قوة القانون في التنازع بالقوة
تاريخ النشر: 11th, February 2024 GMT
عمر العمر
بعد عشرات الكتب ،الكراسات والمقالات ذات القيمة المرجعية في تاريخنا السياسي المعاصر عاد الأستاذ فيصل عبد الرحمن علي طه ليخرج لنا سفرا بحثياً قيّماً جاوز عمره نصف القرن .ذلك هو أطروحته الأكاديمية لنيل الدكتوراه في القانون الدولي في جامعة كيمبريدج. مع ذلك يشكل الكتاب مرجعية لاغنىً عنها للباحث في تاريخ ،حاضر ومستقبل إحدى قضايانا الوطنية الساخنة.
*****
حتى لا يصدر حديثي في شأن الكتاب عن ألفة ومحبة فإني أستعين بما كتب الأستاذ الموقر صالح فرح مستشار الراحل المقيم الشيخ زايد بن سلطان في حق دكتور فيصل .العم صالح- زاده الله سنيناً ومنعة- قال في كتابه النادر ( خواطر) الصادرة طبعته الثانية والأخيرة في العام ٢٠١٥ في شأن فيصل)رجل قانون ضليع استفاد من علمه القانوني واطلاعه الواسع وتجاربه في التأليف ليقدم مرافعة من طراز رفيع.) مع أن ذلك التقريظ صدر في حق كتاب سابق للمؤلف إلا أنه يطابق تماما السفر الحديث.للبروفيسور فيصل أكثر من كتاب عن مسألة الحدود. من ذلك(القانون الدولي و منازعات الحدود)١٩٩٩ و(تسوية النزاع الحدودي بين السودان و إثيوبيا)٢٠٢٢.لكن الإصدار الجديد يشكل أهم أمهات القضية.
*****
هذا السفر يسلط الضوء على بُعْدٍ مهملٍ في السرد التاريخي المتداول.فبينما يتناول المؤرخون والدارسون التاريخ من موازين قانون القوة يُشرّح استاذنا الصراع بمنطق قوة القانون.فالثورة المهدية -مثلا-شكّلت وضعا مبهما لدى جميع الأطراف المعنية من حيث تكييف وضع السودان قانونيا. رؤى الأطراف تباينت بين اعتباره اقليما تركيا تحت سيطرة قوة عسكرية متمردة، دولة مستقلة و أرض لا سيادة عليها! هذا الغموض فتح الأفق أمام تنازع بريطاني ، فرنسي ،إيطالي، ألماني تركي بلجيكي على حوض وادي النيل بأكمله.اللبس القانوني اكتنف كذلك الحقوق المصرية البريطانية تجاه حملة الفتح ثم السيادة إبان إدارة الحكم الثنائي في السودان بعد الاسترداد.
*****
التازع الحدودي ليس استثناءا سودانيا إثيوبيا بل أزمة أفريقية غالبة ظلت تهدد وحدة وسيادة الدول كما تؤرّق علاقات الجوار.فالحدود القُطرية في القارة تولت ترسيمها القوى الاستعمارية متجاهلة عددا من الحقائق لعل أبرزها وحدة القبائل الساكنة على خطوط التماس .رغم ذلك لم تجد حكومات دول القارة بُدّاً في العام ١٩٦٤من ارتضاء الاعتراف بالحدود كما ورثتها عشية استقلالها.لكن ذلك التبني الجماعي لم يُسكن التنازع على حدود الأقطار بل التهب على عديد من الخطوط المشتركة.فالواقع على الأرض يبقى – كما يوضح المؤلف -أكثر تأثيرا من الاتفاقات المنبثق ذلك الواقع عنها.
*****
مؤرخنا الحقوقي يؤصّل محاولات تسوية النزاع السوداني الإثيوبي إلى مفاوضات بين الإمبراطور الإثيوبي منليك والمندوب البريطاني في أديس أبابا هارينغتون منتصف إبريل ١٨٩٩.تحديثات عدة طرأت على ذلك الاتفاق في أزمان متباعدة و بين أطراف متباينة ،تداخلت فيها إيطاليا واتسعت لجهة الحدود السودانية الإريترية حتى التوقيع عليها منتصف مايو ١٩٠٢. بعد ذلك برزت قضية فنية شائكة تتمثل في أهمية الفرز بين مصطلحي ترسيم الحدود وتعيينها على الأرض.الاتفاق اشتمل كذلك على مسائل حيوية ترتبط بحياة الناس .من ذلك توفير الصحة ،التعليم ، الجمارك وتأمين الطرق بالإضافة إلى الإدارة المحلية والإحصاء السكاني.
