الدور الوظيفي.. ماذا عن البنيوية الفكرية؟
تاريخ النشر: 11th, February 2024 GMT
يُنْظَرُ إلى البنيوية الفكرية على أنها مستوى عال في تنظيم تشابك العلاقات بين مجموعة من العناصر في بيئة ما، وهي تذهب أكثر إلى التركيبة النفسية أو الفكرية لذوات العلاقة بين المجموعات، أو حتى الأفراد، ولأنها ترتبط بالعامل النفسي أكثر منه بالعامل المادي، مع أهميته؛ إلا أنه يكون للدور الوظيفي شأن آخر عبر الممارسات التي يقوم بها كل من عليه وظيفة يقوم بها، وبالتالي فتجذر هذا الأمر «البنيوي» هو ما يذهب إليه الفهم في حقيقة الأمانة والصدق، وهما العاملان المهمان في انتزاع الفرد من حالته العامة والشائعة كأفراد في مجتمع، أو في مؤسسة، إلى حالته الخاصة في استنطاق مجموعة من المثل والقيم؛ ويأتي في مقدمتها الأمانة والصدق، ونصفها بالحالات الخاصة جدا، بمعنى أنه لا يمكن تعميمها من خلال قرار مسؤول أو نظام مؤسسة، بغية إنجاز عمل حقيقي دون أي خلل موضوعي لذات الوظيفة التي يعمل بها الفرد، ولهذا السبب يظهر الأفراد «مجموعة الموظفين في مؤسسة ما» غير متساوين في الأداء الوظيفي، وفي الهمة، وفي السرعة والدقة في الإنجاز،وعندما نرفع السقف أكثر، يمكن أن نقول: وفي احترام قوانين العمل، وفي احترام التراتبية الوظيفية للمسؤولية، واحترام الزملاء، وإنزال هيبة المؤسسة في النفس على أنها مصدر دخل سخرها الله تعالى لنا لنطعم منها أسرنا، وتقينا ذل السؤال والحاجة، وتعظيم شخصيتنا الطبيعية؛ حتى مع انتهاء صلتنا بهذه المؤسسة أو تلك، فعلى امتداد هذه المسافة يبقى للفعل البنيوي أثره الكبير في دعم الدور الوظيفي –هذا على مستوى مفهوم المؤسسة– بينما يقتضي الأمر أن الفعل البنيوي مستمرا مع كل صغيرة وكبيرة من الفعل البشري في حياة الإنسان اليومية، ومن هنا ينظر إلى أهمية الدور الكبير الذي تقوم به محاضن التربية في تنشئة الأفراد على معززات البنيوية الفكرية، حتى يكونوا أفرادا صالحين في مجتمعهم الصغير، وفي مجتمعهم الكبير، حيث الوطن بكل حمولته الحضارية والتاريخية والاجتماعية، والثقافية والاقتصادية؛ سواء بسواء، لا يشذ أحد من هذه الأبعاد عن الأخرى.
يَمْثُلُ الدور الوظيفي، وهو نتيجة حتمية للبنى الفكرية، كإحدى المهمات الأساسية لأية مؤسسة، أو مجموعة عمل، أو حتى على مستوى الفرد نفسه، يرجى من خلاله أن تكون هناك عوائد مادية أو معنوية مدخلة أو خارجة من شأنها أن تعظم من مستوى الإنتاج؛ لكي تبقى هذه المؤسسة أو تلك قادرة على الاستمرار في الإنتاج، ومحافظة على الدور الذي أسست له منذ البداية، ولأن المسألة لا تقتصر على مفهوم المؤسسة، كما جاء أعلاه، فإن ملامح الدور الوظيفي تظهر أثر المخزون المعرفي للبنى الفكرية عند كل شخص على حد، «فليس الفتى من قال كان أبي؛ إنَّ الفتى من قال ها أنا ذا» والـ«ها أنا ذا» لن تظهر على الواقع، ويشهد لها الناس بالكفاءة والتميز، إلا من خلال ما تقوم به من أدوار وظيفية ملموسة، سواء على مستوى مؤسسة، أو مستوى أسرة، أو مستوى مجتمع، أو مستوى فرد في تعظيم منجزاته المعبرة عن حركته واشتغالاته، بمعنى أن الدور الوظيفي الذي يقوم به فلان من الناس، هو الذي يحكم من خلاله على حقيقة «من هو فلان؟» وليس «من هو أبو فلان؟» أو من أي حاضنة وجاهية يتسلسل فلان؟» ولذلك كما يشار دائما؛ أن لا تأثير للبنى الفكرية للأفراد في المجتمعات التقليدية الممتدة، ولذلك تشهد ضعفا نوعيا في الإنتاج، بخلاف المجتمعات الحديثة التي تنتصر أكثر للطاقات الفردية، وتنميها، وتعزز من قيمتها المعرفية.
