أود في البداية أن أعتذر عن الخطأ الذي حصل بشأن تسلسل هذه الحلقات، فقد وقع سهوا الأسبوع الماضي ونشرت في هذا الزاوية المتواضعة المقال رقم (7) في الوقت الذي كان يفترض نشر هذا المقال الذي يحمل رقم (6)، باعتباره حلقة الوصل الأساسية بين هذه المقالات التي تحمل العنوان الفرعي التالي:

الآلات الوترية العودية:

في المقالين السابقين أوضحت أن الآلة العودية الأقدم استعمالا -ولم تصنع في عُمان- هي عود القمبوس أو القنبوس الذي كان يعرف قبل شيوع هذه التسمية بالمزهر في الجزيرة العربية.

وأعني بالآلات العودية -كما ذكرت سابقا- هي تلك الآلات التي يتم استخراج الدرجات النغمية منها عبر قسمة الوتر، وهي آلات كثيرة الأنواع والأحجام وتطورت صناعتها تطورا كبيرا منذ أكثر من خمسة آلاف عام، كان آخر هذه الآلات ما يعرف بالعود الكامل أو عود زلزل، وهو العود الذي بدأ ينتشر بين العازفين والمطربين العُمانيين منذ بداية القرن العشرين على الأقل، وهو أكبر حجمًا، وتختلف طريقة صناعته عن عود القمبوس. والعود الكامل يستورد من صنَّاعِهِ في العراق والشام ومصر وكذلك أوتاره.

ومساحة العود الكامل الصوتية أوسع من عود القنبوس ويمكن استخراج منه أكثر من ديوانين موسيقيين حسب أسلوب العزف ومهارة العازفين. أما مبتكر هذا العود فهو كما يقال منصور زلزل أشهر عازف عود في القرن الثامن الميلادي في مدينة بغداد، وفكرته تقوم على صناعته تركيبا من أجزاء مختلفة، وليس من قطعة خشبية واحدة كما هو الحال مع المزهر ثم القمبوس.

عود المزهر وأقدم تخت موسيقي عُماني:

أما عود المزهر كما ذكرت آلة موسيقية قديمة جدا وشائعة في مختلف بقاع الجزيرة العربية منذ قبل، وظلت مستعملة باسمها هذا قرونا طويلة ثم بالقنبوس أو القمبوس. لذلك نجد ذكر هذه الآلة الوترية الأصيلة وأنواع أخرى من الآلات الموسيقية الوترية في نصوص الشعر الجاهلي من ذلك مثلا -لا حصرا- ما ذكره الأعشى ميمون (حوالي القرن السادس الميلادي) والمعروف بصناجة العرب «يمدح رهط قيس بن معديكرب» وهو الأشعث بن قيس الكندي في حضرموت:

وشاهِدُنا الوردُ والياسمينُ..

والمُسمِعاتُ بِقُصّابِها

ومِزهَرُنا مَعْمَلٌ دائمٌ..

فأيّ الثلاثَةِ أُزْرَى بِها

وهنا نص آخر للأعشى أيضًا أورده صاحب المصدر السابق «يشير إلى إحدى قيان حضرموت في قصيدة يذكر فيها بعض ممدوحيه ومطارح ترحاله» من الشام والعراق إلى عُمان واليمن، وطبعا ذكر لآلة المزهر:

وَصَحِبنا من آلِ جَفنةَ أمْلاكًا..

كرامًا بالشّأم ذات الرّفيفِ

وبنَي المُنذِرِ الأشاهب بالحيرَة..

يَمشُون غدوةً كالسّيوفِ

وجُلنداء في عُمانَ مقيمًا..

ثم قيسًا في حضرموت المنيفِ

قاعدًا حولهُ النَّدامَى فما يَنْفَكُّ..

يُؤتَى بِموُكرٍ مَجْدوفِ

وصَدوحٍ إذا يُهَيّجُها الشّربُ..

ترَقّت في مِزهَرٍ مَنْدوفِ

***

القصبة والمِزهَر أساس طرب الآلة التقليدي:

وهاتان الآلتان القصبة والمِزهَر المذكورتان في النصين الشعريين أعلاه من الآلات التاريخية في الموسيقى العُمانية والجزيرة العربية، وأساس فرقة طرب الآلة التقليدي أو ما يمكن أن أسميه أيضا بفرق موسيقى التخت، وهذه الفرق الطربية تتكون من آلات إيقاعية ووترية وهوائية، وكانت موجودة في مدينة صلالة العُمانية وأشهرها فرقة بيت توفيق التي لا تزال تحتفظ بالآلة الهوائية القصبة فيما اختفت آلة المزهر، وكذلك الحال مع فرقة الزربادي في حضرموت كما لاحظنا في نص الأعشى أعلاه. أما فرقة بيت شمسه في مدينة مرباط، فقد تخلت عن الآلتين الوترية والهوائية وتحتفظ بالآلات الإيقاعية فقط، وكذلك في قريات وجميع هذه الفرق تؤدي فنًا غنائيًا واحدًا هو الشرح والبرعة كما يسمى في ظفار عُمان، والزربادي في حضرموت وتتوارث أصواتهما عبر الأجيال.

