزب الأمة القومي، بحكم مسئوليته الوطنية والتاريخية، طرح لمشروع سياسي يتضمن رؤية شاملة لوقف وانهاء الحرب، وفي سبيل بناء المستقبل الوطني للسودان.

اطلعت على وثيقة المشروع بدقة وبالتركيز على أطروحة الحزب لوقف وانهاء الحرب على وجه الخصوص. فالرؤية تقوم على مرحلتين، 1) استراتيجية لإحتواء ووقف وإنهاء الحرب، و2) العملية السياسية والنظام السياسي الجديد.

في رأيي، أن وقف وانهاء الحرب ليسا بعملية واحدة أو هدف واحد، من حيث المعنى وآليات تحقيق الهدف. فوقف الحرب هو إسكات صوت البنادق لابتدار العملية السياسية، والذي يتحقق عبر التوصل لوقف دائم لإطلاق النار. فوقف الحرب لا يعني إنهائها، فقد وقفت الاشتباكات العسكرية بين الحكومة والحركة الشعبية شمال لسنوات طويلة ولكن الحرب لم تنته بعد. فانهاء الحرب يعنى مخاطبة ومعالجة مسبباتها الرئيسة، أي استدامة السلام. لذلك أرى أن إنهاء الحرب ينبغي أن يكون مرتبطاً بالمرحلة الثانية المتصلة بالعملية السياسية.

مسودة المشروع توكل مهمة وقف الحرب إلى الهيئة القومية للسلام، والتي يتم اختيارها من ممثلي الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والأهلي ولجان المقاومة والحركات المسلحة. وضمن مهام تعبوية وشعبية، تقوم هذه الهيئة ب الفصل بين القوات المتحاربة في كل مدن التواجد المشترك، وتأمين اعادة انتشارها خارج المدينة. في ظني أن فصل القوات المتحاربة هي مهمة عسكرية من الطراز الأول، لذلك لا أدري كيف يوكل أمرها إلى هيئة مدنية الطابع!

ليس ذلك فحسب، بل أن أطروحة المشروع توكل أمر المفاوضات برمته إلى الهيئة القومية للسلام عبر تشكيل لجنة أمنية وعسكرية قومية من معاشيين للاشراف على وضع الترتيبات المطلوبة؛ تحدد مكان وزمان المفاوضات؛ وطبيعة المفاوضات المباشرة، على أن يكون شركاء التفاوض الإقليمين والدوليين مجرد داعمين للهيئة في هذا المسعى.

حقيقة لا أدري إن كان هذا التصور للتفاوض واقعياً وقابلاً للتطبيق، بما في ذلك اقحام العسكريين من المعاشيين في العملية التفاوضية، وقابليته لإقناع الطرفين المتحاربين القبول به. فهذا الاقتراح يخلط الأمور السياسية بالعسكرية وقد يفسد عملية التفاوض. فانهيار منبر جدة كان بسبب اقحام الأجندة السياسية في المفاوضات خارج نطاق إعلان جدة الذي نأى بنفسه عن الانخراط في أي عملية سياسية، بل ونص على ذلك صراحة في بنده الثاني.

في رأيي، أنه لا ينبغي أن يكون للقوى السياسية مكانا في التفاوض حول الترتيبات الأمنية والعسكرية، وأنه لا مكان للدعم السريع والجيش في العملية السياسية التأسيسية.

المطلوب هو تصميمِ عمليةٍ تفاوضيةٍ، لا تخلط الأوراق، وتتأسس على تحقيقِ هدفينِ مُتلازِمين هما: وقف وإنهاء الحرب. وقف الحرب يتم عبر التفاوض بين الجيش والدعم السريع حول الترتيبات العسكرية والأمنية لحسمِ قضية تشكيل الجيش الوطني الواحد ذو القيادة الموحدة، جيشٌ مِهنيٌ يستبعِد وجودَ أي تنظيمٍ سياسيٍ بداخلة، ويخضع للإصلاح والتطوير، سوياً مع بقيةِ أجهزة القطاع الأمني، ويستوعب التنوع والتعدد اللذين تذخر بهما البلاد قاطبةً. تشمل أجندة التفاوض لتحقيق هذا الهدف الإجراءات العسكرية التي تفصل بين القوات، ووقف العدائيات، وفتح المسارات لتوصيل المساعدات الإنسانية، وخارطة وآليات عملية تشكيل الجيش الواحد وإطارها الزمني. أما إنهاء الحرب، واستدامة السلام، فيتِمُ بمُخاطبةِ ومُعالجةِ مُسبباتها عبر ابتدارِ عملية سياسية تأسيسية تُشارك فيها كل القوى السياسية والمجتمعية والأهلية والشباببية والمجتمعية والأهلية وشباب المقاومة والتنظيمات النسائية وحركات الكفاح المسلح، ومن الشخصيات الوطنية وقيادات الرأي العا م بهدف مشاركة وإشراك الجميع (باستثناء من أجرم وأفسد) في تصميم هذه العملية حتى الوصولِ إلى عقد المؤتمر القومي الدستوري، الذي يخاطب قضايا التأسيس والدستور.