تحرص محاضن التربية المختلفة (الأسرة، المدرسة، المسجد، الحاضنة الاجتماعية الواسعة) على تأسيس وتنمية البنية الفكرية في مشروعاتها وبرامجها المختلفة، حيث يبدأ ذلك بالأعمار الصغيرة التي لا تزال فطرها الفكرية لم تتلوث بالكثير مما يدور من حولها فـ«العلم في الصغر؛ كالنقش على الحجر» وبالتالي فمتى تربت الناشئة على كثير من القيم السامية؛ كان ذلك بمثابة النور الذي تهتدي به طوال مسيرتها الإنسانية، مما يؤهلها لأن تلعب أدوارًا إيجابية على امتداد مساحة العمر، وأهم هذه المراحل عندما يصل إلى ذروة سنام العمر، حيث يتقلد الوظائف العامة والخاصة، ويكون أسرة، ويكون فردًا فاعلًا في المجتمع الذي يعيش فيه، هذا الحرص يؤسس لمرحلة وصول الفرد إلى الدور الوظيفي الذي سوف يقوم به عندما يكون مهيئا لذلك، بغض النظر عن مستوى الوظيفة التي سوف يقوم بها في المستقبل، ويبدأ التأسيس من المراحل الأولى لعمر الفرد حتى تترسخ هذه البنية الفكرية في نفسية هذا الفرد، وترويض شعوره الفطري لأن يتهيأ بذلك سواء للوظيفة المرتقب شغلها، أو لمختلف تفاعلاته مع من حوله في مجمل العلاقات التي يقيمها مع الآخرين في مختلف شؤون الحياة اليومية، فهو محتاج على امتداد مسيرة حياته لأن يكون صادقًا وأمينًا، وناصحًا، يحب لغيره ما يحبه لنفسه، ولا يرضى لغيره ما لا يرضاه لنفسه ولمجتمعه من حوله، وهذه المحاضن تستند في تربيتها البنيوية لتأصيل الفكر –بالنسبة للمسلمين– على نصوص القرآن الكريم ونصوص السنة الشريفة على صاحبها الصلاة والسلام – وعلى مجموعة من المثل والقيم الإنسانية، والمواقف الإيجابية، والقصص، وأحداث التاريخ، والتجارب التي تعبر عن القيم الإيجابية سواء في الماضي والحاضر، حيث يتم من خلال ذلك استنطاق المشاعر، ومخاطبة العقل والعاطفة في الوقت نفسه، بالإضافة إلى عمل اختبارات عملية ونظرية لترسيخ الفهم بصورة أكثر.
تعمل مجموعة من الأنظمة والقوانين على تأسيس بنيوية فكرية في كثير من الممارسات الوظيفية، وذلك بهدف النقاء، والصدق والأمانة، والحيادية التامة عن الوقوع في مطب الخاص، ومن ذلك «قسم اليمين» لعدد من الوظائف كقسم الطبيب، والقاضي، والعسكري، وأعضاء المجالس التشريعية، وعدد كبير من الوظائف التي تأخذ أهمية خاصة تتعلق بالعلاقة بين القائم بالوظيفة والجمهور العام، أو المتطلبات المهنية والإدارية لهذه الوظائف، وذلك كله لتحييد القائم بهذه الوظائف عن الوقوع إما في استغلال الوظيفة لخدمته الخاصة، أو لسرية شديدة الحساسية لمجموعة الممارسات لها، أو شيوع ممارساتها ليعلم بها القريب والبعيد؛ في الداخل والخارج، أو للمحافظة على أسرار الناس، هذا الإجراء «القسم» لا يهدف فقط لتحييد القائم بالوظيفة عن الإفصاح عما يقوم به من ممارسات تتطلبها الوظيفة، ولكن بالإضافة إلى ذلك هو تسكين، أو زرع، أو تأسيس لتموضع بينة فكرية في الذات النفسية لمجموع هؤلاء العاملين على اختلاف وظائفهم وممارساتهم.