*****
مسلسل النزاع السوداني الإثيوبي لم يتوقف .كذلك تواصلت محاولات التسوية مع انفجارات نوبات التوتر في أشكال أبعد من النزاع على الأرض .إذانطوى بعضها على أبعاد سياسة بينها تحريض عناصر معارضة للأنظمة الحاكمة في الخرطوم وأديس أبابا. ربما كانت المذكرة المتبادلة بين الجانبين في العام ١٩٧٢ أفضل المحاولات للخروج بالحدود من دائرة التنازع إلى رحاب التعاون .مثلث الفشقة ظل يشكل عظم النزاع الثنائي استنادا إلى ثقله الاقتصادي مع ان اثيوبيا لم تزعم ملكيتها عليه!
*****
الكتاب يتميز بالعديد من الوثائق التاريخية والخرائط الجغرافية مما أغنى ثرائه المرجعي. كذلك يوفر الكتاب حقلا خصبا في اللغة الإنجليزية يعين الراغبين في زيادة غلتهم من مفردات الأدب السياسي.تلك كانت وصية البروفيسور لي مهاذرا بغية تحريضي على قراءة النسخة المهداة – له الامتنان – لكني وجدتها نصيحة ينبغي أخذها على محمل الجدية ،بل تستوجب التعميم. الوسومعمر العمر
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: عمر العمر
إقرأ أيضاً:
اللاجئون السودانيون في تشاد ـ إرادة البقاء في ظل البؤس
بسبب الحرب الطاحنة في السودان، يهرب الكثير من السودانيين إلى الجارة تشاد التي تعاني هي الأخرى من ويلات الفقر، تعتبر معاناة اللاجئين السودانيين من أكبر الأزمات المنسية في العالم، تقرير من منطقة الحدود السودانية التشادية.
مريم أنقذت حياتها ووصلت إلى هدفها - بعد جهد جهيد. وها هي تعبر الحدود إلى تشاد هاربةً من السودان المنكوب بالحرب. وقد أخذت معها في عربة صغيرة جميع الأشياء التي ما تزال تملكها حتى الآن. وهذه الشابة السودانية هربت من الجحيم. وهي لا تستطيع الآن الحديث حول ذلك. وتقول: "والله، البلد كله مدمر".
وفي وطنها السودان، يشتعل صراع على السلطة بين طرفين متحاربين مدججين بالسلاح:الجيش السوداني و"قوات الدعم السريع" شبه العسكرية. ومنذ نيسان/أبريل 2023، ينشر المحاربون العنف والإرهاب في جميع أنحاء السودان - ويقضون على قرى بأكملها ويغتصبون أمهات وبناتهن، بالإضافة إلى تدميرهم الحقول ونهبهم المواشي. وكذلك يتعرض الرجال للتعذيب والقتل، ويتم تجنيد الأبناء تجنيدًا إجباريًا واختطافهم. عنف لا يُصدّق ونهايته لا تلوح في الأفق.
هروب إلى الفقر
معبر أدري هو المعبر الرئيسي على الحدود بين السودان وتشاد. يقف على الجانب السوداني ثلاثة جنود مسلحين ويوجد أمامهم حجر حدودي. وهم لا يعبؤون باللاجئين ويتركونهم يعبرون من أمامهم. ويوجد هنا في منطقة الحدود بين البلدين جسر مدمر، كان من المفترض أن يصبح جزءًا من شارع متطور - من أجل تجارة مزدهرة بين الجارتين. ولكن الأمور سارت بشكل مختلف. والآن يعبر الحدود كل يوم مئات الأشخاص على هذا الطريق الطيني الأحمر.