لاحظت أن تصور مسودة مشروع الخلاص الوطني للمرحلة الثانية يقوم على ابتدار عملية سياسية معقدة الآليات والمهام والإجراءات وتحتاج إلى تفكيك ومراجعة وإعادة صياغة. فمثلا، تقول المسودة أنّ العملية السياسية تقوم عبر مؤتمر مائدة مستديرة تحت إشراف الهيئة القومية للسلام يتم الأعداد له بواسطة لجنة مختارة من نقابة اساتذة جامعة الخرطوم ونقابة المحامين ونقابة الصحفيين (لماذ؟ وما هو المنطق؟). يبدأ مؤتمر المائدة المستديرة مباشرة خلال اسبوع من بعد توقيع اتفاق إنهاء الحرب، وخلاله يتم حل الهيئة القومية للسلام والإعلان عن تشكيل “الجبهة المدنية العريضة” من كافة قوى ثورة ديسمبر المجيدة والقوى المؤمنة بالتحول الديمقراطي. (لماذا حل الهيئة القومية لتحل مكانها “الجبهة المدنية العريضة”؟ ولماذا هنا يتم استخدام مصطلحات “قوى الثورة” والقوى “المؤمنة بالتحول الديمقراطي” بينما القوى المشكلة للهيئة القومية للسلام هي أكثر اتساعاً وأعرضُ قاعدة (صفحة 3)؟ استخدام مثل هذه المفاهيم بدون تعريفٍ وتحديدٍ لماهية هذه القوى يقوم على حجج موضوعية والاكتفاء بالأوصاف الذاتية سيعود بنا إلى أوضاع ما قبل الحرب.

اتفق تماماً مع أطروحة المشروع في أن يتم الانتقال من العملية السياسية التوافقية إلى الشرعية الانتخابية، ولكن اختلف معها في انتخاب جمعية تاسيسية يعقبها التداول حول عقد المؤتمر القومي الجامع الذي اسميه المؤتمر الدستوري، لأن هذه الخطوة ستعود بنا إلى ما قبل المربع الأول. فقد جربنا الجمعيات التأسيسية المنتخبة في الانتقالات السابقة التي فشلت في كتابة دستور دائم يؤسس للدولة السودانية ويفتح الطريق للتحول الديمقراطي الحقيقي.

في رأيي، أن تكون الهيئة القومية للسلام بمثابة هيئة قومية تناقش القضايا التأسيسية للدولة تتداعى وتنخرط فيها كل القوى السياسية والمجتمعية والأهلية والشبابية بدون إقصاء بهدف مشاركة واشراك الجميع في تصميم العملية السياسية التأسيسية حتى الوصولِ إلى عقد المؤتمر القومي الدستوري، الذي يخاطب قضايا التأسيس. هذا هو الطريق الأمثل الذي يكفل “الشرعية التوافقية” لهذه العملية. يشكل المؤتمر الدستوري لجنة لصياغة مسودة الدستور وعرضها في استفتاء شعبي عام، لتكون دستورا دائما ومن ثم تقوم الانتخابات على أساسه.