ويأتي استخدام القسم –حسب فهمي الخاص لذلك– لتعظيم أمانة المسؤولية من خلال ربطها بالعلاقة مع الله، فالناس فيما بينهم، كثيرا، ما يتجاوزون مجموعة الالتزامات القائمة بينهم على اعتبار أن لا يعرف الآخر ما يقوم به الأول، والعكس صحيح أيضا، ولذلك يصبح هناك نوع من غض الطرف في جوانب هذه العلاقات؛ مع أن ذلك ليس من شيم الأمانة والصدق القائمة بين الناس، ولكنه يحدث وهذا من الضعف الموسوم به البشر، لكن العلاقة مع الله، يحسب لها كل الاحتمالات التي يمكن أن تكون، ولذلك فليس من السهولة بمكان أن يتجاوز الفرد عهدًا قطعه مع الله «مع سبق الإصرار والترصد» إلا في الحالات الاستثنائية التي يغيب فيها العقل عن الوعي التام للفرد، وبالتالي إن فشل هذا التأسيس في تعظيم البنية الفكرية لأهمية الذات الوظيفية، فإنه لا يستبعد أن يعود الإنسان إلى حالته المعتادة والمتقلبة بين القوة والضعف، وبالتالي؛ إن حدث ذلك بالفعل فإن هذا التأسيس تعرض لفشل ذريع، وهذا ما يحدث كثيرا في ممارسات الوظيفة على وجه الخصوص؛ كالطبيب والمحامي والعسكري، والمسؤول في الوظائف الكبيرة والحساسة، وغيرهم من الذين تتطلب أعمالهم مستوى معين من السرية وأمانة المسؤولية؛ عندما لا يلتزمون بما تعهدوا عليه أمام الله أولا، وأمام مسؤوليات الوظيفة ثانيا، وأمام مجتمعهم الذي شهد عليهم بهذا القسم ثالثا، ولن يعود هذا الفشل فقط على ضعف تأسيس البنى الفكرية عند الفرد، وإنما تتداخل فيه عوامل ذاتية خارجة عن نطاق السيطرة، حيث يصعب ترويض النفس بصورة مطلقة عند الجميع.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: مجموعة من من خلال
إقرأ أيضاً:
الدكتور عبد الله الغنيم يلتقي بجمهور معرض الكويت وحديث عن مسيرته الفكرية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أضاء معرض الكويت الدولي الـ 47 للكتاب على اسهامات وانجازات شخصية المعرض الدكتور عبد الله الغنيم في مجالات البحث العلمي والثقافة.
واستعرض الدكتور الغنيم خلال جلسة حوارية أقيمت في قاعة كبار الزوار ضمن فعاليات النشاط الثقافي المصاحب للمعرض، مسيرته العلمية ومحطات من حياته كان لها الأثر الكبير في تشكيل رؤيته الثقافية والفكرية بحضور نخبة من المثقفين والمهتمين وزملائه وأقربائه.
وأدار الجلسة الدكتور يوسف البدر الذي استعرض مساهمات الدكتور الغنيم لا سيما إسهاماته في رئاسة مركز البحوث والدراسات الكويتية حيث قاد العديد من المبادرات التي تهدف إلى توثيق تاريخ الكويت وتراثها الثقافي والحضاري.
وتحدث الدكتور الغنيم عن مسيرته الحافلة في مجالات البحث العلمي والتأليف إضافة إلى إسهاماته في توثيق التراث الكويتي وتعزيز الهوية الثقافية، مؤكدا أهمية الكتاب والمعرفة في بناء المجتمعات.
وقال الدكتور الغنيم، إن بحوثه ودراساته تندرج في ثلاث مسارات رئيسية يربط بينهما جميعا التراث العربي بعناصره الموسوعية المختلفة.
وقال، إن المسار الأول هو “جغرافية شبه الجزيرة العربية” والثاني “التراث الجغرافي العربي بوجه عام والجانب الطبيعي بوجه خاص” والثالث “المخطوطات الجغرافية العربية فهرسة وتحليلا وتحقيقا”.
وأكد أن الجزيرة العربية بتنوع اشكال سطحها وطبوغرافيتها استهوته منذ أن كان في العاشرة من عمره وفي رحلاته الى الحج مع والده حيث كانت الأولى سنة 1957 والثانية في السنة التي تلتها مبينا انه كان ينظر في الطريق الى رمال الدهناء وجالات نجد وحرات الحجاز.