ويزداد عددهم كلما زادت شدة العنف في السودان. إذ يبلغ عدد النازحين السودانيين أحد عشر مليون شخص، معظمهم نازحون داخل بلدهم. أما تشاد فقد استقبلت حتى الآن مليونًا ومائة ألف لاجئ سوداني.
وتعد تشاد واحدة من أفقر دول العالم وتعاني من مشكلات هائلة. فتغير المناخ له عواقب وخيمة هنا. ويشهد هذا البلد الإفريقي فيضانات شديدة تليها فترات جفاف قاسية. وثلث الناس هنا يعيشون في فقر مدقع، أي بأقل من دولارين وخمسة عشر سنتًا في اليوم.
استغلال جنسي للهاربات السودانيات في تشاد
"عبء يفوق طاقة أي دولة"
يتم أولًا تسجيل مريم في نقطة الاستقبال التابعة للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في أدري. وبعد ذلك تسير بضعة كيلومترات إلى معسكر انتقالي. وينتظرها هناك أطفالها الخمسة. تعتبر أدري في الواقع بلدة صغيرة يبلغ عدد سكانها 40 ألف نسمة، وتستضيف الآن مخيمًا مؤقتًا للاجئين يعيش فيه 230.000 شخص. وتمتد فيه حتى الأفقخيم مقامة مؤقتًا بأغطية وقطع بلاستيكية. ولا يوجد هنا سوى النساء والأطفال تقريبًا.
لقد سافرت وزيرة التنمية الألمانية سفينيا شولتسه إلى هذه الحدود. وذلك بهدف تسليط الضوء على ما تصفه الأمم المتحدة بأزمة اللاجئين الأكبر والأسرع نموًا في العالم. ووعدت بتقديم 57 مليون يورو كمساعدة إضافية من ألمانيا. وهذه الأموال يمكن لمنظمات الإغاثة أن تستخدمها مثلًا من أجل تطوير إمدادات الكهرباء والمياه على المدى الطويل.
وحول ذلك تقول سفينيا شولتسه إنَّ: "وجود مثل هذا العدد من اللاجئين يُحمّل أي دولة أكثر من طاقتها. ولا يمكن لأية منطقة أو دولة أن تتغلب على هذا العبء بمفردها. ولهذا السبب يجب على المجتمع الدولي أن يبدي تضامنه هنا". ويجب عليه تقديم دعم أكبر إلى تشاد، بحسب نداء سفينيا شولتسه.
وتعتبر تشاد شريك صعب. فعندما توفي الدكتاتور التشادي إدريس ديبي بعد حكمه البلاد لفترة طويلة، ظلت السلطة في أسرته. فقد تم انتخاب ابنه محمد إدريس ديبي رئيسًا للبلاد في انتخابات مثيرة للجدل في نيسان/أبريل 2024. وهو يحكم تشاد حكمًا مطلقًا بيد من حديد. ولذلك يعيش المعارضون والصحفيون هنا بخطر.
وتراهن الحكومة التشادية على حلفاء جدد بالإضافة إلى شريكتها الاستراتيجية الأهم، أي القوة الاستعمارية السابقة فرنسا. فهي تراهن مثلًا على دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تدعم حكومة تشاد بقروض مناسبة وبدعم الميزانية.
فهل تشاد تفتح حدودها للاجئين القادمين من السودان وكذلك لنقل شحنات أسلحة إلىالسودان؟. "ليس سرًا أنَّ دولة الإمارات العربية المتحدة تزود السودان بالأسلحة عبر تشاد"، كما يقول أولف ليسينغ، رئيس البرنامج الإقليمي لدول الساحل في مؤسسة كونراد أديناور الألمانية: "يجب فرض حظر على الأسلحة. ويجب على روسيا والإمارات التوقف عن توريد الأسلحة إلى السودان. وقبل ذلك، لا يوجد لمحادثات السلام أي معنى"، كما يقول أولف ليسينغ.