خاتمة

عقد المؤتمر الدستوري كان هو أحد أهم مهام النظام الجديد (الذي يتأسس بعد سقوط نظام الإنقاذ) في الوثيقة الأولى ل ميثاق الخلاص والحرية والمواطنة الصادرة من حزب الأمة القومي الذي اطلعت على وثيقته الأولى في أواخر ديسمبر 2018. فقد نصت الوثيقة على عقد مؤتمر قومي دستوري لانتاج وثيقة وطنية ملزمة حول المحاور الرئيسة التالية: الدين والدولة، الاقتصاد، إعادلة هيكلة الدولة، توزيع السلطة و الثروة، الهوية و إدارة التنوع، نظام الحكم ومستوياته، والسياسة الخارجية. يقوم المؤتمر الدستوري بتكوين لجنة ممثلة لكل شرائح و قطاعات و أقاليم السودان لصياغة الدستور انطلاقاً من المباديء و الموجهات التي يقررها للوصول إلى عقد اجتماعي، و مشروع وطني، يضمن استدامة السلام و الديموقراطية و العدالة الاجتماعية و التنمية المتوازنة، بالإجابة على السؤال التاريخي “كيف يحكم السودان” على أن يقرر المؤتمر الدستوري وسيلة ديموقراطية لإجازة الدستور.

أظن بأن الحاجة للمؤتمر الدستوري في ظروف وشروط ما بعد الحرب تصبح أشد الحاحا مما كان عليه الحال في ديسمبر 2018 والثورة تطرق على الأبواب. فلماذا يفارق حزب الأمة القومي هذا الطريق؟

الشكر مجددا لمنظمي ورشة مشروع الخلاص الوطني: التحديات الراهنة والمستقبلية، ولقيادة حزب الأمة القومي، وأتمنى أن تكون لتعقيبي فائدة مرجوة

الوسومالواثق كمير

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: المؤتمر الدستوری العملیة السیاسیة حزب الأمة القومی عقد المؤتمر وقف الحرب أن یکون

إقرأ أيضاً:

المؤتمر الوطني..خلافات ذاتية لا علاقة لها بالدين

صلاح شعيب

الاختلافات التنظيمية التي خلقت استقطاباً حاداً داخل المؤتمر الوطني تتعلق بصراع مصالح قياداته أكثر من كونها تنم عن خلافات حول ما ينبغي أن يكون عليه العمل التنظيمي. ولم تكن الحرب هي العامل الأساس لبروز هذه الخلافات، وكذلك ما افرزته من اصطفافات الإسلاميين المناطقية. فأثناء فترة البشير لاحظنا التصدع الذي لحق ببنية التنظيم نتيجة لوصوله إلى الانغلاق السياسي التام بعد فشل تجربة أسلمة الدولة، وتحولها إلى ضيعة لتحالفات تستند على طفيليات اقتصادية عبر رباطات إقليمية.
ولما جاء السقوط المدوي للنظام الإسلاموي اكتملت دائرة تفتت المؤتمر الوطني إلى جماعات تتلاوم فيما بينها حول أسباب هذا السقوط الذي لم يتقبله الإسلاميون بسهولة، وشكل لهم ضربة سياسية، ونفسية، ما تزال تلقي بظلالها على كتاباتهم، وتصريحاتهم، وسياسة مجموعاتهم المتفرقة في التعامل مع المشهد السياسي.
وإذا كان المؤتمر الوطني يمثل جناحاً ضمن تشظي الحركة الإسلامية التي تفرقت أيدي سبا فإن جبهة الميثاق التي نشأت في الخمسينات ربما انتهت إلى نحو عشرة تنظيمات فرعية. كلُ طرف فيها يدعي أنه يمتلك الحق الأبلج، وأن الآخرين على خطأ فادح مبين. بل إن التخوين صار سمة لتصريحات بعضهم البعض لدرجة غير مسبوقة في تاريخ الإسلام السياسي السوداني.
الخلافات الجديدة للمؤتمر الوطني المنحل، والتي أبرزت أربعة أجنحة – أحمد هرون، كرتي، غندور، وإبراهيم محمود – لن تنتهي عند هذا الحد. فطبيعة المصالح الذاتية التي خرج بها قادة الحزب من الدولة ستفرض باستمرار الخلاف متى ما رأت هذه الأجنحة المتصارعة على هذه الجيفة الفكرية مساحة لإقصاء بعضها بعضاً من قيادة الإسلام السياسي في البلاد، ومن ثم الحفاظ على مصالح الجماعة بدلا عن المجموع.
البراجماتية التي تطبعت بها قيادات الموتمر الوطني، وهي أعلى درجات خيبة الربط بين السماء والأرض، تمثل نتيجة حتمية لتعزيز حفاظ هؤلاء القادة على نفوذهم السياسي والمالي، والسلطوي.
ففكرة تديين العمل السياسي في أصولها لا ترتطم – بالغ ما بلغت – إلا بحقيقة أن مجريات العمل السياسي غير ثابتة حتى تستوعبها حرفية النص الديني. وعندئذ يصبح الصراع بين المعتقد السلفي الثابت وفقاً لتفسيرات الإسلاميين وحراك السياسة المتحول هو العامل الأساس لتضارب مصالح هولاء القادة تحت وطأة الحالة السودانية الشديدة التعقيد.
وبرغم أننا لاحظنا محاولات التلفيقات الفقهية التي كان يعتمدها الإسلاميون في إطار ابتذالهم البراغماتية السياسية، ولكنها لم تستطع تحقيق نجاحات للإسلاميين في إثبات قدراتهم على تحقيق استقرار لتنظيمهم قبل الاستقرار في حيازة النجاح الحزبي. فنتيجة سقوط المشروع الحضاري أكدت عجزهم على تحقيق الاستقرار النسبي في احتكار الدولة، وقد قاد هذا التلفيق الفقهي، والذي وصفه أسامة بن بأنه خلط الجريمة بالدين لدى إسلاميي السودان، إلى تهديد وجود الكيان القطري.
والان عند اختلافهم في زمن الحرب تكسو عقول قادة الموتمر الوطني وعضويته غشاوة لا تبصرهم بأن السلطة الحزبية التي يصطرعون حولها بهذه الطريقة النفعية لا تسعف تمدد مستقبلهم، إن لم تنته حرب السودان بتلاشيه كوحدة جغرافية.
باختصار كل أطراف الحزب التي تتنازع الشرعية وسطها على حق ما دام يسهل للغاية تغليف الحراك المصلحي لكل طرف بصك الفقه. فالسياسي الذي يريد تحريك الدولة بناءً على مذهبيته مسلماً كان أم يهودياً أم مسيحياً لا يحتاج إلا إلى صب منفعته صباً عنيفا في الآي الحكيم والأحاديث النبوية، والتاريخ مليء بالشواهد سواء في عصور الإسلام الأولى أو في أواسطها أو حديثاً.
والعبرة من كل هذا أن صراع قادة الموتمر الوطني الأثرياء للحفاظ على مصالحهم الذاتية بقوة تنظيمهم المنحل يمثلون عينة دراسية خصبة لبوار فكرة تديين الدولة. ولكن في ذات الوقت ما يحير فعلاً هو مدى حرص كل طرف لينتصر على الآخر حتى يجني استثمار التنظيم في الحرب التي أوقد نارها.
في تاريخ الأمم تستشري الأفكار الاستبدادية بقوة دفع الدولة التي تتبناها، ولكنها تندثر آجلاً أم عاجلا لو أن مصالح النخب احتربت حول كيكة السلطة، أو النفوذ. وما نشاهده الآن في جبهة الموتمر الوطني نوع من بداية الاندثار لفاعلية حراك موثق في استخدام الدين كوسيلة للاستثمار في الجهل.

الوسومصلاح شعيب

مقالات مشابهة

  • ترك: ندعو كل القوى السياسية للمشاركة في الحوار الوطني السوداني بما فيهم حزب المؤتمر الوطني المحلول
  • المؤتمر الوطني..خلافات ذاتية لا علاقة لها بالدين
  • القومي للبحوث يعقد المؤتمر الخامس بمجال الميكروبات الطبيعية وجيناتها
  • «القومي للبحوث» يعقد المؤتمر الخامس في مجال الميكروبات الطبيعية وجيناتها
  • كيف علقت القوى السياسية اللبنانية على تصريحات جعجع بشأن سلاح حزب الله؟
  • المجلس الوطني للاعلام تلقى اتصالات من فاعليات بيروتية طلبت تهدئة البرامج السياسية
  • المحكمة الدستورية تشارك في الاجتماع المختلط حول القضاء الدستوري بأرمينيا
  • الأحزاب السياسية تهاجم مروجي الشائعات.. وتؤكد: شعب مصر واعٍ
  • لقجع: التشريع الجمركي الذي نقوم به يخدم الإقتصاد الوطني ولا يخضع لمقاربات خدمة مصالح الأشخاص
  • بن دغر يبحث مع قيادة مجلس حضرموت الوطني مستجدات الأوضاع السياسية بالمحافظة