وقالب الشرح الفني يتركب من صوتين وبحركتين مختلفتين في السرعة عند بيت توفيق هما: صوت القصبة، وصوت القنبوس (سياري)، وخاتمهما البرعة. وآلات الشرح قديما: آلة المزهر/القنبوس، وآلة القصبة، والمرواس وطبل المهجر، وهذه الفرق انقرضت أو كادت تنقرض لشدة الإهمال وضعف الوعي بأهميتها ومكانتها في تاريخ الغناء العُماني. والشرح كما يعرف في مدن صلالة ومرباط وقريات هو الفن الغنائي الذي تفرع عنه ما يعرف بالصوت الخليجي، وهو الزربادي في حضرموت. وتؤدى أصوات الشرح بأسماء وأساليب مختلفة في عُمان وحضرموت والخليج وشرق إفريقيا وشرق آسيا وهي أهم القوالب الفنية المشتركة لآلة العود بنوعيها المشار إليهما في هذه المنطقة كلها، وانتشر بواسطة المهاجرين بحارة السفن التجارية في جميع البلاد المطلة على المحيط الهندي والخليج العربي. من هنا تقع أهمية دعوة الكاتب إلى الجهات المعنية في بلادنا الغالية إلى إعادة تأسيس هذه الفرق ورعايتها رعاية مباشرة وتسجيلها في سجل للتراث الموسيقي العُماني مع آلاتهما التاريخية كأقدم فرق عودية تقليدية عُمانية.

تفسير كلمات، ومصادر اقتباسات المقال ومراجعه:

المُسمِعاتُ: العازفات المطربات.

بقُصّابها: وهي آلة القصبة من أنواع المزامير، ولا تزال تستعمل في مدينة صلالة في أداء الشرح، والزربادي في حضرموت.

مَندوف: اسم مفعول من نَدَفَ. والنّدف صوت العود في حجر الكرينة، والكرينة بطن العود الخشبي. (المصدر: موقع المعاني لكل رسم معنى الإلكتروني). وجاء أيضا في المعجم الوسيط الإلكتروني: النَّدَّافُ؛ العوّادُ يضرِبُ بِمِزْهَره.

اقتباسات المقال من كتاب بعنوان: «القيان والغناء في العصر الجاهلي» للدكتور ناصر الدين الأسد

دراسة سابقة بعنوان: «آلة العود في الجزيرة العربية دراسة تاريخية» لكاتب هذا المقال.

مسلم الكثيري موسيقي وباحث

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذه الفرق فی حضرموت فی مدینة

إقرأ أيضاً:

التسعيرة تتضاعف والتسديد يتوقف.. حضرموت تعيش أزمة ”يمن 4G”

التسعيرة تتضاعف والتسديد يتوقف.. حضرموت تعيش أزمة ”يمن 4G”

مقالات مشابهة

  • عودة الحياة الأدبية إلى ساحل حضرموت بعد توقف طويل
  • كامل الوزير: تسهيلات مالية للمصنعين لشراء الآلات والمعدات والمواد الخام
  • جلسة حوارية بظفار تستعرض دور الحرف الظفارية في صناعة الهوية العمانية
  • نقل تجربة الأحساء في الري الحديث لـ «موارد المياه العمانية»
  • التسعيرة تتضاعف والتسديد يتوقف.. حضرموت تعيش أزمة ”يمن 4G”
  • أوسارا العمانية توقع اتفاقية مع الهيئة السعودية للمدن الصناعية ومناطق التقنية
  • "ثربانتس" يستضيف انطلاق الدورة الثانية من مهرجان شعر البحر المتوسط
  • أبوظبي تستضيف أول معرض للإلكترونيات الاستهلاكية في الشرق الأوسط بمشاركة 200 علامة تجارية من الصين
  • كلية مبارك العبدالله للقيادة والأركان المشتركة تستقبل وفدا عسكريا من كلية القيادة والأركان العمانية
  • عودة 12 صيادًا يمنيًا إلى حضرموت بعد احتجازهم في الصومال