أوضاع إنسانية وصحية كارثية للاجئين السودانيين في تشاد
الوزير يقسم أنَّه لا يعرف
يقف وزير خارجية تشاد عبد الرحمن كلام الله عند باب مكتبه في العاصمة نجانيما. ولديه مؤتمر صحفي قصير معضيف قادم من ألمانيا. ويسأله الضيف: ماذا تفعل بلاده لكي لا تصل الأسلحة عبر تشاد إلى السودان؟ وردًا على ذلك أقسم زير الخارجية قائلًا: "أنا شخصيًا لا أعرف أي بلد ينقل أسلحة إلى هناك. وأشهد هنا أمام الله أنني لو كنت أعرف ذلك سأقوله".
وبعد ذلك بقليل، قال بالدال أويامتا حول قَسَم الوزير: "ما هو الجواب الذي تتوقعينه؟ الوزير يحمي مصالحه". وبالدال أويامتا هو المنسق الوطني لرابطة حقوق الإنسان في تشاد. وهو يعرف جيدًا كيف تتعامل الحكومة مع منتقديها. ويقول: "التعامل مع اللاجئين شيء. ولكن المصالح السياسية والمصالح العسكرية شيء آخر".
قطعة أرض من أجل البقاء
وتحاول في شرق تشاد، على الحدود مع السودان، منظمات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة منح اللاجئين القادمين من السودان آفاقًا طويلة الأمد. وقد أقامت هذه المنظمات في جميع أنحاء تشاد 21 مخيمًا للاجئين - يتسع كل منها لخمسين ألف شخص. ومن الصعب جدًا العثور في المناطق القاحلة والمتربة على مواقع مناسبة للمخيمات، كما يقول بيير كامارا من مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
وذلك بسبب عدم وجود أية بنية تحتية. "كل شيء يجب بناؤه من لا شيء، وهذا عمل صعب جدًا". حيث لا توجد إمدادات مياه وكهرباء ورعاية صحية ومدارس - وفي الوقت نفسه تم التعهد بتقديم 29 بالمائة فقط من أموال المساعدات الدولية المطلوبة بسرعة. هذه أزمة منسية. "لا يوجد ما يكفي من أجل توفير ظروف معيشية كريمة"، كما يقول بيير كامارا. ويضيف أنَّ هناك حاجة ماسة إلى بناء خمسة مخيمات أخرى للاجئين على الأقل.
وزيرة التنمية الألمانية سفينيا شولتسه مع وزير خارجية تشاد عبد الرحمن كلام اللهوزيرة التنمية الألمانية سفينيا شولتسه مع وزير خارجية تشاد عبد الرحمن كلام الله
وتعمل وكالات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة بشكل وثيق مع حكومة تشاد، التي تقدم للاجئين قطع أراضي يمكنهم أن يزرعوا فيها طعامهم حول المخيمات. وفي هذا الصدد يقول ألكسندر لو كوزيات، نائب مدير برنامج الأغذية العالمي: "نحن نساعدهم على استغلال الأراضي وزراعة الخضروات وتحقيق دخل". والمجتمعات المحيطة بمخيمات اللاجئين يجب أن تستفيد من ذلك أيضًا. ويجب تمكينهم أيضًا من زراعة المواد الغذائية. ولا بد من تجنب التوترات والخلافات على هذا القليل الموجود هنا.
أمل في العودة إلى السودان
وخلال زيارتها قالت وزيرة التنمية الألمانية سفينيا شولتسه: "للأسف، يجب علينا أن نفترض أنَّ العودة إلى السودان لن تكون ممكنة بالنسبة لمعظم اللاجئين في المستقبل المنظور". ولكن المساعدات الإنسانية أيضًا لا تعتبر حلًا دائمًا: "لهذا السبب فإنَّ منح اللاجئين والمجتمعات المضيفة لهم أراضي واستغلالها كحقول ومراعي يعتبر نهجًا رائدًا جدًا: لأنَّ مَنْ لديه أرض خصبة يمكنه أن يعيل نفسه بنفسه".
والآن يجب على مريم أن ترى كيف ستسير الأمور بعد ذلك بالنسبة لها ولأسرتها في تشاد. وهي لم تفقد الأمل في تمكنها من العودة يومًا ما إلى وطنها السودان. وتقول إنَّ هذه هي أمنيتها الكبرى.
كتبت: كاتارينا كرول
وكالة الأنباء الألمانية
أعده للعربية: رائد الباش