وقال أنه جمع في تلك الفترة كل ما يمكن الحصول عليه من معلومات حول تلك الأرض وزاد ذلك بعد ان أنهى دراسته الثانوية وانتقل للدراسة الجامعية في القاهرة.
واشار الى أول بحث ينشر له وحمل عنوان “الدحلان في شبه الجزيرة العربية” وقد نشر في مجلة رابطة الأدباء بالكويت عام 1969 وهو العام الذي تخرج فيه من الجامعة.
واشار الى رسالته الماجستير التي كان موضوعها “الجغرافي العربي ابو عبيد البكري مع تحقيق الجزء المتعلق بالجزيرة العربية من كتابه المسالك والممالك” مبينا انه قرأ من أجل تلك الدراسة معظم ما كتبه القدماء والمحدثون عن جزيرة العرب او عن المملكة العربية السعودية.
وقال ان عمله في الماجستير أثمر عدة كتب منها كتاب “مصادر البكري ومنهجه الجغرافي” ويشتمل الكتاب على دراسات تفصيلية تتعلق بالجزيرة العربية كما جاءت في كتابي “المسالك والممالك” و"معجم ما استعجم للبكري".
وعن دراسته للدكتوراة قال انه هدف الى هدفين رئيسين أولهما “دراسة اشكال سطح الأرض في شبه الجزيرة العربية بالاعتماد على التراث العربي القديم ومعالجة ذلك وفق منظور عصري” وثانيهما “جمع المصطلحات الجغرافية العربية في هذا الشأن واقتراح ما يمكن استخدامه في كتاباتنا الحديثة”.
وأشار الدكتور الغنيم الى دراساته الميدانية والإقامة في العديد من الدول من اجل البحث العلمي والاطلاع على أحدث المصادر الجيومرفولوجية ذات العلاقة بالصحاري والمناطق الجافة.
وقال انه كان يبحث عن العلاقات السببية بين نشأة شبه الجزيرة العربية من الناحية الجيولوجية والأشكال الأرضية الماثلة أمامنا الآن ويحاول الربط أيضا بين تلك الاشكال والنشاط البشري.
وأشار الدكتور الغنيم الى العديد من الأسماء الذين كان لهم الفضل في مسيرته وتتلمذ على يدهم منهم "علامة الجزيرة العربية" الشيخ حمد الجاسر رحمه الله والعلامة المحقق محمود شاكر رحمه الله والمرحوم محمد عبدالمطلب احد اعلام معهد المخطوطات العربية.
وحظيت المحاضرة بتفاعل كبير من الحضور الذين أعربوا عن تقديرهم للدور الكبير الذي لعبه الدكتور الغنيم في إثراء المشهد الثقافي الكويتي والعربي.
كما تطرق الدكتور الغنيم الى مركز البحوث والدراسات الكويتية وعن الوثائق التاريخية واهميتها مشيرا الى فترة الغزو العراقي على الكويت وجمع عدد كبير من الوثائق في تلك الفترة التي توصلوا من خلالها الى العديد من الحقائق، مبينا ان هناك العديد من الكتب التي صدرت بناء على تلك الوثائق.
ويأتي اختيار الدكتور عبدالله الغنيم شخصية المعرض في دورته الـ47 تقديرا لعطاءاته الثقافية والعلمية الممتدة على مدار عقود ودوره في إثراء المكتبة الكويتية والعربية بمؤلفاته القيمة.
يذكر ان الأستاذ الدكتور عبدالله الغنيم محاضر وباحث مميز في مجال الفكر الجغرافي العربي وجيومرفولوجية شبه الجزيرة العربية وقد درس في هذين الموضوعين سنوات عدة تسنم خلالها مناصب مختلفة.
وشغل الدكتور الغنيم العديد من المناصب سابقا فكان رئيسا لقسم الجغرافيا ثم عميدا لكلية الآداب بجامعة الكويت وترأس تحرير مجلة دراسات الجزيرة العربية والخليج التي تصدرها جامعة الكويت وعمل مديرا لمعهد المخطوطات العربية ووزيرا للتربية ووزيرا للتعليم العالي.
وغاص الدكتور الغنيم في أعماق تاريخ الكويت وتراثها الحضاري بعد توليه رئاسة مركز البحوث والدراسات الكويتية منذ عام 1992 حتى الآن.